تعيش الجزائر على إيقاع "فراغ مهول" على مستوى كرسي الرئاسة، خاصة أن مرض وعجز بوتفليقة طال وعطل معه أية إمكانية لإيجاد مخرج سياسي أو دستوري لمأزق "الفراغ" و"الجمود" الذي بات ينذر بأزمة سياسية قد تجر هذا البلد الجار إلى المجهول، فعلى بُعد أقل من سنة عن موعد رئاسيات أبريل 2019 بالجزائر، صورة قاتمة ومصير مجهول ينتظر الجارة الشرقية، فعجز الرئيس وما خلفه من فراغ في السلطة فتح الباب على مصراعيه بين عدة أجنحة داخل مربع الحكم لتصفية الحسابات والتصارع والاقتتال حول السلطة. في أقل من سنة، أي منذ الصيف الماضي إلى اليوم، ظهرت مجموعة من المؤشرات أبرزها "موجة كبيرة من الإقالات" أو "الإسهال الحاد" في الإقالات والاستقالات في مراكز حساسة في الدولة؛ وهو ما يؤكد وجود تطاحنات وصراعات وحرب ضروس تخاض على مقربة من كرسي "الرئيس العاجز"، بحيث أصبح القضاء والصحافة المحلية مسرحا لها بالجزائر. إن "الفراغ الرئاسي"، الذي أسهم فيه بشكل كبير التحالف المقدس بين حزب جبهة التحرير ومؤسسة الجيش، نتج عنه صراع خفي بين عدة أجنحة داخل مربع السلطة، صراع أفرز فاعلين جددا، وبدرجات متفاوتة، وبتحالفات تناقض وتعاكس التوازنات التقليدية. فما هي حقيقة الوضع الداخلي بالجزائر؟ وما هي الدوافع والخلفيات وراء الصراع الدائر في محيط الرئيس بوتفليقة؟ لماذا عجز الجيش الجزائري بتحالفاته مع حزب جبهة التحرير في إيجاد بديل للرئيس الحالي وما حقيقة استفراد وتحكمه سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس في دواليب الدولة؟ ما هو موقف الأحزاب والقوى الأخرى من الوضع الحالي المتسم بفراغ السلطة؟ وما هي الأطراف الحقيقية التي تدير البلاد؟ من المستفيد من ترشيح "رئيس عاجز" لا يستطيع الحركة لولاية خامسة؟ ما هو موقف القوى الغربية، خاصة فرنسا وأمريكا، من الوضع الحالي في الجزائر؟ أسئلة وإشكالات كبرى تثار حول ظاهرة "فراغ السلطة" وتداعياتها وانعكاساتها على واقع ومصير الجزائر، لا سيما أن "العلبة السوداء" بلغة دافيد استون، يصعب بهذا البلد الجار ملامستها وتفكيك رموزها بغية فوز الفاعلين والقوى الحقيقية والمؤثرة بداخلها. وفي إطار محاولة تحليل وفهم ما يقع داخل مربع الحكم في الجزائر، لا بد من استحضار بعض الأحداث والوقائع المهمة التي سجلت خلال السنة الأخيرة وخلال الأيام القليلة الماضية، والتي يمكن اعتبارها مؤشرات موضوعية تشرح وتعكس بدقة ما يقع في الكواليس أو داخل المكاتب المغلقة بقصر المرادية، ويمكن الإشارة في هذا الإطار إلى خمسة مؤشرات سواء بحكم راهنتيها أو نوعيتها ووقعها: الأول إقالة عبد المجيد تبون، رئيس الوزراء السابق، بطريقة مفاجئة خلال الصيف الماضي، بالرغم من أن هذا الوزير الأول المقال لم يمض في منصبه آنذاك سوى ثلاثة شهور، وقد اعتبرت الإقالة في تلك الظرفية مؤشرا على انتصار التيار العسكري المتشدد والمنغلق على آخر مدني منفتح داخل قصر المرادية، بحيث كان تبون يحظى بدعم قوي من لدن الرئيس بوتفليقة وبعض الأوساط السياسية كالتيار المعارض الإسلامي، على اعتبار أن هذه الشخصية ذات نزعة اقتصادية وبراغماتية وتميل أكثر إلى التوافق والانفتاح على مختلف الحساسيات، وتسعى كذلك إلى الإصلاح وتغيير منظومة وقواعد التدبير والتسيير، خاصة في المجال الاقتصادي والمالي الذي يعرف هيمنة شبه مطلقة للمؤسسة العسكرية، بمعنى أن الخلفية التي كانت سببا في تعيينه ربما هي نفسها التي عجلت برحيله. المؤشر الثاني يتمثل في الصراع بين أويحيى الوزير الأول الحالي وشقيق الرئيس بوتفليقة، بحيث إن الفراغ الذي تركه الرئيس الحالي جراء عجزه