أود في بداية هذا المقال أن أنبه إلى الأمور التالية: أولا: مصطلح (السلفية الجهادية) استعملته الجرائد الوطنية ووسائل الإعلام السمعية والبصرية، وأما المشايخ والإخوة فمنهم من يقبله ولا يرى فيه بأسا، ومنهم من يرفضه، وإنما استعملته هنا لأن الطائفة التي نتحدث عنها اشتهرت به، ولا يعني ذلك أنني أقر هذا الاسم. ثانيا: الهدف من هذا المقال خصوصا والمقالات التي سبقت أو ستأتي في إطار هذه السلسة هو النصح للشباب الناشئ والأجيال القادمة حتى لا يكرروا الأخطاء التي وقع فيها من سبقهم. ويشهد الله تعالى أنني لا أقصد من وراء هذه الوقفات إلا بيان بعض الحقائق التي أغفلها من تحدثوا عن المراجعات داخل التيار السلفي الجهادي بالمغرب، والتي أرى أنه كان يجب ذكرها ليتحمل الكل مسؤوليته الكاملة أمام الله ثم أمام الناس؛ خصوصا وأن هذه السلسلة تؤرخ لمرحلة حرجة من تاريخ الحركة الإسلامية بالمغرب، ولكن لاحظت أن بعض من تكلم قد أبهم الكلام في بعض المواطن التي تحتاج إلى التدقيق والتفصيل، كما أنه نسب الشر كله للأتباع والأصحاب الذين مارسوا عليه الإكراه والإرهاب، بالإضافة إلى التمويه في بعض الأحداث والتهويل من بعضها الآخر.. فوجب وضع النقط على الحروف كما يقال ليتحمل كل واحد مسؤوليته وليسهل إصلاح هذه الأخطاء. ثالثا: منهجي في هذه السلسلة هو ذكر ما عشته بنفسي وما شاهدته بعيني، ولا ألتفت للروايات التي رواها لي الآخرون، لأنني أعتبر هذه السلسلة شهادة تاريخية، والله عز وجل يقول: (وما شهدنا إلا بما علمنا)، وأترك أيضا لمن عاش هذه التجربة فرصة التعقيب على هذه المقالات ما دام القصد هو ذكر ما وقع من أخطاء في هذه التجربة لتستفيد منها الأجيال الصاعدة.. وأشدد على ضرورة احترام آداب الحوار والالتزام بضوابطه ومقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل.. رابعا: عندما أتحدث عن الأخطاء التي ارتكبت من طرف بعض مشايخ وأفراد السلفية الجهادية بالمغرب؛ فإنني لا أقر أبدا بالظلم الكبير الذي تعرض له أفراد هذا التيار بعد أحداث 16 ماي الإجرامية، وإنما أصرح بأن هذه الأخطاء أكثرها لا يعتبر جريمة ولا يعاقب عليه القانون الجنائي، وإنما تدخل في باب الأفكار التي لا تصح مواجهتها إلا بالفكر والحوار، وبعضها قد يكون جريمة لكن عقوبتها أخف بكثير مما صدر في حق المعتقلين، ويشهد لذلك أن المحاكمات المارطونية كانت صورية فقط وجرت في وقت وجيز، وأقرت أعلى سلطة في البلاد بوجود خروقات قانونية فيها.. ولذلك أُشهد الله أن أكبر ضحية لهذه الأحداث الإرهابية هم أولئك المعتقلون الذين لا زالوا وراء القضبان، وأبناؤهم الذين حرموا العطف والحنان والرعاية المادية والمعنوية بلا جُرم اقترفته أيديهم. بعد هذه التنبيهات أنتقل بكم إلى الملاحظات التي سجلتها على التيار السلفي الجهادي بالمغرب، وقد جمعتها في عدة مسائل، وإليكم بيانها: الغلو في التكفير والتفسيق والتبديع أذكر أننا مرة كنا في سفر من أجل التخييم بمنطقة ساحلية، وكنا خمسة عشر شابا وعلى رأسنا الشيخ أبو حفص، فنزلنا في منطقة جبلية للراحة والتمتع بمناظرها الخلابة، وبينما نحن وقوف نستمتع بجمالية المكان، ونتناول بعض الطعام؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الوجه، وكأن النور ينبعث منه، وكان شعره الأشقر يلمع