مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محنة تونس .. مقدسات ثورية وعاهات مجتمعية وإصلاحات معطلة
نشر في هسبريس يوم 23 - 07 - 2018


الحلقة 1
النص المعروض على القارئ هو إسهام متواضع؛ ولكنه مستقل فكريا في تناول مسائل الشأن العام، بعيدا عن الخطابات المستهلكة والممجوجة والمسيطرة على الساحات السياسية والإيديولوجية وحتى الثقافية والفكرية، وأيضا بعيدا عن الاصطفافات والتصنيفات التي تعيد إنتاج القوالب الجامدة والقناعات الجاهزة والمتوثبة دوما للصدام الإيديولوجي وشيطنة الآخر، المختلف أو المخالف.
بالرغم من النقد الشديد الذي تضمنه المقال لأساليب تعامل ومواقف وسلوكيات نقدر أنها لا تخدم تونس ولا تقدم خطوة في حل معضلاتها، فهو لم يقصد الإساءة إلى أي طرف سياسي أو اجتماعي أو مهني ولا افتعال خصومة مع طرف فكري وحتى إيديولوجي.
كما أن نقدنا ليس موجها إلى هيئات محددة أو قطاعات ذكرت فقط على سبيل المثال والتجسيم، إنما قصدنا المساهمة في نقد وتصويب آليات التفكير وبعض أساليب التعامل مع قضايا البلاد من طرف النخب وكذلك بعض الممارسات الاجتماعية التي لم يعد من الجائز السكوت عنها لما تلحقه من ضرر بالمصلحة العليا للجماعة الوطنية.
كنا نعرف أن قولنا إن تونس لم تكن تحتاج إلى ثورة بل إلى إصلاحات فيه اجتراء على ما يعتبره الكثيرون مقدسا، وإن نقدنا للنزعة الحداثوية سيلقى استنكارا ممن يفهمه كهجوم على الحداثة في ذاتها أو على الحداثة التونسية ومكتسباتها. نعم، كنا نقدر أن نقدنا لتقديس الثورة كنقدنا لتقديس الحداثة وتجلياتها سيثير الامتعاض، سواء في صفوف الأحزاب والجمعيات التي ما زالت تمجد الثورة ورموزها، أو من قبل النخب الرافعة منذ زمن لشعارات التقدم والتنوير ومواجهة "الظلامية "، ومن الهيئات المبشرة بحداثة "بلا حدود".
والحقيقة أنه لم يكن من السهل علينا إخراج الأفكار والملاحظات الواردة بهذا النص لوعينا بخطورة القول وحجم الرهان. كان القلق الفكري يساورنا منذ الأيام الأولى التي تلت رحيل بن علي، ومن يعرف تاريخنا يدرك أن ليس آسفا على منظومة حكم دفعنا ثمن مقاومتها وإنما بناء على استقراء عدد من المؤشرات وتخوف من دخول البلاد في حالة من الانفلات والفوضى، بلاد كانت خاضعة لرقابة نظام شبه كلياني لمدة نصف قرن فإذا بها تجد نفسها خارج أي ضوابط مؤسساتية وقانونية.
لقد أدى تغول النظام السياسي الملتحم بالدولة إلى حالة مزدوجة من تمرد الشعب على مؤسسات الدولة وتصدع هذه الأخيرة بمجرد نزع الغطاء الذي كان يحافظ على وحدتها. أدى الحقد على السلطة السابقة إلى إضعاف السلطة اللاحقة ولدى الفئات والجهات المهمشة إلى رفض أي سلطة. كانت الموجة الثورية العارمة قابلة لكل توظيف وكل مزايدة، وإمكانية مواجهتها بالمنطق وبالعقل الحصيف متعذرة.
كنا لاحظنا في كتابات صحافية صدرت منذ 2011 نشأة حالة اعتبرناها لا معيارية، وتشكل مقدسات ثورية تتأبى على النقد بل حتى على التنسيب. ولم يكن من السهل في ظل هذه الحالة الذهنية تقبل نقد الأوثان الأيديولوجية، سواء تلك التي أفرزها نظام بن علي (مثل العلاقة الضرورية زعما بين مفاهيم العقلانية والعلمانية والمجتمع المدني) أو التي نشأت وترعرعت بعد الثورة.
