حمل خطاب العرش لهذه السنة على غرار سابقيه رسائل ملكية جديدة تساهم مرة أخرى في رسم معالم التوقعات السياسية المطلوبة من الكيانات السياسية المؤثرة في دوائر صنع القرار السياسي والإداري محليا ووطنيا. وتأتي الأحزاب السياسية المغربية على رأس هذه المؤسسات التي ظلت خارج سياق التحولات المجتمعية والسياسية والاقتصادية العميقة التي يعرفها المجتمع المغربي، وغدت قاصرة عن استيعاب مظاهر التغيير التي عرفها مع كل الطفرات المعرفية والنفسية والتكنولوجية الهائلة التي أصبحت تجذب عقلية وسلوك الشباب المغربي. حاول الملك في رؤيته الناقدة وضع الأحزاب مرة أخرى في مواجهة تحديات التحديث وتطوير أدائها وأساليب عملها واستقطاب نخب جديدة والعمل بمنطق المؤسسة المقاولة وليس بمنطق المؤسسات الأبوبة الباترمونيالية الذي ألفته منذ مدة من خلال تركيزها على فكر التماهي مع القيادات السياسية بما يشبه علاقة الشيخ بالمريد واتباع شيخ القبيلة، دون النظر الى هيكل الممارسة الديمقراطية في حد ذاتها والانتصار لقيم المواطنة الحقة ولعب دور الوساطة بين السلطة السياسية والمجتمع. كائنات دستورية خارج السياق يعمل الحزب السياسي، طبقا لأحكام الفصل 7 من دستور 2011، على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام. كما يساهم في التعبير عن إرادة الناخبين ويشارك في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية. لهذه العوامل أنشأت الأحزاب في الأنظمة الديمقراطية لتدبير الشأن العام ولتكون الصدى الطبيعي لاهتمامات وشواغل المواطن اليومية والمصيرية. يقر أغلب المهتمين بالشأن السياسي المغربي بأن مراكز القوى ومن يحوم حولها تمكنت باستخدام أسلوب الولاء حينا والإقصاء والتهميش أحيانا من تحجيم المؤسسات الحزبية وتقليم أظافرها وتجريدها من أدوارها من جراء التجاذبات السياسية والصراع على تقاسم السلطة، وذلك عبر وسائل الترغيب والترهيب والاختراق والانشقاق. بيد أن تراجع الأداء الحزبي المغربي في العقدين الأخيرين يعود أيضا وربما بدرجة أكثر حدة إلى ممارسة الهيئات الحزبية نفسها، التي رضخت بإرادتها وطرق تدبيرها التقليدي لمسلكيات سياسوية هجينة، وفضلت الانشغال بالمصالح والقضايا الضيقة على حساب القيم الوطنية الداعية إلى الديمقراطية والعدالة والحرية والكرامة الإنسانية. ومعلوم أن الفضاء السياسي المغربي الراهن يضم ما يناهز 35 حزبا، الغالبية المطلقة منها غير معروفة من قبل المواطن المغربي، ولا يسمع عنها إلا أثناء "الحملات الانتخابية" و"الاستحقاقات" البرلمانية والجماعية، وبالتالي فهي عبء على كاهل الوطن، واستنزاف مادي ومعنوي لا طائل من ورائه، بل إن عدمها أفضل ألف مرة من وجودها. غياب وظائف الأحزاب بهذا المنطق، غابت الأحزاب عن المشهد السياسي والمجتمعي وظل سقف توقعاتها من مراجعة الدستور سنة 2011 أقل بكثير من مساعي المؤسسة الملكية في تنزيل الإصلاحات الدستورية التي استهدفت صميم ممارسة السلطة، وأضافت صلاحيات جديدة لكل المؤسسات الدستورية، وعلى رأسها مؤسسة رئيس الحكومة. وأثبتث الأحزاب المشاركة في الحكومة والتدبير المحلي وعلى رأسها العدالة والتنمية مرة أخرى فشلها الذريع في الانتصار لمنطق المؤسسات وظلت تمارس نظام الكولسة والتقاطبات والصراعات المجانية التي أفرغتها من محتواها. لقد تحولت