قيد حواري: "لا خير في حوار يكون القصد من ورائه المغالطة والتعصب لرأي دحضته الحجج". بناء على هذا القيد / المبدأ الحواري، وجب أن نتفق على أن الطرق الموصلة إلى الحق طرق شتى، وأن الاختلاف – لا الخلاف- رحمة، متى تسلح المتحاورون/ المتناظرون بأدبيات وأخلاقيات المناظرة. وبعيدا عن آفة اللغو التي ما فتئنا نحاربها متى ناقشنا بعض المتعصبين من أنصار الهوية الصّمَّاء، الذين لا يتحرجون في مقالاتهم من تبني خطاب معايرة إقصائي مؤدلج متى دحضت حججهم، وتهيبوا من إنزال الحوار منزلة الحقيقة ومواجهة الحجة بالحجة بدل التدليس؛ يسرني أن أسوق نماذج من التراث العرزيغي المغربي المغيب في أدبيات هؤلاء، بغية بيان خصوصية الهوية المغربية باعتبارها هوية موسعة تنصهر في بوثقتها هويات متداخلة متصلة في ما بينها، لا منفصلة أو منغلقة على نفسها؛ عسى أن يرجع الذين نصبوا أنفسهم حراسا ورسلا لعقيدة الهوية الصماء بالمغرب إلى أبجديات التحاور والتحاجج الحق، والإذعان لسلطة الحقيقة المنطقية والتاريخية، بدل الهوى والعصبية العرقية الممجوجة، إذ لا تقلص لشقة الخلاف المزعوم حول قضايا الهوية 1 المغربية– وبخاصة نوع العلاقة التي ربطت العرب/ بية بأختها المازيغ/ية عبر مختلف الأطوار التي تقلب فيها تاريخ المغرب- إلا بالانصراف من سوق المعايرة الإنشائية وسفسطائية لغتها المؤدلجة، إلى رحابة التحاور الباني، وحجية لغته العقلانية. من هنا، يتضح أننا نقصد من وراء حفرنا في التراث العرزيغي –كما عرفناه في مقالاتنا المعقودة لما اصطلحنا عليه ب"الشعر العرزيغي" – تبيان مظاهر الأخوة العربية – المازيغية العالمة، التي يسعى كثير من المتعصبين من أنصار الهوية الصماء – مازيغيو الحركة، وسلفيو الضاد- إلى إقبارها وتغييبها في مرافعاتهم اللغوية الإقصائية، وإدعاءاتهم الهوياتية، واصطفافاتهم الفكرانية/ الإيديولوجية. وإذا كنا قد بينا في مقالنا المعقود للقصيدة العرزيغية – المنشور بهسبريس- أوجه التلاقح الأدبي العربي- المازيغي، الذي أتاح للمبدع المازيغي إجراء إبدال إبداعي في القصيدة العربية الكلاسيكية، وتجريب التهجين النصي، والمزج بين لغتين على مستوى عروض وضرب البيت الواحد، دون أن يلاقي معارضة أو استهجانا أو تخوينا من علماء الضاد من ذوي النسب العربي، الذين ثمنوا هذا الإبدال واعتبروه تجسيدا نصيا إبداعيا للأخوة والتلاحم العربي – المازيغي، خروجا من ضيق العرقية المقيتة، والهوية الصماء المنغلقة على نفسها – التي يدعو لها بعض الأحفاد اليوم- إلى سَعة الهوية الموسعة التي تزدوج فيها العبقرية العربية بالعبقرية المازيغية، ازدواج اللون بالضوء. هذه الأخوة اللسانية التي عبر عنها العلامة الجشتمي السوسي بقوله: الحمد لله الذي سخر لي ***النظامين ولا مفتخرا أنظم حينا باللسان العربي *** وتارة بالأعجمي الأعذب ولا يخفى أن ما اصطلحنا عليها بالقصيدة العرزيغية مازالت في حاجة إلى أقلام جادة لتعميق البحث في خصائصها بدل أقلام مسيسة ومؤدلجة، كل همها هو إشعال فتيل النعرات العرقية والقبلية وجعل المغرب مِزَقا، وفصل المتصل في تعال سافر عن الحقائق المنطقية والتاريخية والتداولية. وإذا كانت القصيدة العرزيغية 2 خير دليل على مدى التكامل الأدبي بين مكوني الهوية المغربية – العرب /الأمازيغ-، فإننا نلمحه أيضا