الخلافات الفرنسية الإيطالية حول الملف الليبي تتجاوز كونها مجرد تمظهر لتباين وجهات النظر بين الطرفين، وإنما تجسد تاريخا ملتهبا من الصراع على النفوذ بالبلد النفطي. فإيطاليا ترى في نفسها الأقرب لإدارة الملف بحكم قربها من السواحل الليبية، وماضيها الاستعماري، إضافة إلى معضلة الهجرة غير الشرعية التي تثقل كاهلها. أما باريس، فتعول على علاقاتها التاريخية مع بعض الأطراف الليبية، خصوصا جنوبي البلد الأخير، والذي يعتبر بوابة الهجرة القادمة من جنوب الصحراء الإفريقية، ومنطقة التماس مع مناطق نفوذها في النيجر ومالي، اللتين تخوض فيهما حرب مع تنظيمات إرهابية في الصحراء الكبرى، التي تتخذ من الجنوب الغربي الليبي قاعدة خلفية للهجوم على القوات الفرنسية وحلفائها في البلدين. كعكة تحوم حولها أطماع البلدين، وفق الأكاديمي والباحث الليبي، فرج دردور؛ والذي اعتبر، في حديث للأناضول، أن "كل طرف يحمل في جعبته لائحة لا تنتهي من الأسباب الخاصة التي يشرعن بها حقه في إدارة الملف الليبي". وبذلك، تتجلى بوضوح معالم سباق محموم تغيب ملامحه أحيانا تحت مسمّيات وأقنعة مختلفة، لتعود وتظهر حين تشتد وطأة الأطماع، وتختنق الخيارات تحت ثقل تحركات المنافس. فرنسا تستثمر التأييد الدولي في بيان نشرته قبل أيام، قالت البعثة الأممية في ليبيا، إن مجلس الأمن الدولي، تبنى الرؤية الفرنسية لحل الأزمة الليبية، وأكد على مخرجات مؤتمر باريس، وعلى رأسها إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 10 دجنبر 2018. مؤتمر باريس، الذي عقد في 29 ماي، وجمع للمرة الأولى الفرقاء الليبيين الأربعة الأكثر تأثيرا في المشهد السياسي والعسكري، حاول من خلاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تسجيل هدف بشباك روما، تحت عنوان كسر الجمود بوضع خارطة طريق لإنهاء الانقسام السياسي في ليبيا. المحلل السياسي التونسي، نزار الجليدي، رأى أن باريس التي كانت على ثقة تامة من أن إيطاليا ترقب عن كثب وبقلق بالغ، المبادرة الفرنسية التي تعتبرها روما "انتهاكا" لنفوذها "التاريخي" بليبيا، سارعت باستثمار بيان شكل دعما لوجهة نظر ترفضها روما وتشكك في جدواها. الجليدي، أقر، في حديث للأناضول، بأن باريس سجلت نقطة لصالحها في هذا السباق، ولذلك لم تتأخر كثيرا في الاستفادة من ذلك، حيث طار وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي، جون إيف لودريان، الأحد الماضي، إلى تونس ليبحث ملفات على رأسها الوضع في ليبيا. وبعد يوم واحد من زيارته لتونس، توجه لودريان، إلى ليبيا، حيث التقى أبرز الفاعلين في عملية التسوية السياسية، ودفعهم للالتزام بتعهدات إعلان باريس، في ضغط بدا واضحا لإنقاذ تفاهمات المبادرة الفرنسية. ففي طرابلس، اجتمع لودريان، برئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية، فائز السراج، في لقاء تخلله تأكيد الأخير على "ضرورة التزام الأطراف الأخرى (في إشارة إلى مجلس النواب وخليفة حفتر) بالاستحقاق الانتخابي، وإعداد الإطار الدستوري لإجرائها في الموعد المقرر". لقاءات ومحادثات ترمي باريس