تحت أشعة الشمس الذهبية لشدة ما بينه وبينها من تشابه؛ فظن صاحبنا –أبو حفص- أنه نصراني، فنظر إلينا وهو يقهقه عاليا بقهقهاته المعهودة التي لا تتوقف إلا بدموع الضحك، وقال: (شُوفُو ها واحد الكافر !!).. فقهقه معظمنا وزجره بعضنا ممن كان شديد الصلة به حينها وكان يجرؤ على اعتراضه.. ولكن المفاجأة كانت صادمة عندما وصل إلينا هذا الرجل الأشقر وقال لنا بصوت هادئ ولغة عربية فصيحة (السلام عليكم) !! فما كان من صاحبنا إلا أن قهقه من جديد وقال (صْدَقْ مسلم).. هذه صورة من صور الغلو في التكفير الذي كان منتشرا في صفوف الشباب، وكانت تتغذى مما يقوله بعض المشايخ الذين كانوا يتحدثون في مسائل الإيمان والكفر أمام عوام الناس؛ وإذا كان بعض طلبة العلم يُميزون بين الحكم المطلق والحكم على المعين التي كان يُدندن حولها أولئك الشيوخ، فإن أغلب الشباب لا يفقهون هذه المسألة بشروطها وموانعها، مما جعلهم يُنزلون هذه الأحكام المطلقة على أعيان الناس.. ومن أمثلة ذلك مسألة كفر تارك الصلاة، فقد كنا نرى كفر تارك الصلاة تهاونا وكسلا خلافا لجمهور العلماء، وليت الأمر وقف عند هذا الحد؛ بل تعداه إلى تنزيله على أرض الواقع، فكان منا من يكفر أباه أو أمه أو أخاه أو أخته لأنه لا يُصلي، ونتج عن ذلك أن بعض الشباب تركوا بيوت آبائهم وأمهاتهم، لأنه لا يجوز البقاء مع الكافر ولا مشاركته في الأكل، وإذا مات لا يُغسل ولا يُكفن ولا يصلى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين.. ولا تسل عن المشاكل العائلية التي كانت تنتج عن مثل هذه التصرفات.. ولو أن هؤلاء الشباب وجدوا من يُوجههم إلى الطريقة الصحيحة التي تؤثر في الناس وتأخذ بأيديهم من ظلمات الغواية والعصيان إلى نور الهداية والإيمان لكان خيرا لهم.. ومن قصص الغلو العجيبة التي كادت تضع حدا لحياتي، ما حدث لي من طرف بعض زملائي عندما كنا ندرس في الجامعة ونسكن بالحي الجامعي.. فقد أصر زميل لي في إحدى الليالي أن يصحبني إلى منزلي بفاس، وهو منزل بعيد عن الحي الجامعي؛ إذ يلزمك أن تركب حافلتين متتاليتين لتصل إليه، هذا المنزل كان والدي قد اشتراه لما كنت بالمرحلة الثانوية، وكنت أذهب إليه في نهاية الأسبوع وأيام العطل عندما كانت الداخلية تُغلق أبوابها، وأمكث هناك إلى أن أنهي أشغالي ثم أغادر إلى البادية حيث منزل والدي، وقد كنت أتجنب استصحاب أي شخص معي لهذا المنزل لأنه لا يوجد به إلا ما يكفي شخصا واحدا من الفراش والغطاء.. وعندما أصر صاحبي على مرافقتي في تلك الليلة بطريقة عجيبة وافقت على ذلك وحملته مسؤولية المبيت دون غطاء؛ فقبل دون تردد، ومع أنني عجبت لإصراره هذا إلا أنه لم يدر بذهني ما كان يُخطط له.. لقد أخبره أحدهم أنني أعمل مُخبرا لصالح السلطات، وأنني متزوج وأسكن بمدينة فاس وليس بالبادية كما أدعي، وعندما سأل مجموعة من الطلبة بالكلية أكدوا له أنه يوجد رجل أمن بلباس مدني يحمل نفس اسمي يعمل بالكلية.. لم يستسغ صاحبي هذا الأمر، وكيف أخفيت عليهم هذه المعلومات، ولماذا أقطن معهم بالحي الجامعي، وأذهب في نهاية كل أسبوع إلى زيارة أهلي وأبنائي؟ أليس ذلك دليلا على تجسسي عليهم ونقل أخبارهم إلى السلطات؟ كل هذا جعل صاحبي يشدد المراقبة علي، ومن حُسن حظي أنه لم يكتشف شيئا يُدينني؛ فبقي له أن يذهب معي إلى منزلي بفاس ليتأكد بنفسه أنني غير متزوج، وعندما ولج معي البيت على حين غفلة ووجد الأمر كما كنت أحدثهم، منزل مهجور ليس به إلا حصير وفراش قديم ومكتبة متواضعة، بقي شاردا ومترددا وحائرا.. هل يُخبرني بقصده من هذه الزيارة أم يكتمه في نفسه؟ وبينما هو على حالته تلك فاجأته بقولي: إنني أفكر في الاستعانة بعم لي يعمل بالكلية لحل المشكل الإداري الذي حدث لي الأسبوع الماضي.. فكأنني نزعته من حيرته وتردده؛ فأقبل علي يسألني بتلهف: هل لك عم يعمل بالكلية؟ وما اسمه؟ هل هو متزوج؟ هل له أبناء؟ وكم تهلل وجهه عندما أخبرته بأن لي عما يحمل نفس اسمي الشخصي والعائلي يعمل في جهاز الأمن، وقد التقيته عدة مرات بالكلية، وقال لي لا تتردد في طلب مساعدتي متى احتجت لذلك.. وحينها أخبرني بالحقيقة وأنه كان يُخطط لتصفيتي جسديا لو اكتشف أنني كنت كاذبا فيما أدعيه !! إن هذه الحادثة تبين لنا درجة الغلو التي وصل إليها بعض أفراد السلفية الجهادية في مسائل التكفير، وإذا كان هذا حال طالب جامعي يدرس الشريعة الإسلامية فكيف سيكون الأمر بالنسبة لغيره من الأميين وعوام الناس.. وما ذكرته في مسألة التكفير ينطبق أيضا على التفسيق والتبديع، وقد شهدت النقاشات الحادة التي كانت تدور رحاها عند أبواب المساجد بين الإخوة في مسألة ترك الصلاة خلف الأئمة المبتدعين، وسبب بدعتهم هو قراءتهم للقرآن جماعة، وقنوتهم في صلاة الوتر، وقراءتهم للقرآن في المقابر، وحضورهم في المواسم الشركية التي تُقام بالأضرحة.. وقد نتج عن هذا هجر المساجد العامة وتعويضها بالصلاة في بعض المساجد الصغيرة التي كانت توجد بأسواق الأحياء الشعبية، أو إقامة جماعة ثانية بعد انتهاء الإمام من صلاة الجماعة الأولى. ومن المسائل التي وقع فيها غلو كبير والمرتبطة بالتكفير والتبديع مسألة الموقف من المخالف، وخصوصا الحركات الإسلامية العاملة بالساحة المغربية، والواقع يشهد أن الشيخ أبا حفص بمجرد أن وضع قدمه بفاس والتف حوله الناس شن حرباً على الحركات الإسلامية المخالفة وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية بسبب مشاركتهم في الانتخابات الديمقراطية.. وهكذا ألقى الشيخ عدة دروس عن الديمقراطية والمشاركة في الانتخابات التشريعية، ومن هذه الدروس درس بعنوان (ألا له الخلق والأمر) ألقاه بمقر جمعية أسد الله حمزة بحي بنسليمان سنة 2002م، وكان الدرس عبارة عن هجوم عنيف على المشاركة السياسية عموما وعلى حزب العدالة والتنمية خصوصا؛ مذكرا في درسه بأن الله تعالى كما أنه هو الخالق الرازق فيجب أن يكون هو وحده الآمر والناهي، وأن الآمر والناهي في الانتخابات التشريعية الديمقراطية هو الشعب الذي يشرع من دون الله تعالى.. وقد وصل الأمر بسبب موقف الشيخ المتشدد في هذه المسألة إلى حدوث مشادات كلامية بحي اعوينات الحجاج بين بعض أتباع الشيخ وبين بعض الإخوة من حركة التوحيد والإصلاح الذين قاموا بمنعه من إلقاء درسه بأحد المساجد هناك.. ومما أعجب له أن الشيخ رفيقي أبو حفص يصرح الآن في ورقته المقدمة لمؤتمر(ما بعد داعش: التحديات المستقبلية في مواجهة التطرف والتطرف العنيف) الذي نظم بمراكش يومي 6 و7 أبريل 2018م، يُصرح دون خجل ولا وجل قائلا: "وقد ظهر أثر هذ الخلاف خلال الانتخابات التشريعية لعام 2002، حيث دعا الكتاني ورفيقي