إذا كانت هنالك من ثنائية في مجال تصنيف الأنواع الصحفية في بلادنا تكرست حتى عادت بلا قدرة فعلية على التصنيف المفيد القائم على رصد التمايزات و الفروقات الفعلية داخل الجسم الصحفي ، فهي بالذات ثنائية صحافة حزبية / صحافة مستقلة. والشاهد أننا حينما نقف على التصنيفات الرائجة في البلدان ذات التقاليد الصحفية العريقة، نجد أن نوع التصنيف الرائج عندنا أو ما يشبهه أو يدخل في عداده لم يعد له أي وجود أو أثر، هناك يتحدث الناس عن صحافة شعبية في مقابل صحافة النخبة ، وصحافة رصينة في مقابل صحافة الإثارة، و صحافة عامة في مقابل صحافة متخصصة، و تمايزات أخرى تشير إلى نقاط ارتكاز عند المقارنة ترتبط بطبيعة المقروء و المعروض الصحفي و غاياته و خطه التحريري و نوعية الجمهور الموجه إليه. و الشاهد أيضا أن الصحافة في الأقطار التي تجاوزت بمسافة زمنية بعيدة هذا التصنيف على نمط لغة الخشب الذي لازال سائدا عندنا هي صحافة تبني شهرتها و رصيدها المادي و سمعتها وسط القراء على اختيار واضح لا مجال فيه للمزج بين الأضداد أو الخلط بين المتناقضات ، فأنت لن تجد صحيفة رصينة من عيار لوموند الفرنسية أو التايمز الفرنسية أو وورلد ستريت جورنال الأمريكية أو لاستامبا الإيطالية ( على سبيل المثال ) تجري وراء الحدث الصغير العابر في زوايا الدروب و الأزقة، و لن تجدها منغمسة في البحث عن إشفاء غليل الباحثين عن تفاصيل الحياة الزوجية للمشاهير و أنواع أطعمتهم و ألبستهم ، و لن تجد داخل هذه الصحف الرصينة أقلاما تنتقل في بحر الأسبوع الواحد من تحليل معطيات السياسة الخارجية و تعقيداتها إلى الحديث عن أخطاء حكام مباريات كرة القدم و صفقات اللاعبين المنتقلين بين الأندية الأوروبية الكبيرة . و لن تجد بالتأكيد ضمن أعمدة هذه الصحافة الرصينة صحفيا بالمهنة و التكوين يتطاول أو يتجرأ مثلا على شغل المؤرخ المتخصص أو الاقتصادي أو الأنتروبولوجي، بل على العكس من ذلك تماما ستجد ذلك الصحفي و قد لا حظ أنتطوير تحقيقه أو روبورتاجه يستدعي أراء بعض المتخصصين، ينتقل إليه و يحاورهم مسجلا لما يقدمونه من إضاءات بمنتهى الحياد والموضوعية . و بالمثل لن تجد داخل الصحافة الشعبية الواسعة نموذج صحيفة الصان البريطانية ، أو الصحافة الساخرة ، نموذج صحيفة لوكانار أونشينيه الفرنسية انشغالا بالمواكبات و التحقيقات المطولة في القضايا الاقتصادية و الاجتماعية الثقافية بالمنطق ذاته و بالشكل ذاته الذي قد تصادفه داخل صحافة الرأي و صحافة النخبة . أما عندنا .. و بصفة خاصة ضمن نوع الصحافة المدرجة في خانة الصحافة المستقلة تبدو أصناف الكتابة متداخلة و الأعمدة متشابكة و التخصصات متعالقة و الحاكم في نهاية المطاف ، فيما يظهر، هو مقدار ما تدره المادة من ربح لا يهم إن أتى هذا الربح عبر الإثارة و خاطب الغرائز أو أتى عبر الأفكار و خاطب العقول . و ليس في نيتي ، رغم ما يوحي به ظاهر هذا الكلام من نفحات بوليميكية ، أن أضيف إلى وقود السجال بخصوص موضوع التقابل بين صحافة يعطاها نعت حزبية و صحافة تمنح لقب المستقلة ، لقناعتي بأن ذلك السجال الذي أنتج ما أنتج في ماضينا القريب من معارك و مشاحنات