غريب أمر هذا البلد الصغير في حجمه والكبير في حضوره، المتوافق مع محيطه والمختلف عنه. وإذا كانت مساحة الحرّيات واسعة فيه لكنّ الحقوق الأساسية للإنسان ظلّت منقوصة ومستلبة و”ديمقراطيته التوافقية” عائمة ومنحوسة، حتى وإن حافظت على التوازن فبقلق وتوتر مستمرين مع موجات من العنف لم يكن بعيداً عنها تأثير العوامل الخارجية، ناهيك عن تهديدات ” إسرائيلية” حكمتها الجغرافيا السياسية بحكم التصاقه بفلسطين. وبعد أن كان يطلق على لبنان ” سويسرا الشرق” عشية الحرب الأهلية 1975-1989، التي حصدت الأخضر واليابس، وإذا به ينحدر بحيث يجد التعصّب والتطرّف والعنف تربة صالحة فيه، لدرجة أن مظاهر العنف والإرهاب والتداخلات الدولية والإقليمية تعدّدت فيه واتخذت أشكالاً مختلفة . وعلى الرغم من كل ما قدّمه لبنان للعالم العربي من إبداع وحداثة وتمدّن وأدب وفن وإعلام وتعايش على مدى تاريخه البعيد والقريب، فإن هذه المظاهر تنامت في جوفه أيضاً، فيكفي أن تحدث مشاجرة بسبب المونديال لتنتهي بحادث قتل، ناهيك عن الرصاص الطائش الذي يتطاير فوق الرؤوس بمناسبة وغير مناسبة، وفي الأفراح والأتراح، الأمر الذي فاقمه احتدام الوضع الاجتماعي وتردي الأوضاع الاقتصادية. وبقدر ما يتمسّك اللبناني بوطنه ويذود عنه فإنه يضطر للهجرة، بحيث أصبح اللبنانيون الذين يعيشون في الخارج أكثر من هم في الداخل بما يزيد عن ضعفين، ومع ذلك فإن هذا البلد يستقبل أكثر من مليون لاجئ سوري، إضافة جنسيات عربية أخرى، وكان من نتائج زيادة أعداد اللاجئين ارتفاع منسوب العنف وانتشار المخدرات والإتجار بالبشر وعمالة الأطفال، فضلاً عن التسوّل والجريمة المنظّمة. وإذا كان هذا أحد أوجه الوضع اللبناني، فإن هناك وجهاً آخر هو أقرب إلى المفارقة حيث يبقى لبنان يسبح عكس التيار، فقد دفعت تلك الأوضاع جهات مدنية ورسمية للتفكير في مواجهة ظاهرة العنف وللحدّ من تأثيراته، وقد استجاب مجلس الوزراء اللبناني بأريحية واتخذ مبادرة بتوصية من وزارة الثقافة حين قرّر اعتماد يوم 2 اكتوبر (تشرين الأول) يوماً وطنياً لثقافة اللّاعنف، وحسب علمي فلبنان أول بلد عربي ينحو هذا المنحى وتجري الاستعدادات للاحتفال بالمناسبة في السراي الحكومي . وإذا كان ذلك ينم عن إدراك سليم بأن العنف الذي عانى منه لبنان لم يترك تأثيره على البنى التحتية الأساسية والمرافق الحيوية ويحصد عشرات الآلاف من الأرواح فحسب، بل إنه انغرس في النفوس وانغمس في الأرواح، الأمر الذي يحتاج إلى معالجة من نوع جديد ليس للآثار الضارة والخطيرة، الواقعة على الضحايا وعلى المجتمع وامتداداتها وتأثيراتها العائلية والتربوية والدينية فحسب، بل لنشر ثقافة اللّاعنف والتسامح، باعتبارها ثقافة بديلة. وكانت وزارة التربية والتعليم العالي قد قررت إدخال مادة اللّاعنف في المناهج الدراسية والتربوية وعلى جميع المراحل، وتقديم البديل عن ثقافة العنف السائدة والتي لفّت لبنان والمنطقة بشرنقتها، لاسيّما العنف الطائفي والديني والإثني والمجتمعي ولم يعد أمراً عابراً أو نزاعاً محلياً، بقدر ما أصبح جزءًا من صراع دولي باسم الدين أو الطائفة أو التنوّع الثقافي أو العادات والتقاليد أو غير ذلك. هكذا يدرك هذا البلد الصغير أهمية التربية على اللّاعنف، ولا بدّ أن يكون ذلك جزء من عمل مشترك بتوفّر الإرادة السياسية يفضي إلى تجفيف منابع العنف الفكرية والاجتماعية والسياسية والدينية والمالية، وتلك مهمة طويلة الأمد وتتطلب جهوداً كبيرة ومستمرة ومتراكمة لتحقيقها، مثلما تحتاج إلى تعاون دولي وإقليمي فعّال. إن إدخال التربية على اللّاعنف في المناهج الدراسية يعني من الناحية العملية تشجيع ثقافة التواصل والتفاعل والتبادل، وثقافة السلام والتعايش بين أبناء الوطن الواحد وبين البشر بغض النظر عن انتمائهم الديني أو الطائفي أو الإثني أو اللغوي أو الجهوي، ويفترض ذلك أيضاً الإقرار بالمساواة التامة ومنع التمييز لأي سبب كان، مع الإدراك إن ذلك لن يحصل بالقوانين وحدها وإنْ كانت ضرورية، بل من خلال الحياة المشتركة حيث تلعب الثقافة والأدب والفن والرياضة والتجارة والسياحة والصداقة كل في مجاله دورها المهم. وكانت بلدية بيروت قد وافقت على وضع تمثال اللّاعنف “العالمي” (المسدس المعقوف الذي صممه الفنان السويدي كارل فريدريك رويترزفارد) على قاعدة ضخمة في “منطقة الزيتونة”، وتتعاون المكتبة الوطنية لوضع رمز للّاعنف يمثل النموذج العالمي في مدخلها الأساسي أيضاً كجزء من حملة تنوير بأهمية اللّاعنف. ولبنان هذا البلد الصغير أسس أول جامعة للّاعنف في العالم وهي ” الكلية الجامعية للّاعنف وحقوق الإنسان AUNOHR”، فبأول تفتح لبراعمها بلورت باقة القرارات اللّاعنفية التي تمت الإشارة إليها في أعلاه على الصعيد الحكومي أو في نشر ثقافة اللّاعنف في الساحات والحدائق العامة وفي مجال الفنون والآداب، وهكذا يغدو لبنان على الرغم من كل شيء معْلماً ثقافياً وحضارياً في نشر ثقافة اللّاعنف. وبقدر كونه حائراً فإنه بلد محيّر وغريب ومتميّز بكل ما فيه.