من ورائها إلى دعم حضورها القوي ومصالحها في الجنوب الليبي، وتحديدا بإقليم "فزان" الذي تعتبره "إرثها التاريخي" الذي احتلته من 1943 حتى استقلال ليبيا في 1951. وتعتمد باريس في مسارها على تحركات تؤمنها سفارتها بليبيا (يوجد مقرها في تونس مؤقتا)، أو عبر قوى وقبائل تتمتع بدعم كامل من الإليزيه، لكنها ترنو، في الآن نفسه، إلى مد نفوذها شمالا، نحو الغرب والشرق، وهذا ما يثير حفيظة روما. مصراتة في مرمى الأطماع تقارير إعلامية ليبية تحدثت عن وجود مساعي فرنسية لنشر قوة لها غربي البلاد، وتحديدا بمدينة مصراتة (200 كلم شرق طرابلس)، حيث تتمركز قوات إيطالية تصر روما على نفي تواجدها، وهو ما سبق وأن فنده مجلس النواب الليبي في طبرق. رغم أن إيطاليا تقيم مستشفى عسكري في مصراتة، وأرسلت 200 عنصر إلى المدينة نصفهم عسكريين، خلال عملية البنيان المرصوص التي أطقلتها حكومة الوفاق ما بين مايو وديسمبر 2016، لتحرير مدينة سرت من تنظيم "داعش" الإرهابي. ففي بيان مقتضب نشره الموقع الرسمي لوكالة الأنباء الليبية، في 18 يناير 2018، استنكر مجلس النواب الليبي تصويت البرلمان الإيطالي، يوما قبل ذلك، على "زيادة القوات الإيطالية المتواجدة حاليا بمصراتة". وبناء على ذلك، يرى الجليدي، أن المساعي الفرنسية لنشر قوة عسكرية بالمنطقة، إنما يأتي في خطوة لدعم ما تعتبره باريس "نجاحا" لمبادرتها، عبر تمركز لقواتها على الأرض. مساع أكدتها تقارير إعلامية بقولها إن السراج، وافق على لقاء من المفترض أن لودريان عقده، الإثنين، ببعض القيادات العسكرية التابعة للمجلس للرئاسي لحكومة الوفاق، بالقاعدة البحرية "أبو ستة" بطرابلس. وحسب التسريبات، ضم اللقاء رئيس الأركان بحكومة الوفاق عبد الرحمن الطويل، ورؤساء أركان القوات الجوية والبحرية والبرية، رفقة قادة المناطق العسكرية: محمد الحداد، وأسامة الجويلي، وعبد الباسط مروان. ولئن لم يتم تأكيد الأمر رسميا، إلا أن عضو المجلس الأعلى للدولة الليبي (نيابي استشاري)، عبد الرحمن الشاطر، استبق ما أوردته التقارير الإعلامية، بتغريدة نشرها الجمعة الماضي، عبر "تويتر". وقبلها بيوم، تحدث الشاطر، أيضا عن لقاء جرى في تونس "بين الفرنسيين وعسكريين من مصراتة" دون تفاصيل. وأضاف، في تغريدة، أن "الهدف المعلن إنشاء تواجد لمحاربة الإرهاب". وتابع: "سلم الفرنسيون مواقع لتواجد داعش بالمنطقة الغربية، ولم يوافق الوفد المصراتي على فكرة تواجد عسكري فرنسي". غير أن التواجد العسكري الفرنسي، في الشرق الليبي أبرز، رغم أن حجمه غير محدد، وتجلى ذلك عندما نعى الرئيس الفرنسي السابق فرانسو أولاند، في 20 يوليوز 2016، مقتل 3 عسكريين فرنسيين في إسقاط طائرة مروحية بالقرب من مدينة بنغازي (شرق)، كانوا يقاتلون إلى جانب قوات حفتر. لذلك فالتواجد العسكري الفرنسي في الشرق الليبي مؤكد وليس محل جدل، ففي تصريحات للمتحدث باسم الحكومة الفرنسية ستيفان لوفول، في 2016، قال فيها: "بالتأكيد يوجد هناك (في ليبيا) قوات خاصة لنا للمساعدة.. فرنسا تتواجد في كل مكان لمكافحة الإرهاب". إيطاليا.. أهداف إستراتيجية