قد فات أوانه اليوم و تقادم و لم يعد قادرا على إعطاء أكثر مما أعطاه سواء على صعيد الأفكار أو حتى على صعيد التشنجات حين تلبس هذه الأخيرة لبوس لغة الأفكار و تتخفى وراءه، حسبي أن أطرح بعض الملاحظات التي قد تسائل أساسات التصنيف المذكور و تبرز محدوديته و طابعه التبسيطي الاختزالي في الواقع العملي . إن مفهوم الاستقلالية حينما يتعلق الأمر بالصحافة يوحي بثلاثة مضامين و دلالات على الأقل ، المهنية و الاحترافية و استقلال الخط التحريري عن الانتماء الحزبي أو السياسي بشكل عام و الموضوعية في التعاطي مع الأحداث و الأوضاع. أولا .. المهنية : من تحصيل حاصل التأكيد على أهمية المهنية في العمل الصحفي و على تزايد متطلب المهنية مع تطور عالم الصحافة اليوم و مع ذلك فإن الموضوعية و الجرد التاريخي لواقع صحافتنا ، منشأ و مسارا و تطورا تقتضي الإقرار و الاعتراف بدور المراس إلى جانب دور المؤهل المهني ، ذلك أن الرعيل الأول في بلادنا و على مستوى كافة الأجناس الصحفية ، القريب منها للأحزاب السياسية و البعيد، كانوا قد تدربوا في الميدان و على الطبيعة مباشرة كما يقال ، كما أن الإيمان بنبل الرسالة مضافا إليها الجهد و العصامية اللذان يوفران الاقتناع للدفاع عن قضايا . ذاك ما أعطاهم تلك القدرة الفائقة على التعامل مع الصحافة و مقتضياتها رغم قدومهم من آفاق و عوالم مهنية مختلفة . و ذاك المزيج الخلاق من حرارة الإيمان و الاستعداد للعمل الدؤوب في الحقل الصحفي أنتج دون تكلف أسماء و أعلاما من مثل مصطفى القرشاوي رحمه الله و عبد الجبار السحيمي متعه الله بالصحة و العافية و آخرون كثر من نفس النبع و النبوغ ممن بصموا هاته الصحافة الرصينة في بلادنا من ستنيات و حتى مشارف التسعينات من القرن العشرين. و هو نفس الجيل الذي تدربت على يديه أجيال كاملة لاحقة من الذين لازالوا يعملون بصمت و جهد و عطاء سخي ، ممن لن تجدهم يرددون على مسامع الآخرين صباح مساء أنهم مهنيون محترفون. أتذكر بهذا الخصوص ، خلال مرحلة نهاية السبعينات مع الثورة الإيرانية ثم فصول الحرب العراقية الإيرانية التي تلتها ، كيف كنا نتلهف على قراءة المواكبات التي كان يكتبها عبد الجليل باحدو في الصفحة الأولى من جريدة المحرر ، حيث كنا نجدها على نفس مستوى الغنى الإعلامي للمقالات التي كنا نقراها على أعمدة صحيفة لوموند ، و لم يكن السيد عبد الجليل باحدو أكثر من متطوع في الحقل الصحفي إلى جانب مهنته التعليمية. ثم إن عددا لا يستهان به ممن نشطوا و ينشطون جزءا من الصحف المدرجة اليوم ضمن الصحافة المستقلة قدموا أصلا من ذلك المسلك التلقائي الذي عادوا ينعتونه بعد ذلك بالمسلك الحزبي .. !! و إذن و على ضوء ذلك ، فإن مقياس المهنية هو أوسع و أشمل و أكبر من أن يضغط عليه لكي يختزل في التكوين المدرسي وحده ، بهذا الحد من الاختزال و بهذا الحد من استصغار دور المسار و المراس . ثانيا .. استقلالية الخط التحريري عن الانتماء السياسي أو الحزبي من بين المؤشرات الأساسية التي يمكن الاعتماد عليها في تقريره ، مدى استقلالية الصحافة أو استقلالية خطها التحريري مؤشر يتعلق بمدى حضور أو غياب الافتتاحيات