للمشاركة في الانتخابات، والتصويت لصالح حزب العدالة والتنمية، فيما عارض الفزازي والحدوشي أي مشاركة، ولو كانت بالتصويت على الحزب الإسلامي، معتبرين ذلك من الشرك، وقد أصدر حينها الفزازي كتابه : (لماذا لا نشارك في الانتخابات الديمقراطية؟)" !! وهذا تدليس قبيح من أبي حفص؛ لأن الشيخ لم يبدأ في تغيير موقفه من الانتخابات الديمقراطية والجماعات والأحزاب الإسلامية إلا بعد لقائه بالشيخ الكتاني حيث تأثر بفكره ومنهجه وحتى بطريقة لباسه، فأصبح يُقلده في لبس السلهام المغربي ووضع العمامة.. وقد صرح لنا أبو حفص بنفسه مرارا حينها أنه معجب بالشيخ الكتاني الذي جمع الله له بين جمال الصورة وشرف النسب وزاده بسطة في العلم والجسم.. ونظرا لهذا التأثر الكبير بالشيخ الكتاني يمكننا أن نميز بين مرحلتين من دعوة أبي حفص بمدينة فاس، المرحلة الأولى تبتدئ من مجيئه إلى فاس بداية سنة 2000م وتنتهي عند لقائه بالشيخ الكتاني نهاية سنة 2002م، وقد تميزت هذه المرحلة بعنف الخطاب والهجوم على الحركات والجماعات الإسلامية، والمرحلة الثانية تبتدئ من حين لقائه بالشيخ الكتاني إلى وقت الاعتقال الثاني قبيل أحداث 16 ماي 2003م، وقد تميزت هذه المرحلة ببداية تحول فكر أبي حفص من الغلو والتشدد إلى نوع من الوسطية والاعتدال، ودليل ذلك أن المقال الذي كتبه أبو حفص باسم مستعار (أبو أسامة المغربي) يرد فيه على موقف الفزازي من الانتخابات لم يكتبه إلا في بداية سنة 2003م، والانتخابات التشريعية كانت سنة 2002م؟؟ ولست أدري لم يُصر أبو حفص على الكذب والمراوغة في كل حديث له عن المراجعات، هل يخجل من ذكر ماضيه؟ أم هل يظن أن تدليساته ستنطلي على الناس؟ ألا يعلم أن الكذب لا ينفعه في مسائل شهدها آلاف الخلق الذين لا زالوا أحياء؟ ولقد صرح أيضا في ورقته تلك قائلا: " كما كان الفرق واضحا من خلال الموقف من حركات الإسلام السياسي، حيث كان الكتاني ورفيقي يتمتعان بعلاقة طيبة مع هذه الأطراف، فيما كان موقف الآخرين حادا يصل أحيانا لحد التكفير".. إن هذا الكلام لا يصح إطلاقه حتى لا يتوهم القارئ أن أبا حفص كان على هذا المنهج منذ البداية، وإنما يجب تقييده بزمان تغيره، وقد حدث ذلك عند تكرر لقاءاته بالشيخ الكتاني أواخر سنة 2002م.. وما يضيره لو أنه امتلك الشجاعة وصرح بالحقيقة كما هي ليتحمل كل واحد مسؤوليته الكاملة، وليصح حديثه عن المراجعات.. وإنني لا زلت أذكر عندما اجتمعنا بالشيخ أبي حفص بأحد المنازل بحي بنسودة وكنا مجموعة من الطلبة، وكان اللقاء مخصصا للحديث عن تأسيس فصيل طلابي بالجامعة يحمل اسم (الوعي الإسلامي السلفي)؛ أذكر أن الشيخ كلف في ذلك اللقاء كل واحد أو اثنين بإعداد بحث شامل عن كل حركة من الحركات الموجودة بالساحة الجامعية، وكُلفت أنا شخصيا بإعداد بحث عن حركة العدل والإحسان لأنني كنت قد أمضيت معهم سنة كاملة بالحي الجامعي، وكنت مطلعا على كتابات الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله.. والشاهد من هذا كله أن أبا حفص كرس ما كان عليه الإخوة آنذاك من اعتبار أن ماهم عليه هو المنهج الصحيح وأن كل من خالفه فهو على باطل، كما شجع على إذكاء الصراع مع الحركات الإسلامية المخالفة.. ولم يتراجع عن هذا الأمر إلا بعد احتكاكه كثيرا بالشيخ الكتاني وتأثره بمنهجه وطريقته.