على المستوى اللساني من خلال إسهام أمازيغ المغرب في خدمة اللغة العربية والتأليف في مختلف مباحثها، الصوتية، والصرفية، والمعجمية، والتركيبية، مع اعتماد التأليف الإبداعي بدل الاتباعي، بدرجة جعلتهم يبزون علماء الحواضر المجاورة أندلسيين كانوا أم مشارقة؛ فضلا عن التفرد في كثير من القضايا اللغوية والتدريسية، كانفراد السوسيين بتأليف كتب مستقلة في مبحث المبنيات، تأليفا لم يسبق إليه، وتقريب المتن النحوي وتسهيله على الطالب المازيغي، وفق إستراتيجيات تعليمية قوامها التدرج والتسلسل، وربط النحوية بالمجال التداولي المازيغي، والوقائع التاريخية، كصنيع صاحب ثاني شرح لألفية ابن مالك بعد المكودي، العلامة المازيغي سعيد بن سليمان الكرامي السوسي "ت882ه"، في مؤلفه "تنبيه الطلبة على معاني الألفية"3، التي ضمنها كثيرا من المفردات المازيغية، وتوسل بها عند تقريب معاني الألفية المستعصية دلالتها على الطالب المازيغي، والعلامة المختار السوسي- من المتأخرين- في دروسه النحوية، التي ربطها بوقائع من تاريخ المغرب، بدل الاكتفاء بتقليد القدامى وتوظيف الأمثلة الجافة والعنيفة من قبيل "ضرب زيد عمرا"، التي شانت النحو العربي وحجّرته. ويتجلى النبوغ المازيغي في الدراسات العربية من أول نظرة في خزائن الكتب والمخطوطات التي تحوي المئات من المؤلفات العرزيغية الدالة على التآخي اللسني، ومدى استيعاب المازيغية للألفاظ العربية، إلى درجة امتصاصها، وتحويل بنيتها الصوتية والصرفية لمواءمة الخصوصية اللسنية المازيغية. وقد عبر عن التداخل والتأثر اللسني المختار السوسي في معرض حديثه عن تأثير العربية في الشلحة السوسية بقوله: "إذا أردنا أن نعرف مقدار ما في الشلحة من عربية فلنتتبع المصطلحات المتعلقة بالمنزل والمركوب، وأحوال الإنسان، وما إليها من ملابسات شخصية، فإننا سنلمس هذا التأثير القوي، ففي المنزل مثلا نلاحظ توافر الألفاظ منها: الموضع، والبيت والباب والعتبة والشرجب، والقفل، والمقصورة، والصهريج، والسقاية والجابية والحانوت، والقوس، والملحفة، والإزار والزربية...وهكذا نجد في كل ناحية من مناحي حياة الشلحيين ألفاظا عربية كثيرة التداول في كلامهم، منها ما هو جامد لا يدخلها التصريف، ومنها ما يدخلها التصريف، فيأتون بالماضي والمضارع والأمر والوصف، والمصدر...وهذا التأثير يقوى في الكلمات الدينية التي هي سيل طافح، فقد التهمت الشلحة كل الألفاظ التي تؤدي المعاني المتعددة في الصلاة والزكاة والصوم، والحج، فشلحت كلها، فأنت مثلا تسمع تِمْزْكيدَ أو تَزَلِّتْ وتَلْفْطْرْتْ، فتعلم أن أصلها المسجد، والصلاة والفطرة التي يقصدون بها صاع زكاة الفطرة. وهذا الباب الديني كثير جدا وغالبه مُعَرَّفٌ بأل واللام، حتى صحت القاعدة التي تقول: إن كل لفظة جامدة في الشلحة بدأت بالألف واللام فإنها عربية الأصل، وربما شلحوا جملا عربية تامة...ومما اتفقت فيه اللغتان "كاف" الخطاب، فإنه يستعمل في الشلحة استعماله في العربية، وكذلك 'ما' الاستفهامية "4. كما حاول المختار السوسي تحليل العوامل التي انتشرت بها العربية في اللسان المازيغي من خلال تقسيمه الألفاظ التي قام بجمعها إلى ثلاثة أقسام، بينها بقوله: "القسم الأول: ما جاء عن طريق الدين من أسماء أدوات المنزل واللباس وآلات الأعمال التي نزاولها، ومن أسماء الأشجار والعلوم التي انتشرت بانتشار تلك المدنية؛ فهذا القسم تسرب من مؤلفات العلوم ومدارس الدين والمخالطة في الأسواق والمقايضة في المتاجر...