بعد مسلسل انسحاب الولاياتالمتحدةالأمريكية من الاتفاقيات والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان، لم يعد أحد يشك أن الغرب اتخذ من حقوق الإنسان طيلة فترة الحرب الباردة مطية للوصول إلى أغراضه السياسية والاقتصادية والإستراتيجية ليس إلا، وعاد الغرب لأصله وهويته كما عهدناه في الحروب والمجازر التي ارتكبت بأوروبا، وعلى رأسها الحرب الثلاثون والثمانون عاما، والحرب العالمية الأولى والثانية، والحروب التي شنتها على المستعمرات مخلفة ملايين القتلى والجرحى والمعاقين، نتيجة استعمال أسلحة محرمة دوليا، فضلا عن نهب ثروات شعوب العالم وشراء ذمم الحكام، وأصحاب القرار في الدول النامية قصد استمرار وجود الاستعمار بأساليب أقل تكلفة. جراء سقوط جدار برلين مباشرة، أعلنت الولاياتالمتحدةالأمريكية أن الأممالمتحدة أصبحت عائقا أمام التنمية والقانون الدولي، رغم أنها من الأعضاء الأصليين المؤسسين لهذه المنظمة، إذ على أرض الولاياتالمتحدة تم توقيع ميثاق هذه المنظمة، إلا أن السياسة الأمريكية ومن خلال ما عهدناه من أفلامها الهوليودية، فإنه يتم التخلص من العميل بمجرد انتهاء مهمته، وهذا ما أريد للأمم المتحدة بمعية كل المؤسسات والمنظمات الدولية، خاصة المدافعة عن حقوق الإنسان ؛ فبالأمس هيئت هذه المنظمات والمؤسسات لإحراج الاتحاد السوفياتي العدو الأول والأخطر للولايات المتحدة، بينما اليوم أصبحت عدوة لإسرائيل مما يستدعي القضاء عليها، واستبدالها بنظائرها التي تتماشى والمصالح الإسرائيلية. دشنت الولاياتالمتحدة سياساتها في ظل النظام العالمي الجديد بممارسات وأساليب لا تمت بصلة للقانون الدولي ولا للعلاقات الدولية: كالحروب الاستباقية التي لا تأخذ الإذن من مجلس الأمن، ولا من الجمعية العامة للأمم المتحدة لإعلان الحرب، إلى جانب الفوضى الخلاقة، والحروب المقدسة، وصراع الحضارات، والعقوبات الذكية التي لم تكن معروفة في قاموس القانون الدولي والعلاقات الدولية. إلى جانب ما دشنه الرؤساء الأمريكيون، بدءا من جورج بوش الأب وانتهاءا بأوباما اللذين باركا أطروحات نهاية التاريخ، وصدام الحضارات، مع تحديد الساحة الجديدة لترويج النظام العالمي الجديد، بإعلان الحرب على أفغانستان والعراق والصومال، وبتحديد الإيديولوجية الجديدة التي تعوض الفكر الماركسي والإشتراكي باعتبارها تشكل خطرا على القيم الإنسانية، والغرب، وحقوق الإنسان، مستعملين الجماعات الإرهابية لتبرير التدخل في شؤون الدول، وإضفاء الصفة الدينية على الحروب المعلنة، جاء دور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حينما هيئت له الأرضية ليتخلص من أي التزام دولي في جميع الميادين وبالخصوص اتفاقيات حقوق الإنسان. لقد دشن الرئيس دونالد ترامب عهده بالانسحاب من منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو" يوم 12 أكتوبر 2017 أي بعد عشرة أشهر من توليه الرئاسة، وهذا المطلب كان بالأساس إسرائيليا، لكون المنظمة قبلت عضوية دولة فلسطين إثر تصويت كاسح للمؤتمر العام الذي عارضته 14 دولة فقط، ورفع العلم الفلسطيني بعد شهر من ذلك فوق مقر المنظمة. ولقد رحب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو بقرار الولاياتالمتحدة الانسحاب من اليونسكو قائلا: " هذا القرار شجاع وأخلاقي لأن منظمة اليونسكو أصبحت مسرح عبث، وبدلا من