المتابع للتطورات السياسية التي تشهدها المنطقة، وخصوصاً تطورات المشهد السياسي الفلسطيني وتحولاته، يدرك أن ل"إسرائيل"، أهدافها وتطلعاتها عند كل مرحلة تلجأ فيها إلى تحديد شكل وطبيعة العلاقة مع الفلسطينيين- خاصة سكان قطاع غزة- تصعيداً، توتراً أو تهدئة. وعادةً ما تذهب دولة الاحتلال إلى خلق الذرائع دون الحاجة إلى تبرير منطقي تقبله السياسة أو القانون. فسياسة العقوبات الجماعية والحصار الذي فرضته "إسرائيل" على سكان قطاع غزة منذ منتصف عام 2006، وأعمال الانتقام التي تقترفها ضد المدنيين الفلسطينيين في مخالفة صريحة لقواعد القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان؛ كانت قد أحالتها إلى مبرر استهداف قوى المقاومة في غزة التي أسرت في 25 يونيه 2006، الجندي "جلعاد شاليط" وفشلت "إسرائيل" في تحديد مكانه على مدى سنوات، وردّتها أيضاً إلى ضرورة اسقاط حكم "حماس" في قطاع غزة بعد أن حصدت أغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني وشكلت الحكومة الفلسطينية.. ف"إسرائيل" "تواصل العمل ضد حماس على الصعيدين العسكري والسياسي لدى المجتمع الدولي.. ولن نقبل لهذه الحركة التزود بأسلحة واستخدامها ضد التجمعات السكنية الإسرائيلية" هذا ما قالته وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني (2008). الشاهد أن سياسة "إسرائيل" في تحديد الأولويات لم تتغير، وهل يمكن لنا تفسير اندفاعها إلى توقيع اتفاقات التهدئة مع الفصائل الفلسطينية برعاية مصرية في أعقاب العدوان أعوام 2008-2009/2012/2014، إلا في إطار حماية مصالحها والحفاظ على أمنها، وضمان وقف كافة أشكال المقاومة ضدها؟. تذهب إسرائيل إلى أبعد مدى عندما يتعلق الأمر بمصالحها وبإجراءاتها وعقوباتها ضد الفلسطينيين، ولعل قرار رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير الجيش في 9 يوليو 2018، والمقرر سريانه في 10 يوليو 2018، بإغلاق معبر كرم أبو سالم (المعبر التجاري الوحيد لقطاع غزة)، وتقليص مسافة الصيد البحري إلى مسافة 6 أميالٍ بحرية على امتداد شواطئ القطاع، يأتي في نفس السياق.. سياق الرد على أنشطة المقاومة الشعبية السلمية على الحدود الشرقية لقطاع غزة، والمستمرة منذ أواخر شهر مارس 2018. لم يتحقق للقوات الحربية الإسرائيلية، رغم استخدامها القوة المفرطة ضد المدنيين الفلسطينيين، وقف أنشطة المقاومة السلمية وآخرها اطلاق الطائرات الورقية والبالونات الحارقة من المناطق الحدودية الشرقية، والتي تسببت في احراق آلاف الدونمات الزراعية الإسرائيلية في مناطق غلاف غزة، فأوصى المستوى السياسي الإسرائيلي، مرة أخرى، بالعقوبات الاقتصادية إلى جانب استخدام القوة العسكرية ضد المتظاهرين المدنيين، وهي أدوات كثيراً ما لجأت إليها السلطات المحتلة للالتفاف على حق الشعب الفلسطيني في المقاومة طوال مسيرة النضال الوطني الفلسطيني وفي الانتفاضتين الفلسطينيتين 1987، و2000 خصوصاً. ولا شك أن "لإسرائيل" أهدافاً أخرى عديدة من وراء لجوئها إلى العقوبات الاقتصادية، وهي التي تدرك أن المقاومة المكفولة قانوناً أضحت قدراً فلسطينياً، لا تراجع عنه إلا بإنهاء الاحتلال وتحصيل الحقوق الوطنية الفلسطينية، خصوصاً أن المفاوضات والتسوية السياسية لما تحقق أهدافها بعد، وهي- أي "إسرائيل"- تدرك، مرة أخرى، أن سياساتها وإجراءاتها ضد الفلسطينيين، بما في ذلك تشديد الحصار على قطاع غزة لعشر سنوات لم يغير معادلة الصراع وخيارات المواجهة معها. لهذين السببين وغيرهما أراد المستوى السياسي الإسرائيلي أن يفرض معادلة جديدة مع غزة تستهدف قضايا كبرى واستراتيجية من زاوية أن "الضغوط تقابلها انفراجات".. أرادت "إسرائيل" أن تضغط على "حماس" حتى تصبح مسألة رفع العقوبات الاقتصادية عن غزة بأثمان سياسية، أولها، تمرير المشروع الأمريكي "صفقة القرن"، التي تستهدف المشروع الوطني الفلسطيني، وتبدأ بفصل غزة عن الضفة الغربية، وثانيها، تحسين شروط التفاوض مع حركة حماس في أول جولة مفاوضات قادمة حول إطلاق سراح الأسرى المحتجزين منذ العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع عام 2014. *كاتب فلسطيني مقيم بالمغرب