أما القسم الثاني فهو ما أراه قديما عند الشلحيين/ الأمازيغ مما سبق الفتح الإسلامي، ويظهر لي أنه متأصل في اللغة الشلحية، لأنني لا أعرف ما يقوم مقام تلك الألفاظ عندهم مع ملاحظة أنه لا بد من تلك الألفاظ لأي أمة، ولو كانت لا تزال من الهمجية الأولى في الدركات، وذلك كالموت والحياة، والدم والريح والأب والأم والصوت والبر والبحر والقرب والبعد، وهي ألفاظ تصل عندي إلى مائة كلمة، ولا أعلم لها مرادفا شلحيا يمكن أن نقول إنه الأصل الأصيل، ويكون الآخر من الدخيل... وكون هذه الألفاظ أقدم من الفتح الإسلامي هو الراجح عندي، وأكاد أجزم به، ثم لا أدري أهي ألفاظ غمرت مرادفاتها من الشلحة منذ تسربت العربية القديمة على عهد الفتح الأول للفينيقيين الذين نعرف من هم بالنسبة لأبناء الجزيرة العربية وهو من أبنائها الصميمين، أم هي ألفاظ قديمة في اللغة الشلحية؟ فتكون حجة للمؤرخين 5 الذين يؤكدون أن البربر موجة من موجات الشرق في عصور ما قبل التاريخ. أما القسم الثالث فهي ألفاظ تتردد ما بين هذين القسمين، ولا يترجح فيها جانب على آخر" –انتهى كلام المختار السوسي. هذه المقاطع النصية المقتطفة من مقال "تأثير العربية في اللهجة الشلحية" تنم عن وعي المختار السوسي المبكر بأهمية خوض غمار البحث في اللسانيات الاجتماعية، وتوفير مادة معجمية عرزيغية للأجيال الآتية، لتكون بمثابة وثيقة تاريخية – لسانية تؤرخ للأخوة العرزيغية، لسانيا وثقافيا، وهوياتيا، وخير شاهد على التكامل الثقافي –الهوياتي بالمغرب وتعدديته. وعلى الإجمال، فإن أوجه الاتصال والتكامل والتآخي العربي- المازيغي كثيرة في التراث العرزيغي المشترك، مهما حاول المتعصبون تغييبها وإقبارها في خطاباتهم الهوياتية الإقصائية، الداعية إلى هوية صماء، إما منغلقة على نفسها "أنصارها" أو متسلطة تعلي من شأن فئة "عرق –لغة –عقيدة"، وتقصي الفئة الأخرى، أو مستغنية بنفسها عن الأغيار "أعراق- لغات – ثقافات...". هوامش: *أ. باحث متخصص في الدراسات اللغوية بالغرب الإسلامي، وتحليل الخطاب. 1*ننظر إلى الهوية بمعناها الموسع، فهي عندنا تعني الثالوث الآتي: عرق –ثقافة – عقيدة. 2* ينظر نماذج من الشعر العرزيغي في مقالنا المختصر المنشور بهسبريس تحت عنوان 'القصيدة العرزيغية"، ونمثل لها هنا بقول الرسموكي السوسي في قصيدته العرزيغية "قوم عجاف": فعزلتي عن اغترابي ءِينْراي(غلبني)*****وغيبتي عن الكعاب ءِيمْداي(أضناني) ما للمعاني لا يقال ما نزاك (أينك) *******له ولا يسمع قول ءِيعْزّاك(أحبك) فالود في القلوب ءيسما نانغي (جمعنا)****والقدر المحتوم ءيبْضَا يانغني(فرقنا) والأبيات التي خاطب بها سيدي عبد الله بن محمد الإلغي محمد بوزكر المانوزي: 3* تنبيه الطلبة على معاني الألفية، لسعيد بن سليمان الكرامي، تحقيق، د. خالد بن سعود بن فارس العصيمي، دار التدمرية. 4* تأثير العربية في اللهجة السوسية، المختار السوسي، مجلة اللسان العربي. 5*لتبين النظريات القائلة بالأصل العربي للأمازيغ ينظر كتاب "الحركة اللغوية بالمغرب الأقصة – بين الفتح الإسلامي والغزو الكولونيالي"، لدكتور ميلود التوري.