الحفاظ على التاريخ قامت بتشويهه"، كما أمر نتانياهو وزير الخارجية الإسرائيلي بتحضير انسحابه من المنظمة تيمنا بالولاياتالمتحدةالأمريكية. جاءت الخطوة الثانية للرئيس ترامب بالانسحاب من اتفاق باريس، وهو أول اتفاق عالمي بشأن المناخ، تم اعتماده في اختتام مؤتمر باريس للتغيير المناخ يوم 12 ديسمبر 2015 حيث اتفقت وفود 196 دولة حاضرة في المؤتمر، منها روسيا، على منع ارتفاع معدل درجات الحرارة على الكرة الأرضية، وإبقائها دون درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي، حتى عام 2100، وهو انسحاب يشكل انتكاسة للجيل الثالث لحقوق الإنسان، ببقاء الولاياتالمتحدة غير معنية بمشاكل المناخ والاحتباس الحراري رغم كل نداءات المجتمع الدولي والمنظمات الدولية لمعالجتها. أما الخطوة الثالثة للرئيس المذكور فتمثلت في انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي مع إيران والمجموعة 5+1 رغم أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أكدت مرارا أن الحكومة الإيرانية تلتزم بالصفقة محذرة الإدارة الأمريكية من التداعيات الخطيرة لانسحابها، وهذه الخطوة لم تتخذها الولاياتالمتحدة بدافع حفظ السلم والأمن الدوليين، بل بهدف إرضاء إسرائيل وحمايتها من أي تفوق عسكري في الشرق الأوسط. وقد أشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقال في مؤتمر صحفي عقب خطاب هذا الأخير: "أنا وشعب إسرائيل نثمن عاليا قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران..."، مشيرا إلى أن ترامب اتخذ قرارا شجاعا وصحيحا. لقد جاء هذا الانسحاب متوازيا مع توقيت اعتراف الرئيس ترامب بالقدس المحتلة عاصمة للدولة الإسرائيلية، وهي خطوة استفزازية تجاه العرب والمسلمين. كما أتى الانسحاب الأمريكي قبل أيام من بداية نقل السفارة الأمريكية للقدس، بل وقبل أيام من ذكرى النكبة، متزامنا مع تدشين الرئيس الأمريكي لأسلوب جديد في العلاقات الدولية، قائم على أساس الدفع للولايات المتحدة مقابل الحماية، وهذا ما تأتى لها بعدما استسلمت المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي لأطروحات الرئيس الأمريكي، إذ قامت بدفع أزيد من نصف الترليون دولار للأمريكان مقابل أوهام لا أساس لها سوى الابتزاز، ما أصبح معه العالم بيد حكومة عالمية تماما مثل الشركات الأمنية التي لا تراعي أي اهتمام للقانون الدولي أو لحقوق الإنسان، كما يعطي هذا الوضع الانطباع بأن العالم سوف تختفي فيه الأخلاق ويعود قانون الغاب هو السائد في العلاقات الدولية. ولم تسلم الرياضة بدورها من هذا الأسلوب المبتذل وغير الأخلاقي عندما استعمل الرئيس الأمريكي أسلوب التهديد للدول التي تصوت لصالح الملف المغربي في الترشيح لاستضافة نهائيات كأس العالم لسنة 2026. لا يمكن أن نتغاضى عن الخطوة الرابعة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عندما منع رعايا سبع دول من الدخول إلى الأراضي الأمريكية، مدشنا بذلك عهدا جديدا للعنصرية باسم القانون رغم معارضة القضاء الأمريكي نفسه للخطوة لمخالفتها الأعراف الديبلوماسية والقنصلية والاعتبارات الإنسانية. لقد عبر الرئيس الأمريكي عن موقفه الصارم تجاه قضايا اللاجئين والمهاجرين، واعتبرهم بمثابة مجرمين وحاملي الأمراض، يستوجب منعهم من الدخول للأراضي الأمريكية، إلى حد تحريض الدول الأوربية، خاصة