ومرضه أسهم في ظهور ما يصطلح عليه "حكومة ظل" يديرها شقيقه سعيد بوتفليقة، وهي حكومة تدار من خلف الستار وبالتحالف مع الجيش ولها تأثير قوي في صناعة القرار في الجزائر في الوقت الراهن، وهي أقوى من حكومة أويحيى. أما هذا الأخير، فهو يصارع الزمن لسد الفراغ والتنافس حول مواقع النفوذ والسلطة بالجزائر، إذ يحاول نسج علاقات مع المؤسسة العسكرية و"الكارتيلات المالية" للحصول على ثقتهما ورضاهما حتى يتسنى له الترشح للرئاسة سنة 2019. الثالث ما عرف بفضيحة "الكوكايين" في الجزائر، حيث أدت هذه الفضيحة إلى الإطاحة بمسؤولين كبار في جهاز الدولة؛ مثل الجنرال عبد الغني هامل، المدير العام للأمن الوطني، حيث استبدله بوتفليقة بمصطفى لهبيري، مدير الدفاع المدني. وقد خلفت إقالة هذا المسؤول الأمني رفيع المستوى والمقرب من عائلة بوتفليقة ردود فعل متباينة، لا سيما بعد خروجه الإعلامي حول فضيحة "الكوكايين"، هذا الخروج جاء مليئا بالرسائل والإشارات التي تؤكد تفشي الفساد داخل مؤسسة الجيش ومسؤوليتها عن الفضيحة. من جانب آخر، فالاهتمام الإعلامي ب"فضيحة الكوكايين" وتصدرها عناوين الصحف الجزائرية والدولية أسهم في ظهور عدة قراءات وتأويلات أجمع جلها على أن هذه القضية هي مرآة جديدة لصراع قديم يدور بين أطراف السلطة في الجزائر، خاصة أن هذا البلد مقبل على انتخابات رئاسية مجهولة المصير. وبصريح العبارة، فإن هذه القضية، حسب تلميحات وكلام المدير المقال، هي محاولة أخرى لتصفية الحسابات السياسية بين مسؤولين كبار في المؤسسة العسكرية الجزائرية وجهاز الشرطة، مع العلم أن اسم الجنرال عبد الغني هامل، المدير المقال، يعدّ من بين الأسماء التي كانت متداولة لخلافة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. الرابع، تبادل وتراشق الاتهامات بين الحزبين الحليفين الرئيسيين للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وهما حزب جبهة التحرير الوطني (الحاكم) والتجمع الوطني الديمقراطي (ينتمي إليه الوزير الأول أويحيى). وقد ظهرت بوادر الصراع والتنافر بين الحزبين عندما اتّهم جمال ولد عباس، الأمين العام للحزب الحاكم، في خروج إعلامي مثير، شخصية وطنية، لم يسمّها، ب"مساومة" الرئيس بوتفليقة عندما كان مرشحا في سنة 1999. وقد جاء على لسان الأمين العام لجبهة التحرير، في هذا الصدد، أن هذه الشخصية "طلبت من الرئيس مقاعد في الحكومة، مقابل دعمه للوصول إلى الحكم". كلام وتصريح بهذه الخطورة ما كان ليمر دون أن يحدث شروخا إضافية في بنية السلطة ويحدث خللا في توازناتها بقصر المرادية، حيث لم يتأخر رد فعل حزب التجمع الوطني، إذ برّأ الحزب أمينه العام ورئيس الحكومة الحالي، أحمد أويحيى، من خلال بيان نشره وجاء فيه "يُوضّح التجمع الوطني الديمقراطي أن الموقف الشخصي للأمين العام السابق للحزب آنذاك أدى بقيادة التجمع إلى سحب الثقة من الطاهر بن بعيبش، وانتخاب أحمد أويحيى أمينا عاما للحزب". فمن الواضح أن خرجة زعيم جبهة التحرير تروم فرملة طموحات الوزير الأول الحالي ومحاولة قطع الطريق أمامه ولمنعه من الترشح لخلافة بوتفليقة؛ لكن من المؤكد، كذلك، أنها جاءت بضوء أخضر من المؤسسة العسكرية. الخامس، الخروج الإعلامي الجريء لسفيان جيلالي، رئيس حزب "جيل جديد" المعارض؛ فقد أكد، في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية، أنه من مؤيدي دعوة الجيش إلى رعاية فترة انتقالية. وقال في هذا الصدد أنه: "مع الفراغ السياسي الذي تعيشه الجزائر في هرم السلطة بمرض الرئيس الواضح للجميع... ومع الفوضى داخل أروقة السلطة الواضحة أيضا للكل، ربما