بالرغم من سيطرة هذا المناخ المحكوم بالمسلمات العقائدية/الأيديولوجية، فقد حاولنا تدقيق القراءة في السيرورة التي انطلقت لحظة 17 ديسمبر 2010-14جانفي 2011 وما زالت فاعلة إلى اليوم. وقد وجدنا فرصة لتعميق البحث في إطار عمل واسع شارك فيه مختصون في علوم الاجتماع والتاريخ والإعلام، من المقتنعين بضرورة الاستفادة من أحدث الأدوات المنهجية والنظرية ومن المفاهيم الجديدة لأجل فهم وتفسير جوانب مهمة من التحولات والتطورات الدراماتيكية التي شهدتها ومازالت تشهدها تونس.
لذلك نقترح على من يريد التعمق في بعض النقاط الواردة بهذا النص أن يتحول من مقال الرأي هذا إلى المقال العلمي الذي نشرناه ضمن مؤلف جماعي عنوانه "التعبئة الانتخابية في تونس" صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سنة 2016.
يتعلق الأمر بمقال طويل النفس حول "الرمزي والمتخيل في انتخابات ما بعد الثورة التونسية". هو مقال بعيد عن التعقيد، يقدم للقارئ المفاهيم الرئيسية ويعمد إلى تشغيلها في فهم عملية إنتاج الرموز الثورية وتحويلها إلى أوثان إيديولوجية وكذا عملية بناء الأسطورة وتوظيفها في التنافس والصراع السياسي، بما في ذلك توظيف رمزية الشهيد من قبل عديد الأطراف ونماذج الأسطورة التي أنتجها الحراك السياسي (أساطير الثورة والمؤامرة والعصر الذهبي والزعيم المنقذ وأخيرا أسطورة التنمية التي بقيت مجرد أحلام ووعود).
في اللحظة التاريخية التي تمر بها تونس صائفة هذا العام، 2018، وإثر ما أفرزته الانتخابات البلدية من نتائج ومن ردود فعل داخل حزب النداء والأحزاب المنبثقة عنه أو المشابهة له نعيش بوادر تحول في المشهد السياسي وحملة سياسية-إعلامية تتذرع بموضوع التوازنات السياسية للدفع مجددا بالتونسيين إلى مواجهات تذكر بما عاشوه خلال 2012-2013.
ورغم اختلاف السياق والدواعي نلاحظ تشابها في آليات الحشد نحو الاستقطاب الأيديولوجي والعودة إلى محاولة تقسيمهم إلى طائفتين علمانية أو حداثية من جهة ونهضوية أو إسلامية من جهة ثانية؛ وهو مناخ اعتبرناه سببا في إهدار الطاقة والوقت الثمين على حساب التنمية وعامل تعطيل للإصلاحات. في كل هذا ما يعطي راهنية لمقالنا على ما نظن.
* * *
وعليه، نتطلع إلى الاهتمام بما يتضمنه من طرف كل من له تعلّق بالشأن العام، وإلى تفاعلات قابلة للنشر سواء في الصحف أو في وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها من وسائل الإبلاغ التي ينبغي أن تفتح لمختلف الآراء ووجهات النظر بدل ما نشهده من عودة إلى احتكار المنابر ولو بشكل مقنع وأساليب دعائية جديرة بأن تصنف ضمن ما أسماه عالم الاجتماع تشاكوتين وجعله عنوانا لكتابه "اغتصاب الجماهير Le viol des foules ". مرحبا بكل وجهة نظر مهما كانت مرجعيتها وبكل نقد ولو كان قاسيا، المهم أن يكون نزيها وصادقا.
