في مثل هاته المبادرات، ما يهم أكثر هو متن الحديث وفحواه، ولذلك نحاول الابتعاد ما أمكن عن كل تأثير يمكن أن يحدثه الاطلاع على توقيعات النداء، سنتجرد من أي عامل نفسي في بناء موقف يفترض فيه أن يكون عقليا خالصا. فالعريضة لا يمكن فهمها إلا في إطار سياق عام، يتعلق بالراهن من الأحداث على المستوى الوطني، وبالسياق الخاص، المتعلق بتطور الفعل ورد الفعل في موضوع المقاطعة. والسياق الخاص يهم هنا أكثر لأن تفاصيله متراكبة ومعرفتها ستسهل علينا فهم إطار "مبادرة المثقفين". لقد جاءت فكرة المقاطعة متناغمة مع مزاج شعبي عام حانق على ارتفاع الأسعار، وتدني الجودة، وعدم اهتمام الحكومة بكافة المطالب الاجتماعية والاقتصادية التي رفعتها تنظيمات نقابية وسياسية مختلفة. ومنذ انطلاق المقاطعة ونحن نرى ردود الفعل التي جاءت من جهات عديدة، بدأت بالاستعلاء (المداويخ)، ثم الاتهام (التخوين)، ثم الاستجداء (اجيو نتصالحوا)، وبعدها الترغيب ( خفض الثمن و 4+1)، ثم التهديد (تحط السوارت)، ثم تنفيذ الوعيد (فك العقد مع العمال والفلاحين) وكل هذا وغيره صلب من عود المقاطعة وجعلها تحتل صدارة اللقاءات سواء على المستويين الرسمي او الشعبي، وهي في هاته المدة استطاعت أن تبني لها صورة شبه واضحة وتجعل اللذين يلتفون حولها متميزين بالإصرار على متابعة المقاطعة حتى تحقيق أهدافها. وهو الشيء الذي جعل المدير العام للشركة يقدم بنفسه، ويقر بواقع المقاطعة ويقول إنه سيتحدث مع مختلف المتدخلين ويستمع لهم، أي أنه بشكل آخر تم الاعتراف بوجود نوع من "الشخصية" التي أصبحت عليها المقاطعة، والنداء يأتي في هذه الرؤية. لقد اتضح لأصحاب القرار الاقتصادي والسياسي أن المقاطعة لم تكن "لعب الدراري"، بل هي مقاومة شعبية واعية، قد تكون مطالبها اقتصادية بحثة، غير أن تنامي الوعي بذلك يمكن أن تتحول إلى طبيعة مطلبية أخرى، وهذا الزخم الشعبي لها، واستمرارها فعليا عند الكثيرين، حتى وإن خف الحديث عنها في وسائط التواصل الاجتماعي، جعلهم يفكرون في الانتقال إلى مرحلة أخرى في التعامل مع المقاطعة، أنها مرحلة التفاوض. وفي التفاوض نحتاج إلى ثلاث عناصر، المكان والزمان والهدنة، وهي العناصر المتضمنة في النداء، فالمطالبة بتوقيف المقاطعة هو بمثابة إعلان هدنة من طرف المقاطعين على منتجات سنطرال، وقد حددت لتلك الهدنة عشرة أسابيع، وكل ذلك على خلفية نية الشركة في النظر للموضوع، وهنا أقول إن هؤلاء المثقفين خانهم ذكاؤهم، الذي من المفروض أنهم يتسمون به، خصوصا وهم الجامعيون والخبراء والاقتصاديون والصحافيون والعلماء، خانهم ذكاؤهم مرتين، المرة الأولى حين لم يقرؤوا وضع النداء في سياق الفعل ورد الفعل بين الشركة والمقاطعين، وهو البحث عن وضع تفاوضي، وخانهم في الثانية حين لم يدركوا أن الدخول في وضع تفاوضي مع هدنة طويلة نسبيا يهدف إلى القضاء كليا على المقاطعة. لا يمكن التفاوض على خلفية نيات، مهما كانت حسنة، بل على خلفية أفعال محددة وفق ما تمت المطالبة به من طرف المقاطعين، وحتى لو افترضنا أن تفاوضا ممكنا سيحدث، فالأولى هو تقوية المقاطعة لتحسين شروط التفاوض وليس العكس، ثم إن عشرة أسابيع مدة طويلة، وهنا أذكر هؤلاء المثقفين أن مفاوضات أكس ليبان، وهي التي بموجبها حصل المغرب على استقلاله، كانت في عشرة أيام، وحدث المسيرة الخضراء، بدأ وانتهى في اثنى عشر يوما، والحرب التي صدعت علاقتنا مع الجزائر لم تتجاوز سبعة أسابيع، أما الانتخابات التي تأتي ببرلمان وحكومة تجرى في اقل من أسبوعين، فأي هدنة هاته التي وقع عليها هؤلاء، وهل يمكن أن يتكرر الحدث بعد الهدنة، بالتأكيد لا. لا يمكن لعاقل، أن يفكر بأن المقاطعة ستعود إلى نفس زخمها إذا ما توقفت، شروط كثيرة أنجحتها في المرة لأولى، لا يمكن أن تكون متوفرة بنفس الصورة، المفروض أن عالم الاجتماع والأنثروبولوجي والأكاديمي يجب أن يكون على وعي تام بذلك، وإلا ما فائدة علمه ومعرفته، لكن للأسف تم التعامل مع العريضة في وضع معزول عن كل الواقع المجتمعي الذي يتوجهون له. لم تخسر المقاطعة من هكذا نداء، بل لقد زاد من تقويتها من أي محاولة تفكيك، وعبر هذا النداء أوصلنا موقفنا، أن وضع التفاوض غير ممكن فعليا، أما الموافقة على المطالب أو الاستمرار في المقاطعة، خصوصا أن المطالب بسيطة وسهلة التحقق، بل لقد خسر هؤلاء، كثيرا من الاحترام والتقدير، وربما سيكون عند البعض نهاية مشوار لم تكن سعيدة. شكرًا لكم لأنه عبركم، انتهت مرحلة حتى قبل ان تبدأ، مرحلة التفاوض، وشكرا لكم، لأن عبر ندائكم أظهرت الشركة أن هدفها الحقيقي هو إنهاء المقاطعة، وأن ما في درجها من أفكار يخالف ما في نيتها،