ألمانيا، بدعوى أن اللجوء والهجرة لا تحمل إلا المآسي للشعوب البيضاء، وقد شجع هذا على تنامي العنصرية وصعود الأحزاب المتطرفة في أوروبا بشكل مثير، مما ينذر بمستقبل مظلم. لقد ضرب بعرض الحائط اتفاقية اللاجئين لسنة1950 ، والبروتوكول الملحق بها لعام 1967، واتفاقية حقوق العمال المهاجرين وأفراد أسرهم لعام 1990، بعدما عمد إلى فصل الأطفال عن ذويهم، ووضع المائات من هؤلاء مع قاصرين آخرين وصلوا بمفردهم إلى الحدود المتاخمة، في مراكز إيواء كبيرة قرب الحدود مع المكسيك، دون أن نغفل بأن السياسة الغربية بشكل عام هي التي خلقت الموجات الكبرى للاجئين نتيجة التدخل في الشؤون الداخلية لبلدان الدول النامية. لقد جاءت الخطوة الخامسة، بمثابة المسمار الأخير في نعش حقوق الإنسان،عند إعلان الرئيس الأمريكي انسحاب الولاياتالمتحدةالأمريكية من مجلس حقوق الإنسان يوم الثلاثاء 19 يونيو 2018 ، الذي يعد أكبر مؤسسة دولية تسهر على حماية حقوق الإنسان، بعدما تم تعويض لجنة حقوق الإنسان في 15 مارس 2006 بقرار من الجمعية العامة رقم: 251.60 الذي اعتبر مكسبا كبيرا للحقوقيين ولكل إنسان على وجه الأرض، سيما أنه أصبح تابعا للجمعية العامة وليس للمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، إذ كان يعول على الولاياتالمتحدةالأمريكية في دعم المجلس وليس الانسحاب منه في ظل ظروف غير مشجعة لمواصلة مشوار حقوق الإنسان كما جاء على لسان رئيس المفوضية السامية لحقوق الإنسان. قالت السفيرة الأمريكيةبالأممالمتحدة نيكي هيلي إن بلادها انسحبت من مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية بعدما لم تتحل أي دولة أخرى "بالشجاعة للانضمام إلى معركتنا" من أجل إصلاح المجلس "المنافق والأناني". يمكن أن نلاحظ التناغم بين الخطاب الإسرائيلي والأمريكي باستعمال نفس المصطلحات في مواجهة الشرعية الدولية، أي استعمال "الشجاعة" التي لا تعنى شيئا سوى العمل ضد القانون، والأعراف الدولية، وأن المعركة المقصودة في خطاب السفيرة الأمريكية هي المعركة ضد الشرعية الدولية، وضد الحقائق التاريخية، وباعترافها لم يتفق أحد معها. أما نفاق وأنانية المجلس فلا تعني سوى الدعوة لرؤية الحق باطلا والباطل حقا، لأن القاعدة الإسرائيلية تقول: "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس". ويبدو أن الإدارة الأمريكية مستعدة للقيام بكل ما هو غير مألوف دوليا لمواصلة دعمها لجرائم الصهاينة، ولا تذخر جهدا في هذا المجال، حتى وإن تطلب ذلك خرق جميع المواثيق والمعاهدات الدولية والخروج عنها، بل جاء قرار الولاياتالمتحدة على خلفية اتهام إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لمجلس حقوق الإنسان بأنه ينتهج "الانحياز المعادي لإسرائيل وشن حملة ممنهجة ضدها". إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سارع إلى دعم هذا الإجراء، حيث نشر عدة تغريدات للإشادة بما وصفه "القرار الشجاع". وكانت تقارير إسرائيلية قالت في الأشهر الماضية، إن تل أبيب طلبت من واشنطن الانسحاب من المجلس الأممي، احتجاجا على اعتماده قرارات "مؤيدة للفلسطينيين ومنتقدة لممارسات إسرائيل" في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. من جانب أخر انتقد عدد من الجمعيات الخيرية ومجموعات الإغاثة هذه الخطوة، وقال اتحاد الحريات المدنية