تهددها فرنسا حراك باريس المنفرد أجج الصراع الإيطالي الفرنسي بليبيا، وأثار غضب روما التي تعتبر نفسها اللاعب المحوري بالملف، ودفعها لإبداء انزعاجها ورفضها التام لمؤتمر باريس. كما انتقد مسؤولوها غياب بلادهم عن المشهد، وهي "عراب" الجهود الدبلوماسية في ليبيا، وهذا ما يبدو أن روما لم تغفره، وقررت عكس الهجوم ضد باريس. رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبه كونته، أعلن الخميس الماضي، معارضته تنظيم انتخابات بليبيا وفق الجدول الزمني المحدد بمؤتمر باريس. قبل ذلك، وتحديدا في 12 يوليوز، أعلن كونته، أن حكومته ستنظم مؤتمرا دوليا حول ليبيا في"الخريف القادم". ضربة أرادت من خلالها روما قطع الطريق على باريس، وهي التي لطالما أبدت امتعاضها ومعارضتها للمبادرة الفرنسية حتى قبل انعقادها. فقبل عقد المؤتمر بيوم واحد، كتب السفير الإيطالي لدى طرابلس، جيوزبي بيروني، في تغريدة عبر "تويتر"، يقول: "انقسامات ومبادرات غير منظمة ستساهم في عودة قوارب الموت (…)". واعتبر أن "الهدف ليس زيادة الالتزامات، بل تنفيذ ما تم الالتزام عليه حول ليبيا"، في إشارة للاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات المغربية عام 2015. وفي الواقع، فإن أكثر ما تخشاه إيطاليا هو ضرب فرنسا لمصالحها ولسياستها في ليبيا، والقائمة بشكل أساسي على دعم السراج، والحفاظ على موقف دولي موحد بشأن التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة. ولذلك، سارعت بدورها إلى تنشيط دبلوماسيتها، وتحريك زيارات مسؤوليها إلى البلد الإفريقي، حيث وصلت وزيرة دفاعها، إليزابيتا ترينتا، الثلاثاء، إلى ليبيا قادمة من تونس، في زيارة رسمية ل"بحث قضايا الهجرة والإرهاب والتعاون الدفاعي". وترينتا، هي ثالث وزير في الحكومة الإيطالية الجديدة يزور ليبيا خلال شهر، بعد وزير الخارجية إنزو موافيرو ميلانيزي، مطلع يوليو الجاري، ووزير الداخلية ماتيو سالفيني في 25 يونيو. سلسلة من الزيارات تأمل من خلالها روما تأكيد دورها الحيوي في مستعمرتها السابقة، وبعث إشارات للمجتمع الدولي، ولمنافستها فرنسا تحديدا، بأن نفوذها في ليبيا لن تبتره مخرجات مؤتمر باريس، وأن الأجندة الزمنية لمسار حل الأزمة لن يكون فرنسيا أبدا. لكن إيطاليا تسبق فرنسا بخطوة في العاصمة السياسية الليبية، إذ أن روما فتحت أول سفارة أوروبية في طرابلس، وأمنتها بألف جندي، حسب تقارير إعلامية، مما يجعلها حضورها الدبلوماسي والعسكري أقوى في الغرب الليبي. كما أن شركة "إيني" الإيطالية، تعتبر رقم واحد في التنقيب واستخراج وتصدير النفطي الليبي، الذي يعد أكبر احتياطي في إفريقيا، ومن شأن تزايد النفوذ الفرنسي في ليبيا أن يؤدي إلى مزاحمة شركة "توتال" الفرنسية، لإيني، على الثروة النفطية في البلد العربي. صراع مستعر يطوق بلدا تتقاذفه الأطماع الدولية الساعية لوضع يدها على ثرواته النفطية، ليفتح بذلك فصلا جديدا في المشهد الليبي الذي تتقاذفه أمواج عاتية لا يبدو أنها ستمنحه فرص الرسو على شاطئ سلام، ليس في القريب العاجل على الأقل، كما يقول الجليدي.