أقدمت بعض الفعاليات الحقوقية والاعلامية والأكاديمية على تأسيس تنسيقية أسمتها « اللجنة من أجل الحقيقة والعدالة في ملف الصحافي توفيق بوعشرين »، وذلك من أجل مراقبة مدى توفر شروط المحاكمة العادلة في هذا الملف اعتمادا على المعايير المتعارف عليها دوليا. تأسيس مثل هذه التنسيقيات في مختلف الديمقراطيات العريقة والناشئة لا يثير أي استغراب أو تعجب، ما دام للمواطن الحق في المطالبة بمراقبة أداء كافة السلط الدستورية بدون استثناء، وكذا بتحقيق مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية بين كافة المرتفقين والمتعاملين أمام القانون الذي ينظم كل العلاقات المجتمعية أو بين المجتمع والدولة. غير أنه في هذا البلد الذي أصبح فيه الاستثناء أصلا، سرعان ما ارتفعت بعض الحناجر والمواقع البئيسة صادحة بالطعن والتخوين في شرعية القيام بهذه الخطوة على اعتبار أنها تأثير على مجريات المحاكمة أمام القضاء، وأنها خطوة انتقائية هدفها توفير الحماية اللا قانونية للصحافي بوعشرين من أجل الإفلات من العقاب. أن تصدر مثل هذه الأقوال والتصريحات من أشخاص عاديين لا يتوفرون على دراية كافية في مجال الحق والقانون، يمكن اعتبار ذلك أمرا مقبولا، لكنه مدعاة للتعجب والاستغراب عندما تسمعه صادرا من أفواه سياسيين وتقرأه في كتابات باحثين ومحللين طالما دونوا وغردوا في مواضيع استعصى فهمها على العامة. وهنا كان حريا بأن نوضح دواعي هذه المبادرة للجميع نأيا بنا عن كل تأوبل والتباس يمكن أن يفهمه البعض انطلاقا من شائعات واتهامات تروجها بعض الجهات التي دأبت على فعل ذلك من أجل اغتيال كل فعل مدني جاد ومسؤول هدفه الرفع من دينامية المجتمع تجاه كل ممارسة وسلوك بائد تقوم به بعض المؤسسات عن حسن نية أو خلاف ذلك. عندما تم اعتقال الصحفي « توفيق بوعشرين » بطريقة أقل ما يمكن أن يقال عنها استفزازية للجسم الصحفي ورجالاته، وعندما تم تقديم بلاغ النيابة العامة الذي قدم لائحة عريضة من الاتهامات في حق الشخص المتابع، وقع العديد من الاعلاميين والحقوقيين والمثقفين تحت صدمة ورجة عنيفة، جعلت أغلبهم يأخذ مسافة حياد تجاه هذا الملف على اعتبار أن مؤسسة النيابة العامة في أولى مراحل استقلاليتها عن وزارة العدل، والتي قامت بحملة تواصلية عالية من أجل تبرير كل ما قامت به من اعتقال وبحث تمهيدي، لا يمكن أن تقدم على هذه الخطوات إلا لكونها تتوفر على معطيات دقيقة في شأن الافعال المنسوبة إلى الصحافي توفيق بوعشرين، أو الواردة في شكايات المطالبات بالحق المدني. وحيث إن القضية في البداية تم تصويرها على أنها نزاع بين مشتكيات ومصرحات ينتمين إلى الجسم الصحفي ومدير نشر اعتبر مشغلا في هذا الملف، فإنه كان من الصعب على كل متتبع تحديد موقف صريح وواضح تجاه القضية، حفظا لكرامة المتقاضيين وحق الجميع في الولوج إلى القضاء من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. لكن مع انعقاد أول جلسة محاكمة في الملف في يوم لا ينسى باعتباره تزامن مع الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، أخذت تنكشف بعض الخيوط التي تفرض طرح العديد من الأسئلة الاستفاهمية التي عنوانها البحث عن الحقيقة، الحقيقة لا غير…. هل تم ضبط الصحفي توفيق بوعشرين متلبسا بممارسة الأفعال المنسوبة إليه في صك الاتهام؟ لماذا تتم متابعة المعني بالأمر في حالة اعتقال؟ كيف تم إحضار « بوعشرين » بالقوة العمومية في ملف يتضمن شكايتين معلومتين وثالثة مجهولة؟ كيف يتابع شخص واحد بتهم توجه عمليا إلى شبكات وجماعات من الأفراد؟ وهنا أقصد جرائم الاتجار بالبشر في مجال الجنس، التي تفترض وجود أطراف متعددة تنسق بشأن البحث عن الضحايا واستدراجهم من أجل ممارسة أفعال وخدمات جنسية مقابل مبالغ مالية لفائدة زبناء مفترضين، وهذا ما سيفضي في حال تحققه إلى الكشف عن تمويلات مشبوهة وحسابات بنكية ذات أرقام فلكية. كيف يتم اللجوء إلى فيديوهات قيل أنها محجوزة بمكتب مدير نشر جريدة أخبار اليوم كوسائل إثبات للأفعال المنسوبة إليه، واتهامه بكونه هو من قام بتصويرها وتسجيلها؟ بمعنى أن المتهم هو من قام بتوثيق الأدلة التي تدينه وتركها معدة وجاهزة للحجز على مكتبه، لم تكلف الفرقة الوطنية عناء سوى المشاهدة والتفريغ. نعم، العديد من الأسئلة تم طرحها ليس انتقاصا من قيمة مؤسسة ما أو تكذيبا لادعاءات وأقوال المشتكيات، وإنما بحثا عن الحقيقة التي للأسف تقرر الشروع في مراسيم جنازة دفنها عندما تقرر إضفاء طابع السرية على جلسات هذه المحاكمة، والحجة حسب هيئة الحكمة هي حفظ كرامة المشتكيات وعدم تسريب الفيديوهات التي توثق للأفعال المنسوبة إلى « بوعشرين » حسب صك الاتهام. وهو الأمر الذي اعتبره شخصيا واهيا لاعتبارين إثنين: 1- مضامين الفيديوهات التي تم عرضها كلها مفرغة حسب أقوال النيابة العامة ضمن محاضر الفرقة الوطنية، وهذا يعني أن الأفعال المرئية والمسموعة تم توثيق وصفها كتابة ، وبما أن المحاضر تم الاطلاع عليها من طرف الرأي العام، فإنه لم يتبق ما يمكن التستر عليه بحجة صون كرامة المشتكيات والمصرحات، ما عدا اللواتي أنكرن علاقتهن بالفيديوهات المنسوبة إليهن. 2- قيام محاميي الدفاع عن المتهم وكذلك دفاع المطالبات بالحق المدني بإعطاء تفاصيل واضحة في جزئيات دقيقة جدا تهم مشاهدة الفيديوهات التي تم عرضها أو الاستماع إلى بعض الشهود والمصرحات والمشتكيات. غير أن المعطيات الواردة حسب تصريحات المحاميين، اشتملت على تناقضات كثيرة وتضمنت تأويلات واتهامات قاسية جدا في حق الصحافي بوعشرين بل وتعدى ذلك وصفه بأوصاف بشعة تنتقص من كرامته وتسيئ إلى عائلته، بل وتمس بالجسم الصحافي بأسره، وكأن بعض المحاميين الذين أدوا اليمين من أجل الدفاع عن المجتمع، نصبوا أنفسهم قضاة فأطلقوا العنان لألسنتهم من أجل محاكمة بوعشرين قبل قرار الهيئة المختصة. وهنا انتقلنا من وضع كانت تعمه الشفافية ومراقبة سير المحاكمة عبر مختلف الفعاليات الوطنية والدولية إلى محاكمة سرية في أجواء غامضة مشحونة، افتقدت فيها الحقيقة الواضحة، وشحت فيها المصادر الجادة، وهذا ما أفقد هذه المحاكمة شفافيتها ومس بمصداقيتها أمام المراقبين والمتتبعين وسائر المواطنين. وهكذا اختار العديد من الفعاليات البحث عن الحقيقة التي أريد تضييعها وطمسها باجتهادات تسيء إلى سمعة المغرب وتمس بشروط المحاكمة العادلة للمتهم الذي سيكون راضيا بحكم المجتمع قبل قرار هيئة المحكمة، على اعتبار أنه اختار مهنة الصحافة التي تجعل الناس تحاكمه من خلال كتاباته ومقالاته اليومية، نعم، لن يضير « توفيق بوعشرين » أن يحاكمه المغاربة الذين ألفوا قراءة عموده اليومي المشاكس، لكن على أساس تقديم معطيات صحيحة وجادة، لا أن يتم تشويه سمعته والنيل من كرامته عبر عدد من المواقع المشبوهة وصفحات التواصل الاجتماعي التي نصبت منصة الاعدام ولفت حبل المشنقة على عنقه بترويج الاكاذيب عنه وتخوينه صباح مساء. إن لجنة « الحقيقة والعدالة في ملف الصحافي توفيق بوعشرين » لا تنشد إلا البحث عن الحقيقة لا غير، وتوفير شروط المحاكمة العادلة، وهذا لن يتأتى إلا برفع طابع السرية عن سير الجلسات كخطوة أولى أساسية ومستعجلة، و في حالة تحقق احترام المعايير المتعارف عليها، ستكون هذه القضية وسام فخر يعلق على صدر القضاء المغربي ومؤسسات العدالة، وشهادة اعتزاز ستقدمها اللجنة قبل غيرها، لكن في حالة طمس الحقيقة واستمرار الممارسات التي تمس بعدالة القضية، سنكون آنذاك أول المنتقدين والفاضحين لكل خروقات هذا الملف، إيمانا منا بأن لا أحد في هذا البلد يعلو على القانون الذي يحكمنا جميعا.