إن التأصيل لإستراتيجية فعالة لمواجهة ظاهرة التنظيمات التكفيرية العنيفة يستوجب معرفة وإلماما كبيرين بالبيئة الإستراتيجية لكل بلد على حدة، بالإضافة إلى التمكن من جميع الجوانب التكتيكية التي تحكم وتُوجه تحركات هاته التنظيمات في استهدافها للمملكة المغربية كهدف إستراتيجي تم تسطيره من خلال استقراء واقع الدول "التي ترشحها الدراسات" حسب تعبير المنظرين الإستراتيجيين لهاته التنظيمات. هذا التأصيل المتعدد الأبعاد هو الوحيد القادر على رسم معالم إستراتيجية المواجهة والصد لمنع أي اختراق للتنظيمات التكفيرية ومن يدور في فلكها، مع ضرورة التركيز على الجوانب التكتيكية للصراع. ويبدو أن خط التحرير المرتبط بالتمويل الفكري الذاتي يجعلنا، رغما عنّا، نتصور أقرب التنظيمات لخط المواجهة الآنية، والمتمثل في من يطلق على نفسه "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" أو "داعش". كما أن واقع الحركات الجهادية يبين أنها تتبنى نفس إستراتيجية المواجهة مع الأنظمة "المرتدّة"، حسب تأصيلاتها الفقهية. وتكمن خصوصية المواجهة مع هذا العدو في أنه يبقى أكثر من "تنظيم"، فهو "فكرة" آمن بها ملايين عبر العالم، ووحّدهم "رباط البيعة المقدس" مع خليفتهم المزعوم. ويعتمد هذا النوع من التنظيمات على تكتيك الانتشار الفكري بدون انتشار تنظيمي، لأن انتشار الفكر أسرع وأسهل من انتشار التنظيم وأكثر أمنا وأكثر فاعلية. ولعل الخطأ الإستراتيجي الذي تسقط فيه بعض الأنظمة هو اعتقادها أن هذه التنظيمات التكفيرية إنما تحكمها الارتجالية في التدبير وتعاني من التراجع الفكري وضعف في تدبير المرحلة. وهنا يمكن القول إن إستراتيجية هذه التنظيمات محددة بشكل دقيق، رغم استبعاد تحققها على أرض الواقع، في الزمان والمكان. وهنا يقول القيادي في تنظيم القاعدة أبو مصعب السوري "إن الجهاد العالمي يتطور عبر ست مراحل شهدنا منها أربع مراحل حتى الآن، وهي ضرب أمريكا في عقر دارها، استدراجها لبلاد المسلمين، بناء قاعدة صلبة في العراق، ورابعا إسقاط الأنظمة العربية وإعلان دولة الخلافة...وبين إكمال المرحلة الرابعة والتحضير للمرحلة الخامسة، وهي الاشتباك المباشر مع إسرائيل، يتوقع قادة القاعدة ومنظرو الجهاد العالمي أن يدخل العالم العربي في فوضى متوحشة، وأن من مهام القاعدة في ذلك الوقت هو إدارة هذا التوحش عبر ثلاث مراحل: "مرحلة شوكة النكاية والإنهاك، مرحلة إدارة التوحش ومرحلة التمكين". من هذا المنطلق لا يمكن لأي تكتيك للمواجهة أن ينجح ما لم تتم بلورته انطلاقا من الأدبيات والمخطوطات المنظرة لهذه التنظيمات، والتي توضح، في بعضها، أسلوب الاستعداد وإعداد العدة والمناورة والمواجهة وطرق الاستهداف من أجل ربح أولى المعارك التي تؤطرها مرحلة "شوكة النكاية والإنهاك". كما أن دراسة تاريخية للمدارس الإستراتيجية التي بلورها منظرو كل عصر على حدة يمكن أن تشكل البوصلة لاختيار وإسقاط إحدى الاختيارات التي تتلاءم موضوعيا مع البيئة الإستراتيجية المغربية. وتبقى الإشارة إلى أن إستراتيجية هذه التنظيمات تتقاطع مع مناهج الفوضى الخلاقة التي أريد لها أن تسود بعالمنا العربي من خلال تأكيد منظري التنظيم على أن "...أفحش درجات التوحُّش هي أخفُّ من الاستقرار تحت نظام الكفر بدرجات". تكتيكات المواجهة المعتمدة عند التنظيمات الجهادية (إدارة التوحش) في هذا السياق، يطرح أبو بكر ناجي، المنظر الميداني للتنظيمات الإرهابية ما يلي: "...رشحت الدراسات القريبة لحركة التجديد والمرتبطة بالأحداث الجارية مجموعة من [ الدول ] -على الصحيح المناطق- ينبغي التركيز عليها من قبل المجاهدين حتى لا تتشتت القوة الضاربة للمجاهدين في دول لا مردود من وراء العمل المُركز فيها"، ويضيف: "...أعلنت القيادة بعض التعديلات فاستبعدت بعض المناطق من مجموعة المناطق الرئيسية، على أن يتم ضمها لتعمل في نظام بقية الدول، وأدخلت بلدين أو قل منطقتين إضافيتين، ألا وهما بلاد الحرمين ونيجيريا. ومن ثم أصبحت الدول المرشحة مبدئياً لتدخل في مجموعة المناطق الرئيسية هي مناطق الدول الآتية: الأردن وبلاد المغرب ونيجيريا وباكستان وبلاد الحرمين واليمن" وهنا نسجل أن بلاد المغرب (المغرب العربي) تبقى مستهدفة بشكل واضح، بل ويتم ذكرها باللفظ في مانيفستو التنظيمات التكفيرية، حيث نجد ما نصه: "...