هذه الأحزاب الى هياكل للإرتقاء الاجتماعي والاحتماء بالجماعة السياسية للدفاع عن المصالح الضيقة بالنسبة للبعض، واعتبارها حدائق خلفية وضيعات عائلية تتم التزكية فيها وفق منطق تراتبية الأسرة والعشيرة والدوائر المقربة منها، مع منح التزكيات لمن يستطيع دفع ثمنها، وهذا ما أنتج ثقافة الاستغلال والريع السياسي وتحول البرلمان والمجالس المنتخبة الى مؤسسات يتواجد فيها الاب الى جانب الزوجة والابن والبنت وغيرهم من الأقارب، دون أن تنجز الأحزاب وظائفها الأساسية باعتبارها الجسر الحقيقي للانتقال نحو مسارات الديمقراطية، والضامن الرئيسي لتعميق وتقوية المؤسسات الدستورية؛ ما انعكس بشكل سلبي على مستوى الأداء التشريعي وعملية استصدار القوانين والتشريعات المصادق عليها، والتي تكاد توصف بالهزيلة وغير المشجعة. كما تفرز ممارسة الشأن المحلي الكثير من الاختلالات من قبل الشعبويين والجهلة بالقانون من جراء الفشل الذريع في إدارة وحل مآزق التمنية والتشغيل والصحة والنظافة وغيرها من القطاعات التي يكاد المواطن يجمع على عدم قدرة الفاعل السياسي الوطني والمحلي على تقديم صورة ناصعة عن مغرب متحرك ديناميكي ومتجدد. الابتزاز السياسي تحولت الأحزاب المغربية من كيانات سياسية يفترض فيها خدمة المواطن وتعبئته وتكوينه الإيديولوجي والسياسي إلى مؤسسات تتقارب مع المنظومة المخزنية وتنحو في اتجاه ما يرغب فيه النظام السياسي؛ وهذا ما عجل بانهيار دور الوساطة الذي كانت الأحزاب تقوم به في فترة ما بعد الاستقلال. وقد أشار الملك في خطاباته السابقة إلى انعدام روح المبادرة والابتكار والمتابعة لدى الأحزاب، وهذا ما يجعلها تثمن كل المبادرات الملكية بشتى أنواعها دون أن يكون لها أي تأثير مجتمعي، سواء على مستوى السياسة الداخلية أم الخارجية. من جهة أخرى تستفيد الأحزاب السياسية من دعم الدولة المادي في الاستحقاقات الانتخابية، وهي المناسبة التي تظهر فيها الأحزاب لتختفي من المشهد السياسي الى حين إجراء موعد انتخابي جديد. وقد تابعنا بكثير من الحسرة النقاش في البرلمان حول تقاعد البرلمانيين وكيف تحول الى مادة مثيرة للضحك والتندر من قبل عدد كبير من المغاربة في شتى وسائل التواصل الاجتماعي، ما يفيد الانتقال من اعتبار البرلمان هو الهيئة التشريعية المنتجة للقوانين والمدافعة عن الصالح العام الى تحوله إلى مجرد وعاء للدفاع عن المصالح الفئوية لساكني القبة من التمتع بالتسهيلات الضريبية والامتيازات المادية، ووصولا إلى الدفاع عن حق البرلماني في التقاعد وكأن عمله وظيفة وليس تكليف وإنابة من قبل الشعب لممارسة التمثيل النيابي طبقا لروح الديمقراطية والشرعية القانونية. حراك اجتماعي وجمود العمل الحزبي لم تقو الممارسة الحزبية نتيجة للأسباب التي ذكرناها سابقا على مواكبة التغييرات المجتمعية والفكرية والإيديولوجية والتموقع في قلب اهتمامات المواطن المغربي الشاب، الذي لم تعد تغريه الشعارات الايديولوجية البراقة ويؤمن بالحلول العملية وبالتفكير النقدي ويروم إعادة تفكيك المعضلات المجتمعية من منظور حديث لا يهتم بالاصطفاف وراء الفكرة من أجل الانتماء إلى جماعة سياسية تكرر نفس الخطاب السياسي أو تشغل نفسها بصراعات سياسية مجانية لا تفيد المواطن المغربي من قريب أو من بعيد. ظلت الأحزاب السياسية بعيدة عن هواجس