***
كان من حق التونسيين أن ينتظروا من زوال حكم بن علي واحتكار التجمّع الدستوري بداية انتقال ديمقراطي يوفر ليس فقط الحريات السياسية والمدنية ومشاركة أوسع في صنع القرار وإنما كذلك إطارا وحافزا لتنمية تخلق فرص العمل للشباب العاطل وتحدّ من أسباب ومظاهر التفاوت الجهوي، وتقرّب أفق العدل الاجتماعي وتحقيق الكرامة للفئات والمناطق المهمّشة، وتكون أيضا قاعدة مادية للشعور بالمواطنة الإيجابية.
وإلى جانب ذلك، كانت الشرائح الواعية تتطلع إلى الحدّ من الفساد وإرساء دولة القانون وتحسين أداء المنظومة الصحية والتربوية، ومحاصرة أسباب الانحراف والجريمة. كان الشعور واسعا ولو بتفاوت بأن البلاد في حاجة إلى التخلص من الاحتكار السياسي والزبائنية المقيتة وفتح آفاق أوسع للإدماج المهني للشباب العاطل وأخلقة المعاملات الاقتصادية والإدارية وتحقيق الأمن الاجتماعي.
تونس الثورة، تونس الأزمة
لم تكن كل هذه التطلعات تحتاج إلى ثورة سياسية واجتماعية تدك النظام القائم وتقيم بناء جديدا تماما على أنقاضه، خاصة إذا اعتبرنا انعدام الاتفاق على أرضيتها الفكرية وأهدافها وغياب القيادة الرشيدة، الحزبية أو الشخصية، القادرة على توجيه مسارها والتأثير الحاسم في مآلاتها، وبالتالي الحيلولة دون تحوّلها من انتفاضة مشروعة على الاستبداد والفساد وتوق مشروع إلى التحرّر وتحقيق حياة أفضل إلى حالة من الانفلات العام وانعدام الأمن من جهة، والتناحر الإيديولوجي والصراعات السياسية الحادة من جهة ثانية، وباختصار الفوضى التي تمثل الجانب السلبي والخطير في كل ثورة.
بالمقابل، كان إعطاء مضمون اجتماعي واقتصادي تقدمي للانتقال الديمقراطي أمرا مطلوبا، خاصة أن الشاغل الرئيسي للشباب هو الحق في الشغل والحياة الكريمة. وبوسعنا القول إن الأغلبية الشعبية أو على الأقل عناصرها الفاعلة لم تكن لتقبل بإجراءات ترقيع أو تلميع للموجود، ولا بتكرار سيناريو برنامج الإصلاح الهيكلي، الذي سبق أن فرضه صندوق النقد الدولي في أواسط الثمانينيات بغية معالجة أزمة المالية العمومية وتدهور الميزان التجاري وانهيار الدفوعات الخارجية، وهي إجراءات قادت إليها لا محالة الإدارة السيئة للموارد والمؤسسات العمومية؛ ولكن الاكتفاء بها كان آنذاك ولا يزال بعد مرور ثلاثين سنة يمثل معالجة جزئية تطال الأعراض دون الأسباب. وعليه، فإن ما تقدمه حكومة الشاهد، منذ أشهر، كإصلاحات كبرى يبقى على أهميته دون المطلوب وهو مراجعة منوال التنمية.
لم تكن تونس في حاجة إلى ثورة تضرب مع النظام السياسي القائم كل نظام وكل معنى للانضباط وكل روح مدنية وكل هيبة للدولة وكل محل للسلطة أيّا كان مجاله، فتستبدل تعسّف آلة بن علي بحالة من الفوضى واستهتار أفراد أو عصابات تظن جهلا وعجرفة أن الحرية هي أن تفعل ما يحلو لك وأن حق الفرد لا حدّ له، وهي لعمري حالة من استشراء الأنانية ومن التفكك أصابت حتى أجهزة الدولة المكلفة بفرض علوية القانون.
