تلقّى شعيب الخبر بكلّ هدوء. على عكس كثير من أصدقائه، لم يستغرب ولم يتعجّب ولم يُصدم من صفارة الحكم التي أعلنت القرار الجائر في حقّ فريق الشباب. إنّ الأمر لا يتعلّق، لمن لم يتابع المباراة، بورقة صفراء ولا حمراء، بل بورقة سوداء تماما، هذه المرّة، أجّجت الغضب في حناجر الجمهور واللاعبين على السواء. يتعلّق الأمر بقرار توقيف فريق بأكمله، بل وحبسه لمدّة عشرين سنة للبعض وعشر سنوات أو أقلّ للبعض الآخر. وقد صدر الحكم في حقّ فتيان لعبوا كرة نظيفة في الدوريّ الوطنيّ على مدار سداسيّ كامل أمام كاميرات العالم التي تابعت أطوار هذه التظاهرة باهتمام كبير. ربّما تكون الخشونة قد شابت خرجات بعض اللاعبين، غير أنّ تقنية الفار المستعملة حديثا في البطولة تبيّن بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ الحكَم الرئيس وحكّام الشرط كانوا طرفا أساسيّا في تلك الخشونة! قبيل انتهاء الدوري بقليل، وبلا سبب ظاهر، اعتُقل الشباب أمام مرأى الجمهور، عُنّفوا أشدّ ما يكون العنف، في حضرة الأهل والأقارب. وبطريقة هايتشكوكية، اختُطفوا من قلب الملعب وأُخذوا معصوبي العينين ومكتوفي اليدين، على متن طائرات هيلوكبتر، مباشرة إلى المركز. هناك استُقبلوا استقبال خونة وانفصاليّين بدعم صريح من شيوخ الأحزاب الذين أصدروا أغرب بيان سياسيّ في تاريخ البلد، حيث أدانوهم مسبّقا بتهم جاهزة لكنّها خطيرة وعلى رأسها تهمة الخيانة العظمى. ورغم أنّ الشيوخ تراجعوا عن ذلك البيان، بنفس السرعة التي صاغوه بها، تحت ضغط الرأي العامّ، إلا أنّهم كانوا قد أناروا الضوء الأخضر للجلادين الذين أذاقوا الشباب فنون الاستنطاق والتعذيب، بسبب ذلك، على غرار ما كان يحدث في درب مولاي الشريف أيام زمان، بحثا عمّا يدعّم تلك التهمة المسبقة من تمويلات خارجيّة محتملة وزعماء دولة انفصاليّة قيد الإنشاء. ثمّ بدأ مسلسل، تظاهرة أخرى، طويل وعريض في ملعب مليء بالحفر والأحجار تحت رحمة حكَم يقود لعبة معروفة النتيجة سلفا. وقد أضحت المباراة مادّة دسمة للصحافة الصفراء والزرقاء على السواء، وفي خضم ذلك، كان ثمّة أبطال يصنعون بين عشية وضحاها، وتقارير طويلة تسوّد، وهواتف تشتغل ليل نهار، وتعليمات صارمة تعطى هنا وهناك، وتهم صفراء تحبك بإتقان، وعائلات متعبة تتنقلّ كلّ أسبوع من أقصى الهامش لمشاهدة طور من أطوار المهزلة: لاعبون يجرجرون في سلاسل وكأنّهم في عرض من عروض السيرك، أو مقطع من مقاطع فيلم كازا بلانكا. ملّ شعيب من الاستماع إلى الأغانيّ الرسميّة المشجّعة لفريق الخصم، إن كان ثمّة فريق خصم أصلا، عدا الفاسدين في الأرض. أسطوانة استقلال الحكَم، وعدالة الفيفا، والعهد الجديد، وتقنية الفار، وهيئة الإنصاف أسطوانات ماعادت تطرب شعيبا قطّ. ولعلّ منبع الإبداع بدأ يجفّ في خيال مسؤولين غير مسؤولين، وغير حريصين على شيء إلا ما كان من ملء جيوبهم وتأبيد كراسيهم، أمّا مستقبل البلدة فلا يهمّهم في شيء. ويبدو أنّهم ما وجدوا شيئا جديدا يطرب الناس ويفتح الأمل، فشرعوا في لعبة الوأد، وأد الأحلام، واحدا تلو الآخر، حتّى قبل أن تتشكّل في صدور الشباب، وأهمّها على الإطلاق الحلم بغد أفضل ترتقي فيه قريتهم إلى مصاف قرى الدنيا المتقدّمة. لم يتعجّب شعيب قطّ من قرار الحكَم ضدّ شباب كلّ ذنبهم أنّهم احتجّوا على فساد تدبير البلدة، ولم يندهش لذلك؛ لكنّه خائف ممّا يطبخه الزمن القادم من قدر محتوم؛ إنّه خائف من هلاك القرية الوشيك، وخائف من الهاوية التي يبصرها هناك في زاوية الطريق. فالكأس انكسر، وشظايا الزجاج أصابت البعيد قبل القريب، والشرخ يكبر يوما بعد يوم بين الهامش والمركز من جهة، وبين المركز ونفسه من جهة ثانية. ولا حياة لمن تنادي! من يستطيع أن يعيد الكأس إلى سابق عهدها؟ من بإمكانه أن يعيد الحياة إلى عين القرية إذا جفّت؟ لا أحد. كان شعيب قد لاحظ أنّ عشب الزمان ييبُس رويدا رويدا تحت أقدام اللاعبين، وساحة الملعب تضيق أكثر فأكثر. والشعراء ساهون في الحانات لا يشعرون بشيء؛ والسياسيّون ساهون في مكاتبهم ومكائدهم أو ما شابه، لا يفقهون؛ والمفكّرون، هل قلتُ المفكّرين؟ ما عاد أحد يفكّر في هذا الزمن. ما عاد أحد! الفكر جاهز في كتاب الفايس: عبارة منمّقة ورسم جاهز والسبيل مفروش نحو النجاح والشهرة والمال. لم يندهش شعيب من "الأحكام الرحيمة" التي أصدرها حكم المقابلة في حقّ شباب تجرّأوا على فضح أوكار الفساد حيث وجد. فالحُكم كان منتظرا من الطريقة الهليودية التي اعتقل بها الشباب، ومن طريقة تعامل الجلادين معهم، وطريقة محاكمتهم بشكل ماراطوني لمدّة تقارب العام، علاوة على غياب أيّ مبادرة حكيمة كان ينتظرها شعيب وأهله على أحرّ من الجمر من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ فالتاريخ لا يرحم أحدا والزمن يسير نحو اللاعودة. ورغم اعترافات كبار القوم بأخطاء قاتلة في التدبير وبفشل سياسات تنميّة القرية، بل الإجراءات السريعة التي اتّخذوها من قبيل التضحية ببعض الأكباش الصغار، فإنّ ذلك لا يعدو أن يكون، على ما يبدو، سوى وجها آخر للقسوة نفسها من أجل تأديب الشباب حتّى لا يعودوا إلى الغناء، مرّة أخرى، في الساحات العموميّة! والسؤال الذي يفرض نفسه: هل كان بيد الحكَم قرار المباراة؟ هل كان له بدّ من النتيجة "المتوقّعة"؟ لا يبدو أنّه كان الحكَم الفعليّ؛ فكلّ شيء يبدو مفروضا عليه كما على الملعوب بهم على السواء: طريقة اللعب ونتيجته على حدّ سواء. والقواعد جاهزة تنتظر من يطبّقها فقط من أجل تحقيق الغرض، أي عدم تكرار الفعل الذي يستحقّ كلّ هذه الإدانة، إهانة رموز العار في القرية، فضح عورتهم على المستويين المحليّ والعالميّ. جريمة الشباب هي أنّهم تطاولوا على كبار المفسدين، أهانوهم في معركة غير متكافئة صدحت فيها الحناجر وعلت فيها أغنيّة مطلعها: الخزي لرموز الفساد، نريد مشفى ومعمل ومدرسة! لم يحزن شعيب لأنّه حزين أصلا، ومنذ زمان؛ غير أنّ جرعة الغضب زادت في دمه قليلا، بل إنّها تزيد على مرّ الأيام بسبب تراجع الوضع في قريته. كريات الرفض تتناسل في دمه، يكبر الحنين والذكرى إلى كلّ شهر يحمل رقم عشرين، من يناير إلى دسمبر، مرورا بفبراير ويونيو وغيرهما؛ تذكّر شعيب بعض تفاصيل التاريخ القريب، وراح ينبش في وثائق الزمن البعيد، فوجد في زاوية كلّ شهر علامة سوداء، ذكرى شهيد أو محاكمة جائرة. ماذا تغيّر من 20 فبراير، في بداية العقد، إلى يومنا هذا؟ بل ماذا تغيّر من بداية الاستقلال، وتحديدا من يونيو 1958 إلى يونيو 2018؟ ذلك هو السؤال. العالم يسير إلى الأمام والقرية تتراجع على جميع المستويات، بل تراجع حتّى مستوى الحلم فيها. أرادوا أن يكتفي شعيب بحلم تنظيم أكبر مهرجانات الدنيا، وحلم تنظيم كأس العالم في أيّ شيء اتّفق، لا يهمّ أن يكون في الكرة أو في الكسكس! المهمّ أن تسود أحلام على حساب أخرى! غير أنّ حلم شعيب، لا يني يكبر، بمباريات شعبيّة حقيقيّة تعيد كلّ متطاول إلى حدوده: القاضي إلى عدله والحكم إلى تحكيمه، والوزير إلى وزارته والعامل إلى عمله والتاجر إلى تجارته والمعلّم إلى فصله؛ إذا قام كلّ هؤلاء بعملهم كما ينبغي، لن يجد الشباب ما يتطاولون عليه، ولن يجدوا سببا للتظاهر أصلا. يحلم شعيب بمباريات شعبيّة عارمة تزعزع أركان الفاسدين، بل ترمي بهم إلى هامش التاريخ، وتعلي من شأن العدل حتّى يقوم حكَما بين الناس. غير أنّ شعيبا سرعان ما استفاق من حلمه هلوعا، بعد سماع صفارة الحكَم، وكلّ خوفه أن يكون وراء هذه "الأحكام الرحيمة جدّا"، بتعبير أحدهم، تعليمات صارمة جدّا وتهم ملفّقة جدّا، وانتقام مؤسّس جدّا! كلّ خوفه أن يكون وراء ذلك حقد ما أو ربّما مصلحة ما (من يدري!)، يودّ أصحابه لو يضيفوا تهما أخرى تثقل الميزان حتّى يدفعوا الحكم إلى أقصاه إعداما سريعا أو مؤبّدا طويلا. غير أنّهم طيّبون غيورون ومصلحون خفّفوا الحكم إلى درجته الدنيا، فكانت النتيجة: عشرون ربيعا لفتيان في عزّ الربيع غرّدوا بحنجراتهم في شوارع القرية الجميلة. كانت أصواتهم المبحوحة تبحث عن صدى لها في الجهة الأخرى. غير أنّ الرسالة وصلت بشكل خاطئ، على ما يبدو، إلى ذلك الهناك البعيد! كان الشباب يطالبون، فيما سمع العالم منهم، بمشفى وجامعة ومعمل، إلا أنّ المركز، على ما يبدو، بحكومته وأمناء أحزابه وقضائه سمعوا شيئا آخر: خيانة، انفصال، مسّ بسلامة الدولة الداخليّة وغيرها من سمفونيات الزمن البائد. عجلة التاريخ غيّرت الاتّجاه في عودة سريعة نحو الماضي العتيد، انحدار سريع نحو الهاوية! ما اشتدّ عود الحلم بالغد بعدُ، حتّى عاد ليل الأمس فسكن شرايين هذا النهار الطويل، فيما يشبه نوسطالجيا مزمنة، حتّى قبل حدوث الفراق. مثل رفاق عبد الحليم، تأبّط شعيب قيثارته وجلس حائرا يغنّي ويتساءل: من له مصلحة فيما يحدث في قريتي من إجهاز على ما تبقّى من الشرف وماء الوجه؟ من له مصلحة في الفتك بالأحلام الجميلة؟ من له مصلحة في كسر شوكة واسطة العقد؟ من له مصلحة في وضع اليد في الجرح الغائر وتوسيع الشرخ بين الهامش والمركز! هل قدر هذه البلاد أن تمضي بلا بوصلة؟ إلى متى يظلّ الماضي يحاصر الحاضر ويرهن المستقبل؟ أين ذهب أولئك المنصفون المتصالحون النزهاء، والوطنيّون الغفورون الرحماء، أين ذهب أصحاب العقد الجديد، والمتناوبون على جثّة هذا الوطن الجميل، أولئك الذين ينهشون خيرات هذه الأرض بلا رحمة ويفتكون بشبابها بلا حكمة!؟ أين ذهب أصحاب كلّ تلك المصطلحات الكبيرة؟ أين أولئك الذين يخطبون باسم الوطن، يسبّحون باسم الوطن، يأكلون ويشربون ويفتكون باسم الوطن؟ شعيب لا يفهم في السياسة إلا ظاهر أمورها! شعيب لا يعرف شيئا من معاني الوطنيّة، الفلسفيّة منها ولا النفاقيّة، مما يجترّه الخطباء الحذّاق. شعيب مواطن بالفعل لا بالخطاب، جنديّ في خدمة البلاد دوما، يعرف أنّ عليه واجبات كثيرة وله بعض الحقوق. لكنّه يعرف أيضا أنّ الوطن لا يكون بلون واحد، الوطن إمّا أن يسع الجميع أو لا يكون! لا وطن للجائع إلا حيث يجد ما يسدّ به رمقه، ولا وطن للمشرّد إلا حيث يجد سقفا وحضنا دافئا، ولا وطن للمريض إلا حيث يجد مشفى ودواء، ولا وطن للتلميذ إلا حيث يجد مدرسة ومعلّما، ولا وطن للعاطل إلا حيث يجد عملا كريما، ولا وطن للمظلوم إلا حيث يجد قانونا وحكَما عادلا، يقيه شرّ الظالمين.