القارة ضمن أعمدتها ، و نوعية الخطاب الذي يؤطر هذه الافتتاحية . و في هذا المستوى بالذات تظهر المفارقة الكبير التي تعيشها الصحافة المغربية اليوم و التي تلقي بشكوك و ظلال داكنة على التصنيف المكرس ، صحافة حزبية/صحافة مستقلة : فلقد انقلبت الموازين والمقاييس رأسا على عقب منذ مدة غير قصيرة، وأضحت الصحف المدرجة ضمن خانة الصحف المستقلة هي الأكثر نشاطا، الأكثر انتظاما والأكثر صياغة للافتتاحيات السياسية القارة المستخدمة للغة سياسية قارة لا ينقصها شيء من القاموس اللغوي الحزبي. وإذا كان الحزب السياسي، أي حزب، قبل أن يكون أجهزة تنظيمية و مقرات ، هو أولا تيار سياسي يقوم على تبني اختيارات معينة ، فإن المتتبع لبعض الافتتاحيات القارة في بعض صحفنا المستقلة ، يجد نفسه كل يوم أمام اختيارات خطابية و سياسية لا ينقصها شيء من خميرة اللغة و تكاد تطل ممن بعض افتتاحيات معالم و قسمات وجوه سياسية و حزبية تجهد النفس للبروز و تأكيد الذات في المشهد السياسي و الوطني. و إذن فإن مبدأ الاستقلالية في الخط التحريري يصبح في المحصلة النهائية، نوعا من ممارسة السياسة مع تبني الحمولة و المقاربة التي كان يقول بها كلوز ويتش حينما كان يعتبر الحرب استمرارا للسياسة بوسائل الأخرى . ثالثا.. الموضوعية.. مقتضى الموضوعية شديد الارتباط بمقتضى استقلالية الخط التحريري و ابتعاده عن المؤثرات الحزبية و السياسية و الإيديولوجية . ينطبق على الثاني ما ينطبق على الأول ، والموضوعية في المجال الصحفي ليست بالطبع استنكاف على اتخاذ المواقف ولا تعني التحرر من التزامات مبدئية و لا سلوك نوع من الحياد المختبري في كل الظروف و الأحوال، فمثل هذه الاحترازات التي نسمعها من حين لآخر تتحول إلى إيديولوجيا لتسويغ وضعية المتفرج أو وضعية الشيطان الساكت الأخرس عن الحق . ليست الموضوعية إذن استنكافا عن قول الرأي و الجهر به و الوقوف عند الوصف الجامد للمرئي أو المسموع أو الجاري و الماثل أمام أعيننا . مثل هذا النوع من الموضوعية يصبح الوجه الآخر المعكوس في المجال الصحفي ، للإعلام الرسمي ، و يصبح الحياد و التجرد الأخ الأكبر للإطراء و التمجيد لما هو قائم من ممارسات و مسلكيات في الساحتين السياسية و الاجتماعية . الموضوعية في المجال الصحافي هي سبر للأغوار بالتنقيب و التحقيق و التمحيص في كل الزوايا و بعد ذلك، و ليس قبله يكون الموقف و تتكون الأحكام. وهي بهذا المعنى تتنافى عضويا مع وجود خطاب سياسي نمطي، كما تتنافى مع تبني أحكام قيمة تتكرر كل يوم ، بنفس الصيغة ، بنفس الوتيرة وبنفس الحمولة السياسية مهما اختلفت المواضيع أو السياقات أو الظرفيات . و بصورة عامة تذكرنا يوميا ، نحن الذين بدانا نتبرم من اليقينيات السهلة للخطاب الحزبي النمطي، لا فقط بصور مكرورة لهذا الخطاب أنتج خلال مراحل سابقة ، بل بنوع من هذا الخطاب دوغمائي لولبي يدور على نفسه قبل أن يذوب في الهواء . حكى لنا أحد الصحافيين البرازيليين، و نحن نتبادل أطراف الحديث حول متطلب الموضوعية في العمل الصحفي ، كيف أن أكبر أسبوعية في بلاده كانت توزع 450 ألف عدد أسبوعيا ، انخفضت مبيعاتها إلى النصف خلال السنة