المغاربة مطالبون بتغليب مصالح وطنهم في مواجهة الحملات المغرضة    التطوع من أجل نشر القراءة.. حملة ينظمها حزب الاستقلال بالقصر الكبير    الحوار السياسي في موريتانيا خطوة نحو التوافق أم مناورة لاحتواء المعارضة    الجزائر تعرض مواردها المعدنية على الرئيس ترامب لتفادي الوقوع في ورطة زيلنسكي    المرأة المغربية في عيدها العالمي وقفة سريعة مع سنة 2024    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    وفد إسرائيلي يتوجه الى الدوحة الإثنين لمباحثات بشأن الهدنة في غزة    كندا.. المصرفي السابق مارك كارني سيخلف جاستن ترودو في منصب رئيس الوزراء    نهضة بركان على بعد خطوة من تحقيق أول لقب له بالبطولة    طقس الاثنين.. ثلوج وأمطار وهبات رياح قوية بعدد من مناطق المملكة    تعليق الدراسة في عدد من الأقاليم المغربية بسبب الأحوال الجوية    الدرك الملكي بالدراركة يوقف صيدلانيا متورطا في ترويج القرقوبي    اعتداء خطير على أستاذ يهز الخميسات .. وبرلمانية تساءل الحكومة    اجتماع استثنائي للكاف في القاهرة بحضور قادة كرة القدم الإفريقية    كيوسك الإثنين | انخفاض معدل الاعتقال الاحتياطي ب 37,56 % عند متم 2023    عمر هلالي يعلق على أنباء اهتمام برشلونة    الصين تعزز الحماية القضائية لحقوق الملكية الفكرية لدعم التكنولوجيات والصناعات الرئيسية    كوريا الجنوبية/الولايات المتحدة: انطلاق التدريبات العسكرية المشتركة "درع الحرية"    ترامب: التعليم في أمريكا هو الأسوأ في العالم    دراسة: الكوابيس علامة مبكرة لخطر الإصابة بالخرف    ساكنة تجزئة العالية بالجديدة يحتجون من جديد على مشروع بناء حمام وسط حيهم    أبطال أوروبا .. موعد مباراة برشلونة ضد بنفيكا والقنوات الناقلة    رجاء القاسمي.. الخبرة السينوتقنية بلمسة نسائية في ميناء طنجة المدينة    إسرائيلي من أصول مغربية يتولى منصب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي    نهضة بركان تفوز بثنائية في تطوان    بطل في الملاكمة وبتدخله البطولي ينقذ امرأة من الموت المحقق … !    الشركة متعددة الخدمات الدار البيضاء سطات.. جهود مكثفة لتفادي تجمعات مياه الأمطار وتيسير حركة المرور    جثة امرأة تنتظر التشريح في سطات    مبعوث أمريكي يدّعي أن حماس اقترحت هدنة من 5 إلى 10 أعوام بغزة    نجم إسبانيول يعرب عن رغبته في الانضمام إلى أسود الأطلس    ندوة تبرز الإنجازات في الصحراء    أسعار الخضر والفواكه تشهد ارتفاعًا ملحوظًا في أسواق سوس ماسة والمواطنون يطالبون بتدخل السلطات    8 مارس ... تكريم حقيقي للمرأة أم مجرد شعارات زائفة؟    التساقطات المطرية تساهم في الرفع من حقينة سدود المملكة    موظفو الأحياء الجامعية بالمغرب يضربون ويدعون للاحتجاج أمام مقر وزارة التعليم العالي    ارتفاع مثير للمنازل المهجورة في كوريا بسبب شيخوخة السكان    سوريا تحقق في "المجازر المروعة"    وداعًا نعيمة سميح...    نعيمة سميح .. من برامج اكتشاف المواهب إلى صوت المغرب الخالد    عمر أوشن يكتب: ليلة غنت نعيمة سميح للمعتقلين السياسيين "ياك أجرحي"    العملات الرقمية.. استخدام واسع للمغاربة ترافقه أحكام بالإدانة وترقب لصدور قانون مؤطر    القول الفصل فيما يقال في عقوبة الإعدام عقلا وشرعا    الأمازِيغ أخْوالٌ لأئِمّة أهْلِ البيْت    نحو إدارة موانئ مستدامة    السمنة .. وباء عالمي    اتحاد طنجة يخطف تعادلا من العاصمة العلمية    عبد الوهاب الدكالي ل "أكورا": نعيمة سميح فنانة استثنائية-فيديو-    المغرب يستورد أزيد من 600 ألف طن من الزيوت النباتية من روسيا    ملاعب للقرب تفتح أبوابها للشباب بمقاطعة سيدي البرنوصي    حقيقة الأخبار المتداولة حول خطورة لحوم الأغنام على صحة المغاربة..    