قراءة في كتابي «PSYCHOLOGIE COLLECTIVE ET ANALYSE DU MOI» لسيجموند فرويد .. و «PSYCHOLOGIE DES FOULES» لغوستاف لوبون (ج3) - الجمهور قطيع طيع، لا يستطيع الحياة بدون سيد، - تسعى الجماهير خلف الوهم، ولا تطلب الحقيقة، - سرعان ما تنطفئ أحلام الجماهير أمام صدمة الواقع، سلطة القائد وقوة الجمهور النفسي يتمتع القائد بسلطة معنوية يمارسها على الجمهور، فيكسب ولاءهم وطاعتهم، وهي سلطة قد لا يصنعها بنفسه لنفسه، وإنما تتدخل عدة جهات لتضفي شرعيات على شخص قائد الجمهور، منها الشرعية الدينية التي يتجلى مفعولها سريعا وقويا ومؤثرا ومستمرا ساريا إلى ما لا نهاية، لأنه يقوم على الغيبيات والاعتقاد بالقضاء، ثم شرعية القوة التي تسخر له البطانة التي تخدم مخططاته، ثم المال الذي يعبد الطريق نحو النصر وتسهيل المأموريات. وهذا لا يعني أن كل قائد يدس نوايا خبيثة، لكن التاريخ يحمل أخبار القيادات التي استغلت الجمهور، في تلاحمه، لتحقيق نزوات فردية تخص القائد، أو تخدم جهة سرعان ما تقفز على أحلام الجماهير التي تصطدم بالواقع، لأن الجمهور النفسي ينخرط بفكره الجمعي، ويندفع بعاطفة جامحة، وثقة موحدة في القائد، ولننظر للمستفيدين من الثورات التي خاضها الجمهور النفسي عبر التاريخ. فلابد للزعيم، القائد، أن يومن بفكر معين يترجم أحلام الجمهور النفسي، وإلا سيكون مجرد مفتري ووصولي. ولعل ما يميز الجمهور النفسي، اعتقاده المطلق بسلطة الزعيم، فيضفون عليه صفة القدسية التي تبعده عن الخطأ، فيجعلون منه شخصا ذا مهابة، أي تلك القوة الخفية الغامضة التي لا يمكن لأي مقاومتها، وهي "الهيبة"، يمتزج من خلالها الاحترام بالخوف والدهشة، وصولا إلى درجة من التأثير لا تفسير لها، حد الاستلاب. ويؤكد سيجموند فرويد على قوة الفرد على مستوى الإنتاج المعرفي والفكري، حيث كان له الفضل في الابتكار والاختراعات الكبرى، أما الجمهور النفسي فلا تخلو روحه من الإبداع على مستوى اللغة والأهازيج الشعبية والغناء(14)، والحكاية والأقوال والحكم، وإنتاج الطقوس والرموز والتقاليد، وما إلى ذلك من منتوج يصب في وعاء الثقافة الشعبية، كما أن الجمهور النفسي يمكن أن يصبح ملهما للفرد ومحفزا للإبداع، من هنا تتبدى مناقضة سيجموند فرويد لكل من لوبون وسيغل، حيث يرى أنهما يتحدثان عن جماهير عرضية، تتجمع وتتفرق بسرعة، فينتهي خبر تواجدها واندفاعها، وهو تفسير للجمهور النفسي بمفهوم الثورة، كما هو الشأن بالنسبة لجمهور الثورة الفرنسية، ويقابل هذا النوع من الجمهور، جمهور ثابت هو الذي يتواجد داخل المؤسسات الاجتماعية، وهذا مكمن التناقض الذي وقع فيه لوبون، وهو ما أوضحه، فرويد وكذلك ماك دوغال في كتابه "العقل الجماعي" (15)، فالجمهور، بالمعنى السيكولوجي، يجب أن يشترك أفراده في شيء أو أشياء تؤلف بينهم، فيحدث ذلك التأثير والتأثر، وبالتالي التجانس العقلي والعاطفي الذي سوف يسرع بتشكيل الجمهور النفسي(16)، من هنا تبرز، كما يرى دوغال، تلك المشاعر الإنسانية الراقية، عند الالتحام والاندفاع والانفعال العاطفي للجمهور النفسي، أو ما يسمى "العدوى الوجدانية"، إذ يشعر الفرد من داخل الجمهور، بالقوة التي لا حدود لها، والتي لا تقهر، وأنه خطر يتهدد الآخر، وبهذا ينخفض المستوى الفكري للفرد، لأنه يقدم على أفعال ما كان ليقوم بها لو كان بمفرده، فهو يستمدها من موقعه وسط الجمهور النفسي، بحيث يحكمه الشطط العاطفي، فيتحكم العقل الذكي في العقل الأقل ذكاء، لأنهم يقعون تحت تأثير رهبة الجمهور، ويفقدون مواهبهم بسبب انخراطهم في صفوف الجمهور اللامنظم، من هنا لا يجب فهم الجمهور النفسي أنه جمهور سلبي، بل عكس ذلك، فهو ذو تأثير في مجريات الأحداث ويشكل لحظة التحام وقتل الأنا داخل الفرد، وبالتالي جعله يتحرك ويبدع وفق لانظام الجمهور النفسي، وهو التحام تحكمه العاطفة البدائية، وهو ما أشار إليه أيضا Wilfred Trotter، في كتابه "غرائز القطيع في السلم والحرب"(17)، متأثرا بغوستاف لوبون في تناوله للجمهور النفسي. التقهقر النفسي للفرد وإسرافه العاطفي يتقلص النشاط الفكري للفرد، وتتقلص عاطفته، بسبب انصهاره وسط الجمهور، بل يتوجب على الفرد الكف عن التفكير بما هو عقلاني وواقعي