لبى خليل الدحماني نداء الهجرة بعيدا عن التراب المغربي على دفعتين، ولم يكن ذلك إلّا بدافع التجريب، بلا سابق إصرار ولا ترصّد، بينما اتسمت المرحلتان بكثير من التحدي المواكب بالتوفيق. يرى المغربي نفسه، المقيم حاليا في العاصمة العُمانية مسقط، أن عيشه خارج المملكة أسبغ شجاعة على روحه التي لا تهاب المغامرة، كما يعتبر انتقاله إلى الخليج فرصة لاكتشاف حيز جغرافي يؤمن ناسه بالكفاءة والقيمة المضافة. وجدة وبلنسية دخلت أول جرعة من الهواء رئتي خليل الدحماني في مدينة وجدة، عاصمة جهة الشرق في المملكة، وفيها تلقى تعليمه إلى أن نال شهادة الباكالوريا في شعبة العلوم الرياضية من ثانوية "لالة أسماء". نجح الدحماني في الانتقال إلى الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط حاطا الرحال في المملكة الإسبانية للإقبال على الدراسة الجامعية، واختار التخصص في تكنولوجيات الاتصال أواخر عقد التسعينيات من الألفية الفائتة. "تخرجت مهندسا للاتصالات في جامعة البوليتكنيك بمدينة بلنسية، ما مكنني من الشروع في مساري المهني من إسبانيا"، يقول خليل وهو يستحضر ما جرى إبّان تلك الفترة. هجرة آخر لحظة يشدد الدحماني على أنه حرص على التخطيط لمشواره التكويني ما بعد الباكالوريا دون استحضار لإمكانية الهجرة، ويردف أن كل الإمكانيات التي أخذها في الاعتبار اتصلت بالعروض المتاحة وسط الوطن. ويشرح المغربي ذاته قائلا: "كنت قد أنهيت تعليمي الثانوي حين لاقيت أصدقاء يحضّرون لاجتياز امتحان يتيح لهم الالتحاق بالجامعات الإسبانية، فسألت نفسي: لمَ لا أقبل على هذه الخطوة بدوري؟". اجتاز خليل اختبار "Selectividad" في لحظة مفصلية من حياته، وبذلك تحول مسعاه إلى الحصول على شهادة كفاءة أوروبية، بفعل تسارع الزمن، إلى تجربة دولية مدتها فاقت 11 سنة. اتصالات عالمية بدأ "ابن وجدة" حضوره المهني الميداني من خلال العمل تقنيا ضمن شركة تقدّم خدمات الاتصالات في المملكة الإيبيرية، ثم نقل أداءه إلى شركة تركية مستقرة في إسبانيا، ظافرا بفرصة الانفتاح على العالم. حرص الدحماني على تقديم الاستشارة التقنية من خلال وضعه المهني البديل، مواظبا على السفر بين دول أوروبية وإفريقية كثيرة؛ ما جعله يكتسب قدرة الاندماج في أي بيئة يفد عليها، مستفيدا من كثرة مخالطته لجنسيات مختلفة وثقافات متنوعة. عاد خليل إلى المغرب من خلال التزامات الشركة التركية التي يعمل لصالحها، بعدما ظفرت بصفقة في المملكة واختارت "ابن البلد" ممثلا لها في وطنه الأم. عرض عُماني "تجربتي المهنية الجديدة لم تلائم طموحاتي وأنا أعيش تطوراتها؛ لذلك قبلت بعرض شركة إسبانية ظفرت بصفقة للتدبير المفوض في ميدان النظافة والتطهير، وبقيت ملازما لأدائها في المغرب"، يكشف خبير الاتصالات. بعد خمس سنوات من العمل، وصولا إلى سنة 2015 تحديدا، وافق الدحماني على اقتراح قدمه إليه مسؤولو الشركة ذاتها للالتحاق بسلطنة عُمان، ليحظى بذلك بهجرة ثانية قادته إلى منطقة الخليج هذه المرة. يتموقع خليل في منصب مدير المشاريع للفاعل في مجال النظافة وسط المجتمع العُماني، مشرفا على إرساء هذه المعاملة منذ إبرام التعاقد مع سلطات البلاد، ومواكبا خطها التصاعدي على مدى أعوام. مقومات السلطنة يقول المنتمي إلى صف "مغاربة العالم" إن أول سؤال يطرحه من يعرفون استقراره في مسقط يكون حول اعتياده على الجو الحار، ويردف: "البلاد لها من الإمكانيات، خاصة في البنى التحتية، ما يجعل التأقلم مع الحرارة أمرا هينا". يشيد الدحماني بطيبة الشعب العُماني وسمته المسالمة وما يطبعه من تسامح؛ ما ساعده على الاندماج بسرعة وسلاسة في مستقره الحالي، وبالتالي عدم الاحساس بالغربة. "التجربة العُمانية تجعلني سعيدا بمعية أسرتي، وإيقاع الحياة في هذا البلد يلائمني وأسرتي، حتى إنني أعتبر نفسي وزوجتي وابنتي مقيمين حقّا في بلدنا الثاني"، يواصل خليل كلامه. إيقاع الأداء الالتزامات اليومية لمدير المشاريع ذاته تجعله، منذ بداية سنة 2016، ملازما لأول مرور في سلطنة عُمان من النمط التقليدي لجمع النفايات إلى الخيار العصري المتمثل في التدبير المفوض. استفاد الدحماني من تجربته في هذا الأداء بالمغرب وهو يضع لمساته على الممارسة التي يواكبها من مسقط، محددا ميزانية الاشتغال ومواكبا لصرفها، ومتعاملا مع المتطلبات البشرية واللوجستيكية. مهام المغربي خليل تلزمه بتتبع سير التدبير المفوض من منظور شمولي، ثم الانتقال إلى شق العلاقات مع الشركاء عبر التواصل مع العملاء من جهة، والمسؤولين من كل مراتب السلطة من جهة ثانية. شعلة وتناغم يبدي مجرب العيش في عُمان رضاه عن كل المسار الذي قطعه، من وجدة إلى مسقط عبر بلنسية وغيرها من الحواضر، رغم قراره السابق بالعودة إلى الوطن بغرض التأسيس لحياة في المجتمع الذي رأى وسطه النور أول مرة. ويقول خليل إن الأقدار شاءت أن يعيد إيقاد شعلة التحدي بخوضه تجربة عُمانية مثيرة، على المستويين الشخصي والمهني، من خلال الانخراط في مشروع لا يراد منه إلاّ أن يعانق أعلى مراتب النجاح الممكنة. الدحماني يرى أن ما استجمعه من دراية خلال الأعوام التي عاشها في الخارج يجعله ناصحا المغاربة الراغبين في الهجرة بالثقة الشديدة في قدراتهم، وعدم إهمال إتقان اللغات، خاصة الإنجليزية، حين يركزون على الظفر بمكتسبات مهنية تقنية. "الانفتاح على الآخرين يبقى محددا مفصليا لمستوى النجاح في مسارات الهجرة المختلفة، خاصة أن العالم قد صار قرية صغيرة تستوجب من سكانها التعارف والتناغم بعيدا عن الأحكام المسبقة وباقي المثبطات"، يختم خليل الدحماني.