، هذا هو العنوان الأبرز لصحافة اليوم والغد، وهو ما نجده في البلدان الديمقراطية، خاصة في ظل الدور المتعاظم الذى تقوم به وسائل الإعلام المختلفة كقاطرة في أي تغيير منشود.. وتزداد هذا الأهمية في بلدان الهشاشة الديمقراطية وتراجع منسوب ثقة الرأي العام في مؤسسات الوساطة، بمختلف تلاوينها. وإذا كانت البلدان الديمقراطية تحتفظ بالصحافة الحزبية فقط في متاحفها، فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية تخلت منذ نهاية القرن التاسع عشر عن الصحافة الحزبية، وتبعتها في ذلك البلدان الأوروبية؛ غير أن هذا لم يلغ البتة ارتباط وسائل الإعلام بالسياسية بمفهومها العام، لكن ليس في لبوساتها كلسان حال الأحزاب خاصة في التجربة الفرنسية التي نلمس في بعض التجارب الصحافية الرائدة انزياحا ونفسا سياسيا إما يساريا أو يمينيا باستثناء جريدة لومانتي التي ظلت وإلى وقت قصير وفية لتراث الحزب الشيوعي الفرنسي ومعبرة عن مواقفه. وإذا كانت الصحافة الحزبية بالمغرب قد لعبت أدوارا طلائعية في الماضي وأسست لمدارس حقيقية في محراب صاحبة الجلالة. كما أنجبت أبرز وخيرة الصحافيين من الآباء المؤسسين لمهنة المتاعب، وفي ظرف صعبة، فإنها مطالبة الآن بتقييم موضوعي لوضعيتها ورسم مستقبلها الذي لن يكون إلا بضمان استقلاليتها التحريرية؛ حتى لا تتحول إلى مجرد منشور حزبي. إن محددات الصحافة المستقلة بالمغرب متعددة؛ محددات سياسية ترتبط بالخصوص بهامش الانفتاح السياسي الذى وسم نهاية الثمانينيات وبداية التسعينات، ومحددات أخرى إعلامية ترجمت في محاولات الانتقال من مرحلة المناضل الصحافي إلى الصحافي المهني على شاكلة "المثقف المستقل". إننا لا نكاد نعثر على مفهوم واحد يحدد معنى "الصحافة المستقلة"، في الوقت الذي يلاحظ المتتبع لتاريخ الصحافة والإعلام بالمغرب أنه كان تاريخا حزبيا بامتياز، إذ ارتبطت نشأة الصحافة المغربية بحركة النضال ضد الاحتلال واستمرت على المنوال نفسه عقب الاستقلال مرتبطة وملتصقة بالعمل السياسي وبالأحزاب. وانطلاقا من مفهوم الاستقلالية التي لا تتنافى مع توفر وسائل الإعلام على رأي وموقف سياسيين خاصين بها، يفترض في وسائل الإعلام أن تتطرق لكافة القضايا التي تحظى باهتمام الرأي العام، على الرغم من وجود التباس وخلط كبير يعترض استعمال مصطلح "الصحافة المستقلة" التي تدعى معظمها باستقلالية خطوطها التحريرية، إذ إن استقلالية أية وسيلة إعلام من صحافة مكتوبة أو إلكترونية أو سمعي بصري لا يمكن أن تتحقق بشكل واضح وسليم، إلا إذا رافقتها استقلالية الصحافي نفسه؛ فالصحافيون هم من يصنعون الاستقلالية، عبر مقاومة كل أنواع وأشكال الضغوط، التي تمارس عليهم، ورفضهم الانصياع لتوجيهات خارج هيئات تحريرهم. لقد ظل مفهوم الاستقلالية في ميدان الصحافة والإعلام يطرح بعض الغموض في تحديد تعريفه وماهيته؛ غير أن الجواب عن بعض الأسئلة يمكن أن يسعف في تلمس بعض المخارج لهذه الإشكالية المطروحة على مهنة المتاعب، منها مثلا ما يرتبط حول ما إذا كانت الاستقلالية تعني استقلالية الصحافة عن الدولة؟ أم عن الأحزاب؟ أو الرأسمال؟ أم عن كل الجهات؟. وأمام تعدد التفسيرات التي تعطى لمفهوم الصحافة المستقلة، اجتهد البعض بتحديد تعريف إجرائي لهذه الصحافة؛ فهي تلك المستقلة في رأيها وتمويلها عن الدولة، وعن الأحزاب السياسية وجماعات الضغط واللوبيات على حد سواء. ومع ذلك، فإنه من الصعوبة بمكان؛ بل من الاستحالة في بعض الأحيان أن يكون الصحفي العامل في منبر إعلامي حزبيا مستقلا في أدائه المهني، ويصبح الأمر أكثر تعقيدا حينما يكون الصحافي منتميا حزبيا وعنصرا قياديا في هيئة سياسية، مما يطرح عليه سؤال عريض هل يحكم ضميره المهني أم يلتزم بتوجهات وقرارات الحزب المنتمي إليه، سواء كان هذا الحزب في المعارضة أو في الاغلبية خاصة في المواقف المرتبطة بقضايا حرية التعبير والصحافة والإعلام والتضامن بين زملاء المهنة. لقد كشفت التجربة والأحداث أن الصحافي الحزبي ينضبط غالبا لقرارات هيئته السياسية ويتماهى مع توجهاتها على حساب المهنة. وقد ظهر ذلك جليا خلال العديد من الفترات؛ منها 2002، السنة الأخيرة في عمر حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمان اليوسفي، بمناسبة مصادقة مجلس النواب على مشروع قانون الصحافة الذى ووجه بانتقاد ورفض الصحافيين الذين كان من ضمنهم صحفيان برلمانيان آنذاك عارضا المشروع في هيئتيها المهنية، لكنهما وسط ذهول الجميع من مهنيين ومجتمع مدني ومهتمين تناولا الكلمة باسم فريقهما النيابي في قبة البرلمان خلال التصويت على المشروع من أجل الإعراب عن تأييدهما لمضامينه والتصويت الإيجابي عليه. وإذا كان ظهور الصحافة المستقلة بالمغرب، خلال بدايات التسعينيات من القرن الماضي، أثار مواقف متباينة ومتناقضة، حيث إن هناك من اعتبر أن "الصحف المستقلة" لا تمتلك من الاستقلالية سوى الاسم، وأن هناك جهات خفية تحركها لأغراض وأهداف معينة.. في المقابل يرى آخرون أن صدور مثل هذه الصحف يعتبر ضروريا وأساسيا للتعددية وللديمقراطية. ومع إقرار البعض، بوجود فرق بين الصحافة الحزبية والمستقلة، التي يعد ظهورها تعبيرا عن حركية المجتمع بكل تناقضاته وتطلعاته، فإن صفة الاستقلالية – حسب نفس الطرح – تبقى نسبية بدعوى أن عملية اختيار الخبر ومعالجة الحدث يعد بحد ذاته نوعا من التوجيه والاختيار. كما أن الاستقلالية، حسب بعض المهنيين، لم تثبت مصداقيتها بعد، بسبب الارتباطات القائمة مع السلطة والرأسمال والجهاز الإداري؛ وهو ما يجعل الحاجة قائمة إلى صحافة مستقلة بالقوة والفعل. وهذا ما دفع الكاتب الصحافي المرموق المرحوم عبد الجبار السحيمي إلى قول ذات زمان في مقال بعنوان "حكومة المعارضة" إن "الصحافة المستقلة وأضعها بين الأقواس، رغم أدائها المتطور، فإنني أتابعها لأعرف أحوال الطقس السياسي، ومن يحفر لمن، ومن يحظى بالرضا ومن يحتاج إلى شد الإذن". إلا أن الصحافة غير الحزبية تمكنت في الوقت الراهن من كسر هيمنة الصحافة الحزبية التي ظلت لسنوات متربعة على المشهد الإعلامي، وأصبح مفهوم الصحافة المستقلة يرتبط أكثر فأكثر بالاعتبارات والشروط المهنية التي من جملة ما تعنيه تقديم خدمة للقراء والمشاهدين والمستمعين بواسطة إعلام الحقيقة؛ فالاستقلالية في الإعلام لا تعني الحياد، بل تعني الموضوعية المستندة على قواعد الحرفية والمهنية والالتزام بأخلاقيات المهنة، وسيادة علاقات تعاقدية بين الصحافيين ومالكي المقاولة الصحافية، واستقلالية هيئات التحرير سواء أكان ذلك في مؤسسات الاعلام العمومي أو تلك التي ما زالت تابعة للأحزاب السياسية أو لمجموعات مالية. لذا، أصبح من المفروض على الصحافي المهني اليوم، وليس كما كان بالأمس لأن السياق ليس هو السياق، أن يختار بين التموقع في هيئة سياسية خاصة في قيادتها أو منصب لتدبير الشأن العام، وبين مهنة المتاعب التي تتطلب في العصر الراهن عددا من الشروط؛ في مقدمتها استقلالية الصحافي عن كافة السلط، فإما أن يكون صحافيا مستقلا أو لا يكون صحافيا.