نورة الولتيتي.. مسار فني متألق في السينما الأمازيغية    أمسية رمضانية أدبية احتفالا بإبداع الكاتب جمال الفقير    رحلت عنا مولات "جريت وجاريت"    تسجيل أزيد من 24 ألف إصابة بجدري القردة بإفريقيا منذ مطلع 2025    أفضل النصائح لخسارة الوزن    عمرو خالد: هذه ملامح استراتيجية نبوية ناجعة للتعامل مع تقلبات الحياة    اضطراب الشراهة عند تناول الطعام: المرض النفسي الذي يحوله تجار المكملات الغذائية إلى سوق استهلاكي    مقاصد الصيام.. من تحقيق التقوى إلى بناء التوازن الروحي والاجتماعي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنان الحارثي دمعة في عين الكاتب
نشر في هسبريس يوم 02 - 06 - 2018

كتبت المقالة في أكتوبر 1997، ونشرت في الملحق الثقافي لجريدة لعلم
إرْثُ المَالِ يَفْنى وَإِنْ كَانَ قارونِياً، وَإرِثُ الذِّكْرَى وَالتَّذَكُّرِ يَخْلُدُ لِأَنَّهُ أَسَاسُ الحَضَارَاتِ. إِرْثُ المَالِ قَدْ يَكُونُ مَصَدرًا للتباغُضِ وَالشَّنَآنِ، وَإرِثُ الذِّكْرَى لُحْمَةُ حُبّ الأَهْلِ وَالأَبْنَاء وَالوَطَن.... هذه بَعْضُ أَفْكَارٍ كَانَتْ تَتَرَدَّدُ فِي خَاطِرِي وَأَنَا أَسِيرُ جِهَةَ "جَنان الحارثي" وَمِعَى طِفْلِي أُرِيدُ أَنْ أَجْلِسَ وَإِيَّاهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ طَالَمَا وَقََتْنِي حَرَّ الصَّيْفِ فِي أَيَّامِ صِباي، عِنْدَمَا كَانَ أَبْنَاءُ المَيْسُورِينَ يَتْرُكُونَ جُوَّ مَرَّاكِش الحَارِ فِي رِحْلَةٍ إِلَى الشُّطْآنِ، إِلَى البَحْرِ الَّذِي كُنْتُ أَتَصَوِّرُهُ عِنْدَهَا دُكَّانًا كَبِيرًا كَبِيرًا كَبِيرًا يَمْتَلِئُ مَاءً كَثِيرًا كَثِيرًا كَثِيرًا، عِنْدَمَا كُنْتُ أَظُنُّ مِيَاهَ ذاكم البَحْرِ سَمْرَاءَ اللَّوْنِ لِأَنَّ العَائِدين مِنْهُ كَانُوا يَرْجعون وَقَدْ صَارَتْ أَجْسَامُهُمْ طِينِيَّةَ اللَّوْنِ.
كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَجْلِسَ وَابني عَلَى مَقَاعِدَ خَضْرَاءَ عَرَفْتُهَا مُتَوَاضِعَةً مذ بَدَأْتُ أَحِبُّ الكِتَابَ، لِأَرْبُطَهُ مَعَهَا بِعَلَاقَةِ مَاضٍ كَانَ لي وَأُرِيد أَنْ يَكُونَ لَهُ هُوَ أَيْضًا. وَسَرَحَ بِي الخَيَالُ وَبَدَأْتُ أَحَدِّثُ طِفْلِي عَنْ قَصْرِيَ الجَمِيلِ الَّذِي بَنَيْتُهُ فِي"جَنَانِ الحارثي" وَقَدْ قَرَأَتُ فِيه أُوَلَ كِتابٍ غَيْرِ مَدْرسِي كُنْتُ اشْتَرَيْتُهُ بِ "عِشْرِينَ رِيَالٍ" (درهم) فِي سَاحَةِ جَامِعِ الفَنَاءِ، وَكَانَ عُنْوَانُه "أَكْلْ عَيْشْ (عَيْشَ = الخَبْزُ بِاللَّهْجَةِ المِصْرِيَّةِ) وَهُوَ مَجْمُوعةُ قَصَصٍ لَمْ أَعُدْ أَذْكُرُ اسْمَ كَاتِبِهَا. سَرَحَ بِي الخَيَالُ وَبَدَأْتُ أحدثه عن قَصْرٍ اِسْتَقْبَلْتُ فِيهُ المَنْفَلُوطي بِنَظَرَاتِهِ وَعَبَرَاتِه، وَتَوْفِيقَ الحَكِيمَ مَعَ حِمَارِهِ وَأَصْحَابِ الكَهْفِ وَالرَّقِيمِ وإسلامياته. وَأَحْمَدَ أَمِين فِي فَيْضِ خَاطِرِهِ وَتَوَارِيخِهِ.