يكون اللجوء إلى الجيش هو الخيار الأفضل لإعادة قطار الوضع السياسي إلى مساره الصحيح"، وحرص في الوقت نفسه على التأكيد على أن دعوة الحزب إلى المؤسسة العسكرية تقتصر على أن "تقوم برعاية الانتقال لا أن تفرض سلطة أو حكما عسكريا". إن هذه الدعوة ليست الأولى من نوعها، بحيث سبق أن ناشد عدد من المثقفين والشخصيات التاريخية الجيش في أكثر من مناسبة، قصد التدخل لوضع حد للفراغ المهول في كرسي الرئاسة؛ لكن مؤسسة الجيش أصدرت عدة بيانات ترفض من خلالها التدخل بدعوى رفضها تجاوز صلاحياتها الدستورية والتدخل في صلاحيات ليست مخولة لها في الشأن السياسي في البلاد. كما جاء في بيان سابق أصدرته وزارة الدفاع أن "الجيش الوطني الشعبي مؤسسة وطنية جمهورية حدد مهامها الدستور، وقد وضح الدستور صراحة دورها في تدعيم وتطوير الطاقة الدفاعية للأمة التي تنتظم حول الجيش الوطني الشعبي الذي تتمثل مهمته الدائمة في المحافظة على الاستقلال والدفاع عن السيادة الوطنية". هو إقرار علني صريح يصعب تصديقه بسهولة ويفتقر إلى المصداقية؛ لأنه سرعان ما تكذبه وتفنده الوقائع والأحداث التي تؤكد أن الجيش جزء من الأزمة والحل بالجزائر، بحكم تغلغله وتحكمه في الحياة السياسية والاقتصادية ومفاصل الدولة. من خلال المؤشرات والوقائع المذكورة، يتضح جليا أن الوضع في الجارة الشرقية يظل غامضا وضبابيا، وسيناريوهات المستقبل تبقى بدورها مفتوحا على كافة الاحتمالات بما فيها الأكثر سوءا ودراماتيكية، سيناريوهات تعيد إلى الأذهان عشرية الدم وما تلها من مآس واقتتال وحرب أهلية خاضتها أطراف في السلطة ضد بعضها البعض تحت عدة مسميات وذرائع من قبيل "الإرهاب" وغيرها، أحداث ومحطات مؤلمة جعلت الجزائر تعيش أوقاتًا صعبة على مدى عقدين ماضيين كان ضحيتها وعانى منها الشعب الجزائري، وما زالت تنذر بتدمير وانهيار أسس الدولة. إن عدم توافق وعجز القوى السياسية على إيجاد مخرجا سياسيا ودستوريا للأزمة غير المعلنة في الجزائر، بغية تجاوز وضعية الفراغ على مستوى السلطة، يرتبط أساسا بعدة عوامل داخلية صرفة، يلعب فيها الجيش قطب الرحى، لا سيما بعدما تداولت عدد من دوائر صنع القرار الدولية أسماء عدة مرشحة لخلافة بوتفليقة، أبرزهم قائد أركان الجيش قايد الصالح، خاصة أن تاريخ الجزائر المعاصر لا يخلو من تدخل سافر للمؤسسة العسكرية والأمنية في اختيار الرؤساء، بالرغم من اعتماد انتخابات شكلية تلعب فيها الأحزاب دور الكومبارس في مسرحية محسومة مسبقا، مثلما حدث سنة 1979 عند اختيار الشاذلي بن جديد، ثم في 1992 مع محمد بوضياف، و1993 مع اليمين زروال، وأخيرًا في 1999 مع عبد العزيز بوتفليقة. إن المحدد الأساسي والرئيسي في صناعة القرار بالجزائر واختيار الرئيس يرتبط بالتوافق داخل مؤسسة الجيش وباقي أجهزة المخابرات، ومنذ عشرية الدم يحاول العسكر الجزائري أن يدير البلاد من خلف الستار؛ لأنه يدرك جيدا أن الخروج إلى العلن مكلف جدا في الظرفية الراهنة من الناحية السياسية والإقليمية، خاصة في ظل الاحتقان الاجتماعي الموجود. وإن فشل الجيش في التوافق على أسماء معينة، خاصة التي تدور حولها التكهنات سواء كان بلخادم أو سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس، يفتح الباب أمام الخيار الأصعب في المرحلة المقبلة، وهو خلافة الجنرال قايد صالح لبوتفليقة، بالرغم من ارتباط اسمه بقضايا فساد ودخوله في مواجهة مباشرة مع الجيل الثاني داخل الجيش الذي بات يرفض طريقة تدبير وتسيير هذه المؤسسة التي تلعب أدوارا حساسة وحيوية في الدولة الجزائرية. *أستاذ العلوم السياسية، جامعة القاضي عياض