فلو قام العدو بعمل عدائي على منطقة في جزيرة العرب أو في العراق فتم الرد عليه في المغرب أو نيجيريا أو أندونيسيا سيؤدي ذلك إلى إرباك العدو، خاصة إذا كانت المنطقة التي تتم فيها عملية دفع الثمن تخضع لسيطرة أنظمة الكفر أو أنظمة الردة فلن يجد مجالاً جيداً للرد عليها، وستعمل تلك العملية كذلك على رفع معنويات من وقع عليهم العدوان وإيصال رسالة عملية للمسلمين في كل مكان بأننا أمة واحدة وأن واجب النصرة لا ينقطع بحدود". وفي موقع آخر من نفس الكتاب الدموي نجد إشارة أخرى إلى بلاد المغرب من خلال النص على ما يلي: "...ولا يقتصر دفع الثمن في الصورة السابقة على العدو الصليبي، فعلى سبيل المثال إذا قام النظام المصري المرتد بعمل قام فيه بقتل وأسر مجموعة من المجاهدين يمكن أن يقوم شباب الجهاد في الجزيرة أو المغرب بتوجيه ضربة للسفارة المصرية، مع بيان تبريري لها أو القيام بخطف دبلوماسيين مصريين كرهائن حتى يتم الإفراج عن مجموعة من المجاهدين مثلاً ونحو ذلك؛ مع اتباع سياسة الشدة، بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب تتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب في قلوب العدو وأعوانه". وهنا يتبين أن نطاق عمليات هذه التنظيمات يتجاوز حدود المنطقة الواحدة ليصل إلى جميع البلدان التي تدخل في نطاق "المجموعة الرئيسية"، وضمنها المغرب بطبيعة الحال. وتتميز المرحلة الأولى من المعركة أو ما يصطلح عليه ب"شوكة النكاية والإنهاك" بكونها "مرحلة تسبق في العادة مرحلة إدارة التوحش، على اعتبار أن من يقوم بالنكاية يتوقع حدوث "التوحش"، ومن ثم ضرورة الإعداد لإدارته، وإلا فإن بعض مجموعات النكاية تقوم بالنكاية دون أن تضع ذلك في حساباتها، وأحياناً تقوم بالنكاية لإضعاف دولة لحساب دولة أخرى أو قوة أخرى ستتسلم حكم الدولة المُنهكة أو أرض التوحش وتقيم مكانها دولتها دون المرور بمرحلة إدارة التوحش". في هذا السياق، تعتبر مرحلة "شوكة النكاية والإنهاك" مرحلة رئيسية ومفصلية في الصراع، يجب ضبطها وضبط أسلوب التعامل معها، ما سيساهم في القطع مع اختراق التنظيمات التكفيرية للمملكة، وهي، أيضا، المرحلة الأولى التي تسبق الوصول إلى مرحلة "التمكين" أي قيام "دولة الخلافة"، مرورا ب"إدارة التوحش" التي تعتبر ثاني مرحلة في البناء الإستراتيجي للتنظيمات "الجهادية". وتستهدف مرحلة النكاية والإنهاك، حسب المنظر نفسه، الدول التي تتوفر فيها "مقومات الترشيح" التي يمكن أن تجتمع كلها أو بعضها وهي كالآتي: " وجود عمق جغرافي وتضاريس تسمح في كل دولة على حدة بإقامة مناطق بها تدار بنظام إدارة التوحش. - ضعف النظام الحاكم وضعف التواجد العسكري على أطراف المناطق في نطاق دولته بل وعلى مناطق داخلية أحيانا خاصة المكتظة. - وجود مد إسلامي جهادي مبشر في هذه المناطق. - طبيعة الناس في هذه المناطق، فهذا أمر فضل الله به بقاعاً على بقاع. - كذلك انتشار السلاح بأيدي الناس فيها". ويمكن للقارئ أن يفهم سياقات قبول القاعدة، مثلا، ببيعة الجماعة السلفية للدعوة والقتال (تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في ما بعد)، على اعتبار أن الوضع في الجزائر يستجيب للشروط التي سطرتها التنظيمات الجهادية، ومنها تنظيم القاعدة. ويمكن أن نسجل اليوم أن التنظيمات التكفيرية لم تعد تنتظر حدوث هذا التوحش من تلقاء نفسه، وإنما أصبحت تسعى جاهدة إلى خلقه، إذ من يخلق التوحش، حسب نفس التنظيمات، تسهل عليه إدارته، ونراه جليا اليوم في بعض من أنحاء ليبيا، في العراق، في اليمن، في سوريا وفي الصومال، ويريدون خلقه في مصر، وفي تونس وفي الجزائر والمغرب أيضا. وهنا تكمن خطورة بعض الحركات الاحتجاجية، والتي، ورغم مشروعية جل مطالبها، إلا أن التصعيد في حدة المطالب يمكن أن يشكل حالة من الاضطراب يمكن أن تستغله التنظيمات الدينية المتطرفة (بشقيها السني والشيعي) لمحاولة الركوب عليها وخلق حالة من "التوحش" في أفق إدارته وإخضاعه لسلطتها، خصوصا عندما تكون المناطق المعنية متاخمة لحدود الدولة، مع ما يشكله هذا الإكراه من خطورة تهريب الأسلحة والأفراد والمجموعات من ذوي النوايا التخريبية. تجدر الإشارة إلى أن المغرب يستجيب لمجموعة من الشروط أو "مقومات الترشيح" التي سطرتها التنظيمات التكفيرية، ومن ثم وجب التعامل مع هذه التنظيمات وفق رسم إستراتيجي ومخطط لتقدير الموقف يأخذ بعين الاعتبارات البناءات الإستراتيجية للتنظيمات الإرهابية. *خبير في شؤون التنظيمات الدينية المتطرفة.