نعم ! لم تكن تونس في حاجة إلى ثورة تفتح بوصفها كذلك على المجهول ولا يعلم أحد إلى أين ستقود، حتى بصورة تقريبية. وإذا كانت قيادة الحزب الديمقراطي التقدمي الذي عارض بن علي عشرين سنة قد وقفت ذلك الموقف الذي أثار سوء الفهم، بل استنكار كل المعارضات الأخرى، فلأنها كانت تملك حسّا تاريخيا وعارفة بتاريخ الثورات ومصائرها.
ومن جملتها أنه حتى في حالة الثورة البولشفية التي قادها حزب قوي وعلى رأسه قيادات فذة مثل لينين وتروتسكي وزينوفياف وبوخارين، فقد انزلقت البلاد إلى أتون حرب أهلية مدمّرة وعرفت القمع الواسع وتصفية القيادات التاريخية كلها من طرف ستالين، ولا نتحدث عن فواجع "الثورة الفرنسية الكبرى" السبّاقة أيضا إلى سيناريو التصفيات والحرب الأهلية الضروس وإرساء ما سمّاه الفرنسيون أنفسهم حالة الرعب أو الإرهاب la Terreur، فما بالكم بثورة تونسية لم يقدها حزب ولا توقعها أحد؟ ومع أن تونس تجنبت مصير الأقطار العربية التي هبت عليها "العاصفة الثورية" فإننا بالنظر إلى التطوّرات اللاحقة لا نرى سببا للافتخار المبالغ فيه.
وإذا جاز لنا استعارة بعض ممّا يصطلح عليه بالثورة الهادئة التي انخرطت فيها الديمقراطيات الغربية بعد مرحلة الزوابع، فإننا نقول إن تونس كانت ولا تزال في حاجة بالأحرى إلى "إصلاحات ثورية"، أي إصلاحات عميقة وشاملة مدروسة ومتوافق بشأنها قدر الإمكان عبر إجماع وطني أو ما يشبه الإجماع؛ وذلك لأجل معالجة الاختلالات الاقتصادية الهيكلية القطاعية منها والجهوية وإعادة النظر في خارطة الاستثمارات الإنمائية وتوزيع المرافق الصحية والثقافية والبحث،
ولما لا عن صيغة جديدة من التضامن الوطني والتكامل بين المناطق المتوفرة على الموارد الطبيعية من ماء وغابات وفوسفاط وبترول إضافة إلى اليد العاملة والمناطق المتوفرة على الموارد المالية والكفاءات البشرية والتقنية والعلمية.والكل بغاية تحقيق الاندماج الوطني الفعلي ورفع وتائر النمو وإنتاج مواطن الرزق والحدّ من أسباب الهامشية والانحراف والجريمة والتطرّف، وباختصار توفير أسباب الرفاه المادي والتقدم الاجتماعي والنهضة الثقافية والارتقاء الأخلاقي.
ولكن بدلا من الإصلاحات المستوجبة أو المأمولة، شاء سوء حظ التونسيين أن يشهدوا طوال السنوات السبع الماضية مسلسلا لا ينتهي من المزايدات على التحدث باسم الثورة واستحقاقاتها أو الوطن ورموزه أو الحرية ومتطلباتها، أو الدين ومقدساته أو الحداثة وأيقوناتها. تجاذبات ونزاعات بل مهازل من تصارع التيارات الإيديولوجية وتشكل ثم انفجار الأحزاب والكتل البرلمانية. تعاقب الإضرابات والاعتصامات وتعطيل المؤسسات الكبرى المنتجة ومرافق الخدمات العامة تارة باسم حقوق العمل والعمّال وطورا باسم حق البطالين في العمل ! ا
ستشراء فوضى السوق على حساب كل من المنتجين والمستهلكين وإحجام الحكومات في الغالب عن التدخل الناجع لتطهير مسالك التوزيع من المحتكرين والمضاربين بقوت الطبقات الدنيا والمتوسطة. استفحال ظواهر التهريب والفساد والتهرّب الجبائي والاجتماعي وتغوّل أباطرة يكدسون الثروات بخرق القانون وشراء ذمم المؤتمنين على إنفاذه. توقف كل ما أنجز قبل الثورة في مجال النظافة والحفاظ على البيئة وصولا إلى انهيار الوضع في أماكن عدّة. تآكل البنية الأساسية وتدهور في خدمات وسائل النقل العمومي إلى درجة لم تشهد تونس لها مثيلا.
