ولى زمن احتكار القنوات والاذاعات الرسمية، والجرائد والصحف الورقية للمشهد الإعلامي، وانقضى عهد صناعة وتشكيل الرأي وتوجيهه من طرف تلك المكونات، فبات الزحف التكنولوجي حقيقة جديدة، أفرز ثورة إعلامية ضخمة، فكانت بذلك مواقع شبكات التواصل الاجتماعي من أبرز تجلياتها. لم يعد الأمر بالنسبة لمواقع شبكات التواصل الاجتماعي يقتصر على تبادل المستخدمين لخبراتهم الحياتية ولا لمعلوماتهم وهواياتهم من أجل الترفيه والتسلية، بل وصل لمستوى حشد الجماهير وتوجيه سلوكياتهم، التي خرجت عن نطاق المراقبة وتحكم الجهات الرسمية، إلى مجال إفتراضي أوسع يصعب ضبطه. هي إذن العديد من الثورات التي خرجت من رحم مواقع التواصل الاجتماعي، وتسببت في الإطاحة بحكومات، واسقاط العديد من الشخصيات السياسية. في سياقنا الوطني، برز في الآونة الأخيرة حدث مقاطعة جزء واسع من مكونات الشعب المغربي، لبعض المنتوجات، كتعبير عن احتجاجها على تردي قدرتهم الشرائية وكرسالة عن تغول تحالف سلطة المال والسياسة بشكل مثير. هذه المقاطعة انطلقت من عوالم موقع شبكات التواصل الاجتماعي الفايسبوك، ليكبر مداها مع مرور الوقت، ويتسع زخمها بشكل ساهم في خلق أزمة سياسية للحكومة. حشد الرأي العام عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يتخذ أشكالا متعددة، فالأفكار المحاصرة عبر وسائل الاعلام التقليدية الرسمية، أصبحت تجد لها منفذا، كما الأقلام والوجوه المعارضة للتوجهات الحكومية، صار متاحا لها التعبير عن آرائها بكل حرية، وضمان انتشارها في أسرع وقت ممكن، وبأيسر جهد. على مستوى الأفكار، خرجت للوجود تقنية الوسم أو ما يصطلح عليها بالهاشتاغ، وهي تقنية دقيقة، ترتكز على اختزال مركز للفكرة، في شكل عنوان قصير بكلمات محددة، تحمل مضمونا مصاغا بذكاء، وله القدرة على التأثير في قلوب وعقول الناس. الوسم يكون بذلك، بمثابة طريقة حديثة، وكأنها تقوم مقام المقالة التقليدية، لكنها تكيفت مع فيضان المعلومة، فاختارت أن تتماشى وتساير نفسية وعقلية المستخدمين، الذين يفضلون قراءة العناوين، واختيار المثير والهادف منها. الصورة لم تعد ثابتة تنقل الواقع كما هو، بل أضحت وسيلة يتم تعديلها، وتنقيحها، لتغذو مصحوبة بعبارات وكلمات، تساهم في بناء التمثلات والقناعات عن الأمكنة والأزمنة والأشخاص، وتغرق المتلقي بسيل من الصور التي تسكن مخيلة الفرد ووعيه، وقد تؤثر على توجهاته وسلوكياته. تقنية الفيديو، التي هي في متناول جميع المواطنين المالكين للهواتف النقالة، صارت بمثابة سينما متنقلة، تنقل وقائع الأحداث اليومية بتفاصيلها، وتوثق بالصوت والصورة، للعديد من المواقف والخروقات في الشوارع والطرقات، والأماكن المفتوحة والمغلقة، فتثير تلك الفيديوهات الرأي العام وتحرك السلطات، التي تكون مجبرة على اتخاذ الإجراءات القانونية اللازم اتخاذها. يمكن القول بأن شبكات التواصل الاجتماعي، أصبحت في حكم إعلام بديل، يحل مكان الاعلام الرسمي التقليدي، ويكشف عن الهوة القائمة بين الشعب والنخب الحاكمة، التي صارت تحت ضغط جماهيري كبير، لتحتل صورهم صفحات المواقع الاجتماعية، مصحوبة بكم هائل من التعليقات، ونقد لاذع لخطاباتهم ومواقفهم. من البديهي أن يطرح سؤال، حول من يقف وراء صناعة الرأي عبر مواقع شبكات التواصل الاجتماعي؟ وهو سؤال تصعب الإحاطة به بشكل دقيق، بالنظر إلى أن العالم، الذي تحوم حوله هذه الوقائع، هو عالم افتراضي، يمكن التخفي وراءه بكل سهولة، لكن ذلك لا يمنع من بناء استنتاجات قد تكون قريبة من ملامسة كبد الحقيقة. هناك شرائح واسعة من المواطنين، تقاطع الانتخابات وتعبر عن عدم رضاها عن العملية السياسية برمتها، لكونها تعتبر المنتخبين لا يمثلونهم أكما ينبغي، ويسعون فقط لمراكمة مصالحهم الشخصية، هذه الشرائح وجدت أبواب الاعلام الرسمي مؤصدة، والخبر تتم غربلته حتى يصبح موجها للدفاع عن الطبقة المسيطرة المتنفذة، ولا يزعج من قريب أو بعيد اللوبيات الاقتصادية والسياسية النافذة، وكذا الأحزاب والنقابات والقوى والمؤسسات الرسمية، وبالتالي فقد وجدت في الاعلام البديل متنفسا رحبا يمكنها من التعبير بكل حرية عن أفكارها ومواقفها، وإشفاء غليلها من فرط حجب ومحاصرة الاعلام الرسمي للرأي الآخر المخالف. تتيح مواقع شبكات التواصل الاجتماعي تشكيل مجموعات قد تشترك في الوظيفة أو الدراسة أو النشاط أو الهواية أو المصالح الاقتصادية والسياسية، لتجتمع فيما بينها، وتبني مواقف واتجاهات موحدة، تتخذ تنظيم افتراضي، يمكنه أن يتحد للقيام بسلوك مشترك، أو اتفاق مبدئي على نشاط معين، وبالتالي تكوين لوبي ضاغط يساهم في فرض قوته وتأثيره ليس فقط على المستوى الافتراضي، بل يتعداه إلى الخروج للواقع، فعملية التأثير في عصر الرقمنة، صارت تقاس بمدى الحضور المتزايد على منصات شبكات التواصل الاجتماعي الافتراضية. في هذا السياق، أصبحت حروب بالوكالة تدار على ساحات مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، فصارت مجموعة من الأحزاب السياسية والقوى الفاعلة في المجتمع، تخصص أو توظف مجموعة من الكتائب الالكترونية التي تسخر تقنياتها في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصال، لنشر بعض الأفكار المعينة، أو مواجهة بعض خصومها على واجهة الساحة الإعلامية. من جهة أخرى، صناعة النجوم لم تعد بدورها مجالا من احتكار القنوات العمومية، التي تمارس في غالب الأحيان سياسة انتقائية للمرور عبر شاشاتها ومحطاتها الاذاعية، بل دخلت على الخط شبكات مواقع التواصل الاجتماعي، التي أتاحت للكثير من الطاقات والكفاءات في مختلف المجالات، لإبراز قدراتها ومواهبها، مما أفضى إلى خروج العديد من أبناء الفئات المهمشة إلى الأضواء، ورسم الحدث على الساحة العمومية. الإعلام التقليدي استسلم لموجة التكنولوجيا الرقمية، وبات يطل ويتلصص على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي لينقل أخبارها وجديدها، ليعرضها على المشاهدين، وهو اعتراف بكون تلك الشبكات التواصلية أضحت مصدرا للخبر، ولها من الإمكانات ما يجعلها سباقة لنقل الأحداث والتأثير على سيرها. هذا المد الكاسح للفضاء الأزرق، بدأ يقلق السلطات ليس على الصعيد الوطني وحده، بل على المستوى العالمي، حيث بدأ الحديث عن التفكير في إيجاد آليات للحد من حرية التعبير، تحت مسميات محاربة الأخبار الكاذبة، وتداعياتها على تزوير الحقائق، بل حتى التأثير في نتائج الانتخابات السياسية برمتها.