المواطنين وقضاياهم المؤرقة ومطالبهم العادلة، سواء خلال الحراك الاجتماعي في منطقة الريف أو في مدينة جرادة وغيرها من أشكال الاحتجاج التي تميزت بتنوعها وغناها ونضجها، وأفرزت نمطا جديدا من الاحتجاج تجلى في مقاطعة فئات عريضة من المجتمع لبعض المنتجات الاستهلاكية نتيجة الغلاء الفاحش للأسعار وغياب العدالة الاجتماعية وتكافؤ فرص التنافس الاقتصادي وغياب تفعيل قانون المنافسة. ولم تنخرط الأحزاب السياسية في أي نقاش حول هذه القضايا الشائكة، ولم تقدم أي برامج بإمكانها أن تشكل بدائل حقيقية للمواطن المغربي أو على الأقل قوة اقتراحية ناجزة بامكانها التأثير على العديد من الشرائح الاجتماعية. وهذا ما يفسر ضعف المؤسسة الحزبية في النسيج المجتمعي المغربي وعدم قدرتها على إنتاج الأفكار والتصورات القادرة على توجيه المواطن المغربي والتأثير في سلوكه السياسي. الفشل في تجديد النخب مرة أخرى يصارح العاهل المغربي في خطاب العرش الأحزاب السياسية بحقيقة ضعفها وتقاعسها في إنتاج البرامج واستقطاب الشباب وتجديد الهياكل الحزبية، وبعدها عن هموم وانشغالات الشباب الذي صار يعتبرها مجرد محلات انتخابية تبيع الوهم للمواطن. ذلك أن دوران عجلة النخب الحزبية شابتها العديد من مظاهر الاختلال والتوقف، وتوسعت الهوّة بينها وبين المجتمع بانهيار القناعة في مصداقية الانتخابات، في سياق دخول المال إلى المجال السياسي، عبر شراء الناخبين الصغار ثم ابتياع الناخبين الكبار. كما أن مسار تجديد النخب فشل فشلا ذريعا لاعتبارات ترجع أهمها إلى التقوقع ضمن دائرة المعارف والعلاقات الضيقة، وعدم القدرة على تدبير الاختلاف بين شبيبة الأحزاب ونخبه السياسية المتحكمة في القرار داخل أجهزة الحزب، وعدم الانفتاح على كل الطاقات والتيارات والمشارب المجتمعية المختلفة، ورفض انفتاح النخبة الحزبية على المشاريع الفكرية والثقافية، إذ لم نعد نألف الحضور الوازن لشخصيات سياسية في الندوات والمعارض والمنتديات الفكرية كما كان الأمر في السابق، حيث تشكل هذه الأنشطة والبرامج وأوراش العمل والمنتديات فرصة مناسبة للأحزاب لتسويق نفسها لدى الشباب، وخاصة في الوحدات المجتمعية المحلية بداية بالحي والمدينة، وإقناعهم بمشاريع واقعية بدل تركهم للعالم الافتراضي الذي يشمل الغث والسمين من الأفكار والإيديولوجيات. كما أن أزمة النخب الحزبية هي جزء من أزمة النخبة السياسية في المغرب بشكل عام، وتتميز عموما بارتقاء نخب انتهازية متكلسة تحاول الجمع بين السلطة السياسية والمال، وابتعاد الطبقة المثقفة والمتنورة من ممارسة السياسة لعدم ثقتها في الممارسة السياسية الفاسدة. إن الارتقاء بالعمل الحزبي ونجاحه في تبني برامج مجتمعية واستقطاب الكوادر الشابة المتعلمة والمؤمنة بوطن ديمقراطي حداثي ومتعدد رهين باسترجاع شرعية الأحزاب وقوتها في الشارع المغربي ودعم برامجها التربوية وإيديولوجيتها الواضحة، وكذا ضمان استقلاليتها عن النظام السياسي وعدم خضوعها للإملاءات الفوقية وتكرار نفس الممارسات البيروقراطية داخلها. ويبدأ هذا المسار قبل كل شيء باسترجاع ثقة المواطنين والشباب على وجه الخصوص وإجادة لغة العصر مع ما تعنيه من تطور تكنولوجي لافت وانفتاح وعولمة وليبرالية متوحشة، وامتلاك الإجابات الكافية عن مستقبل الحراك السياسي والاجتماعي في المغرب.