الأمريكي إن إدارة ترامب تقود "جهودا مخططة وعدوانية لانتهاك حقوق الإنسان الأساسية". وأدانت منظمة هيومان رايتس ووتش القرار الأمريكي بمغادرة المجلس، ووصفت سياسة الرئيس ترامب في مجال حقوق الإنسان بأنها "ذات بعد أحادي". لكننا لا نستغرب عندما نجد الولاياتالمتحدة وإسرائيل في مقدمة من ينتقد بعض الأنظمة السياسية بدعوى خرق حقوق الإنسان وعدم الامتثال للشرعية الدولية. إن الفترة القصيرة التي حكمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحجم الخطوات التي أقدم عليها تعتبر دليلا قاطعا على أن إسرائيل تحاول أن تحقق كل مكاسبها ومتطلباتها التي فشلت في تحقيقها منذ نهاية الحرب الباردة رغم أن الولاياتالمتحدة استعملت حق الفيتو 43 مرة للتغطية على الجرائم الإسرائيلية، فهي تسارع الزمن لأجل فرض أمر الواقع وإن كان على حساب الشرعية الدولية، أو المصالح الأمريكية، مستغلة التهور الذي يطبع شخص الرئيس الأمريكي، ومحيط هذا الأخير المتكون من اليمين المتطرف ذي الميولات الصهيونية كمستشاره لمجلس الأمن القومي"بولتون" ووزير خارجيته "بومبيو" والمندوبة الأمريكية في الأممالمتحدة، "نيكي هيلي". لقد عاينا عزلة كبيرة للولايات المتحدةالأمريكية من خلال المواقف التي عبرت عنها جل دول العالم، بل هناك عدد كبير من المواقف التي جاءت من أقرب حلفاء الولاياتالمتحدةالأمريكية كبريطانيا، وكل دول أوروبا، وكذلك معارضة الحزب الديمقراطي الأمريكي للخطوات التي ينتهجها الرئيس ترامب، ناهيك عن الأصوات التي تعالت من داخل الحزب الجمهوري معلنة عدم رضاها على مواقف الرئيس الأمريكي التي تمس بالشرعية الدولية وسمعة الولاياتالمتحدة، مما يفسر مدى الغطرسة الإسرائيلية في دفع العالم نحو المجهول وحرب عالمية أو الرجوع بالعالم إلى القرون الوسطى، وهنا يطرح السؤال بشكل ملح عن مدى تأثر حقوق الإنسان بهذا الوضع في حالة فوز الرئيس ترامب بولاية ثانية وصعود الأحزاب اليمينية والمتطرفة في الدول الأوروبية؟ إن درس ما يسمى الربيع العربي كان له تأثير في السياسة الأمريكية والإسرائيلية في اتخاذ هذه المواقف، والذي أعطى إشارات بأن الديمقراطية وحقوق الإنسان يمكن أن تقلب قواعد اللعبة على المستوى الدولي إذا ما حصلت الشعوب الإسلامية على تقرير مصيرها، مما دفع بالنظام العالمي الجديد لإجهاض هذه الشحنة الحقوقية بالعالم الإسلامي، التي انطلقت من تونس ربيعا أصبح خرابا ومآسي بعد تدخل القوى العظمى، ويؤكد ذلك دخول الدول الكبرى أطرافا في النزاعات المسلحة سرعان ما تحولت إلى تصفية حسابات قديمة على حساب دماء الشعوب واستقرارها. وفي خضم هذه الردة الحقوقية على الطريقة الأمريكية، قامت بعض الدول العربية بانتهاك سيادة بلدان شقيقة، كما قامت دول أخرى بالتراجع عن المكتسبات الحقوقية والرجوع إلى أسلوب القمع والاعتقال في مواجهة الاحتجاجات، بعدما حصلت على ضمانات من الدول الداعمة لحقوق الإنسان في مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية. وهذا دليل على أن العالم العربي والإسلامي لا يراد له أن يحكم باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان ما دامت هذه الخطوات التي أقدمت عليها الولاياتالمتحدة تتغيا تأجيل مسيرة حقوق الإنسان إلى وقت لاحق، بعد إعلان ترامب أن "أمريكا أولا" وأن المساس بإسرائيل "خط أحمر". *باحث في القانون الدولي.