هو مشهد بلاد كانت على قلّة إمكاناتها، وبالرغم من الثغرات ومواطن الضعف العديدة، قابلة للعيش، فإذا بها تتراجع القهقرى على ألف صعيد، وتصبح غير قابلة للمقارنة حتى بأقطار عربية كانت في نفس مستواها مثل المغرب أو الأردن.
مشهد يحزن أغلب التونسيين الذين يشعرون بالمرارة والإحباط حتى أصبح الكثير منهم عند الانفعال يبدي حنينه للعهد "البائد" باعتباره على الأقل ضمن للمواطن أمنه وتلبية حاجياته بأسعار معقولة، بل أصبح بعضهم يتمنى لو يطل عسكري يتلو البيان رقم واحد ويعيد البلاد للانضباط والعمل.
إزاء كل هذا ارتأينا التقدّم بهذه الأفكار، مساهمة في استجلاء بعض عوامل الأزمة العامة التي تغرق تونس في مستنقعها، وبعيدا عن القوالب الجاهزة والمسلمات المستهلكة، وكذلك عن أي تموقع يرتهن حرية الفكر وأي تحيّز فئوي يلغي سلطان الضمير.
معوّقات الإصلاح
إذا وضعنا حديثنا ضمن المنظومة الديمقراطية التعددية الحالية وأخذنا في اعتبارنا جملة الأطراف التي تنشط في إطارها، ما يعني استثناء الإسلام السلفي الرافض أصلا لنظام الجمهورية وللدستور، فإن بوسعنا أن نتبيّن جملة من العوائق حالت ولا تزال تحول دون التقدّم في طريق الإصلاح المنشود وإنجاح المسار الانتقالي، نقدمها مختصرة قبل أن نفصل فيها القول. يتعلق الأمر بعوائق ثلاثة:
عائق إيديولوجي-ثقافي: أبرز تجلياته تحوّل الثورة عند البعض والحداثة عند البعض الآخر من أفق للنضال من أجل غد أفضل يصنعه الإنسان بإرادته وحلم مشروع بمجتمع يوفر العدل والمساواة لسائر أفراده وفئاته إلى قوالب جامدة يراد فرضها على الواقع بصورة تعسفية وأصنام تعظمها أطراف مؤدلجة وتسعى إلى إملائها وفرضها على مجتمع متعدّد المشارب ويغلب عليه الاعتدال في تناول الأمور.
عائق سياسي: يتمثل في تنافس مشروعين للهيمنة والحكم اعتمدا في لحظة أولى منهج التخويف من الآخر وشيطنته والعمل على إقصائه من الساحة، بل اغتياله رمزيا، لينتقلا في لحظة ثانية إلى التقارب واختزال التوافق الوطني الواسع الذي فرض عليهما إلى توافق حزبي ضيّق.
عائق اجتماعي وثقافي مزدوج: يتمثل من جهة في التمترس وراء الأنانيات المهنية وامتيازات بعض الفئات المنظمة من أصحاب المهن الحرة ومن الشغالين أيضا، ومن جهة ثانية عقلية المحاربة من أجل افتكاك موطن شغل قار لدى الدولة حتى وإن لم يقابله عمل فعلي، وتفضيل القعود والمطالبة الاحتجاجية على العمل اليدوي أو الظرفي.
هذه بعض عاهات الجسم المجتمعي التونسي وهي ليست الوحيدة قطعا، فثمّة أدواء غيرها لا تقل ضررا وخطرا، بعضها ضيق القاعدة وهو النزوع الإرهابي وبعضها واسع الانتشار وهو سرطان الفساد الذي تطرقنا له في مقالات سابقة. فللنظر في معطلات الإصلاح والإنقاذ المذكورة واحدة واحدة.
* خبير تونسي في علم الاجتماع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.