السابقة ، حينما اختارت تحويل خطها التحريري إلى خط سياسي مناهض لسياسات حزب العمال الحاكم . و بشكل منهجي، كان الدرس المستفاد هو خطورة الإغراء المتمثل في الخلط بين الخط التحريري الموضوعي و الخط السياسي الوحيد الاتجاه . و لا أظنني مبالغا ، بالنظر لما نلاحظه اليوم في مشهدنا الصحافي . إن هذا الإغراء لا يقتصر اليوم على الصحافة الحزبية بل يشمل و ربما بصورة أوسع جزءا كبيرا من الصحافة المدرجة ضمن خانة الصحافة المستقلة. فقليلة حقا هي الأعمدة التي نقرأها ضمن الصنف العام غير المتخصص من هذه الصحافة ( أي المنشغلة بكل القضايا )، و التي ترفع قولا إلى مقام الركن المؤسس لها ، تقتضي النقد حينما يتوجب النقد ، و التنبيه حينما يلزم، و التشجيع حينما تتوفر مبرراته و المصاحبة التقييمية الهادئة في كل الأحوال ، و بسبب غياب مثل هذه المقاييس ، نجد أن إغراء تحويل الخط التحريري إلى خط سياسي قار، لا فرق بينه و بين منطوق الخط السياسي لأي حزب من الأحزاب ، هو إغراء موجود يفعل فعله و يمارس تأثيره بوعي أو بدون وعي . انطلاقا من ذلك فإن المضامين الثلاثة ، المهنية واستقلال الخط التحريري من المؤثرات الحزبية ، فإن المؤثرات الحزبية والمنطق الحزبي و الموضوعية تظهر حدودها كمحدد فعلي للصحافة المدرجة ضمن خانة الصحافة المستقلة ، حيث تظهر الوقائع وكأننا نحمل الكلمات أكثر مما تحتمل . والحقيقة أن هذه الثنائية ، صحافة مستقلة/ صحافة حزبية جاءت في سياق سيل من الثنائيات المماثلة خلال العشر سنوات الأخيرة من قبيل التعارض بين المجتمع المدني و المجتمع السياسي و التعارض بين «اليسار الحكومي» و بين «اليسار الراديكالي» ، و التعارض بين الجيل القديم و الجيل الجديد في السياسة و غيرها من التعارضات التي ضبطت إيقاع النقاش العام مخلفة جعجعة ولا طحين . والحقيقة أيضا أن هذه الثنائية تفيد لدى الداعين إليها و المروجين لها رغبة في تغيير طبيعة الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها موضوعيا مختلف الفاعلين في أية ديمقراطية من الديمقراطيات، فلقد جرت محاولة جر المجتمع المدني ، إلى لعب الدور السياسي على مستوى الدمقرطة و التطوير بدعوى فشل الأحزاب السياسية. و تمت المراهنة على العمل النقابي لكي يضطلع بأدوار سياسية طلائعية ، وتفجرت بعد ذلك احتجاجات عارمة في أن يتحول الخط التحريري عند نوع معين من الصحافة إلى خط سياسي يعبئ و يحث على تغيير الفاسد من الأوضاع ..! ويبدو لي أن كل هذا في نهاية التحليل هو قفز على الأساسي في الموضوع أو إخفاء له و التفاف حوله، والأساسي فيما أحسب ، هو أننا جميعا في هذه المرحلة المضطربة مطالبون بالتفكير الجماعي في العلاقة المتوترة بين الحقل السياسي العام، مطالب وديناميات واتجاهات، وحقل الممارسة السياسية الحزبية التي تقلصت في مداها وتأثيراتها ومصداقيتها، و مع الإقرار بذلك ، الإقرار الجماعي بأن الديمقراطية في كل الأحوال لا يمكنها أن تبنى أو تتطور بدون أحزاب سياسية ، و أن هذه المهمة لا يمكن إنجازها لمجرد تحويل الخط التحريري لبعض الصحف إلى خط سياسي يتوهم أصحابه القدرة على النفاذ و التأثير بأقل التكاليف .