ومنطقي، وهو ما يمكن تحقيقه عن طريق تنظيم الجمهور النفسي، أو الجمهور البدائي، فتحدث تغييرات نفسية لدى الفرد بفضل قوة تأثير الجمهور النفسي الذي يمارس عليه نوعا من الرهبة، وقد وردت العديد من التفسيرات لهذه الظاهرة، من طرف ثلة من الباحثين في مجالي سيكولوجيا وسوسيولوجيا الجماهير، ليخلصوا إلى نتيجة واحدة هي ما يسمى "الإيحاء"، ويفسر لوبون هذه الظاهرة، أي الإيحاء، كونها تعود إلى هيبة الزعيم وعامل الإيحاء القائم بين أفراد الجمهور(18)، وقد استخدم الإيحاء التنويمي في العلاج النفسي، من طرف الطبيب الفرنسي بيرنهايم، ولو ان سيجموند فرويد أبدى اعتراضه الشديد على هذه الطريقة، إذ يحق للفرد أن يرفض الإيحاء ... هذا وسوف يعرف مصطلح "إيحاء" تطورا على مستوى تعدد المفاهيم والاستعمال، لكن فرويد ينصرف عنه للغوص في معنى الليبيدو الذي يمتح من نظرية الوجدانيات، ويستعمل للدلالة على تلك الطاقة من النوازع التي يمكن تسميتها الحب، وهو حب مرتبط بالجماع، ولا يفصل بين جميع أصناف الحب، منه حب الأولاد وحب الأهل وحب الأصدقاء والتعلق بالأشياء والأفكار المجردة، ويؤكد التحليل النفسي أن جميع أصناف الحب تعبر، في بعص الأحيان، عن دافع نحو الجماع، وفي أحيان أخرى عن أشياء تحول دون تحقيق هذا الجماع، وهو أمر لا يختلف عن قول أفلاطون عن الأيروس، أو القديس بولس ... (19)، فأصول الحب جنسية، ولو أن العديد من الناس يعتقدون بأن الأمر يتعلق باحتقار وإهانة من طرف التحلي النفسي الذي يرجع كل شيء إلى الرغبة الجنسية، وهذا لا يعني أي مهانة، فالحب رابط لعدد من العلاقات، ليس بالضرورة الحب في بعده الغريزي، الشهواني، الحيواني، لهذا فعندما نتحدث عن التحام الجمهور النفسي، فإن هناك قوة خفية تؤلف بين أفراده، قوة خارجة عن الإندفاع والعنف والانسياق وراء تطلعات القائد وتوجيهه، هناك حب يجمع بين أفراد هذا الجمهور، لا يمكن أن يفضي إلا إلى التعلق بالآخر عبر تغييب الفكر الفردي والانخراط الطوعي في التفكير الجماعي. من هنا يتوزع ويتنوع الجمهور حسب الظرفية والسياق اللذان كان سببا في تشكيله. فقد يتشكل الجمهور النفسي بسبب المعاناة والقهر ضد حاكم فاسد، أو سيد جبار متغطرس، أو أجنبي مغتصب للأرض والعرض، أو ضد الفقر، أو لسبب عارض قد يكون تافها وأقل قيمة، لمجرد أن نواة هذا الجمهور تشكلت وشرع الأفراد في الانخراط فيها، وكأن هناك قوة خفية مغناطيسية تجذب الأفراد ليشكلوا جمهورا نفسيا، ومنها التعاطف مع المغلوب ظالما أو مظلوما، أو الموقف المعادي لكل أمني أو عسكري بشكل مبدئي دون ما سبب، فقط لأنه يتموقع في صف الآخر المقابل للجمهور النفسي، وبالتالي لا تتم مؤازرة الأمنيين والعسكرين، ربما لأنهم في خدمة الخصم أو عدو الجمهور النفسي، وهو أمر ينم عن تلك العاطفة القوية التي تضخ في شريان الجمهور النفسي. فلننظر أيضا لنوع آخر من الجمهور النفسي، وهو الجمهور الذي يتكدس داخل مدرجات ملعب ليشاهد عرضا لمصارع ثيران وهو يغرس رماحا وسيفا تلو الآخر في جسد ثور أستنزف كل قواه وخار أمام سادية أدمين يستمتعون ويستلذون بمشهد لن يقدم عليه الحيوان نفسه، يصفقون ويهتفون ويفرحون، هم حتما جمهور نفسي تحكمه غريزة القطيع البدائية ... جمهور يغيب فيه التفكير الفردي، ليحل محله الفكر الجماعي أو الجمعي، لأنه لو فكر الفرد بمعزل عن الجماعة، لما استطاع أن يتابع مباراة لمصارعة الثيران أو في الملاكمة بشتى أنواعها، أو المشاركة في حرب بين البشرية تحصد ملايين الأرواح، ولننظر جمهور كرة القدم الذي يعود لبدائيته بكل ما يتسم به القطيع من غزيزة ... ثم إن أخطر ما في الأمر، أن يستمر الفرد يفكر بذهنية الجمهور النفسي وهو خارج الجمهور(20) الهوامش: Sigmund Freud, “ Psychologie collective et analyse du moi ” (1921), Traduction de l'Allemand par le Dr. S. Jankélévitch en 1921, Éditions Payot, Paris, 1968. p. 18 Op.cit. p. 19 Op.cit. p. 20 Wilfred Trotter, Instincts of the Herd in Peace and War, T Fisher Unwin, London, first published, 1916. Ibid. Sigmund Freud, “ Psychologie collective et analyse du moi ”… p. 24 Op.cit. p. 25 -26 رأي صاحب المقال