وَطَهَ حُسَيْن فِي أَيَّامِهِ وخُصُومَاتِهِ، بَدْءًا مِنْ الشّعْرِ الجَاهِلِي إِلَى أَحَادِيثِ الأَرْبِعَاءِ. وَالأَخْطَلَ الصَّغِيرَ فِي غَزَلياتهِ. وَأَحْمَدَ شَوْقِي فِي شوقياته. وَخَلِيلَ مِطْرَان وَجُبْرَانَ وَسَلَامَة مُوسَى والشابي وَ اِبْنَ إِبْرَاهِيمَ وَأَحْمَدَ الخُلَاصَةَ. وَقُلْتُ لِأَبْنِيَ إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَسْمَاءٍ أُخْرَى غَابَتْ عَنْ ذِهْنِي فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، كُلَّهُم حَثُّونِي بِأَلْفِ وَجْهٍ وَوَجْهٍ عَلَى النَّظَرِ والتَّأَمُّلِ فِي آدَابٍ أُخْرَى كَانَتْ سُوقُ التَّرْجَمَةِ حَافِلَةً بِهَا فِي تِلكُمْ الأَيَّامِ. وَقُلْتُ لَهُ إِنَّي هُنَا اِلْتَقَيْتُ بِأَحَدَبَ نُتَرْدَامْ لِﭬﯖتُور هِﯖو، وَفِي هَذَا المَكَانِ عِشْتُ "الحَرْبَ وَالسِّلْمَ "مَعَ تُلْسْتوي، وَسَمِعْتُ حَدِيثَ "الأُمِّ" لِجُوَرِكِي. وَفِي هَذَا القَصْرِ تَعَلَّمْتُ مِنْ كُلّ هَؤُلَاءِ أَنَّ الأَدَبَ هُوَ حَضَارَةُ الفِكْرِ، وَأَنَّ الفِكْرَ هُوَ رُوحُ الفَلْسَفَةِ، فَبَدَأْتُ أَقْرَأُ سُقْرَاطَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو وَأفلوطين، وَتَذَوَّقَتُ لَذَّةَ الأبيقوريين، وَسَمِعْتُ مِنْ زينونَ، وَتَجَوَّلْتْ فِي"الأُكْرُبول" على جبل أتينا، ومِنْ عَلَاهُ اطَّوَّفَ بِي نَظَرِي فِي آفَاقٍ أُخْرَى رَأَيْتُ منها "فَاوْسَتْ "يَعْقِدُ عَهْدَهُ مَعَ الشَّيْطَانِ، وفَاغنَرْ يَعْزِفُ لَهُمَا لَحْنَ التَّصْدِيقِ بَعْدَ أَنْ حَرَّرَ ﯖُوتْه آخَرَ كَلِمَةٍ مِنْ رائعته.
فِي هَذَا الأُفْقِ رَأَيْتُ "شَيْخَ البَحْرِ" يُصَارِعُ الأَمْوَاجَ العَاتِيَةَ بَعْدَ أَنْ تَرْكُهُ هَمَنْﯖوي يَلْقَى مَصِيرَهُ وَذَهَبَ لِيَدُقَّ الأَجْرَاسَ قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ بُنْدُقِيَّتَهُ وَيُسْدِلَ الظَّلَامَ. فِي هَذَا الأُفْقِ رَأَيْتُ كريل تسيسمن فِي زِنْزَانَتِهِ الَّتِي نَسِيتُ رَقْمَهَا يُحَرِّكُ الضَّمِيرَ العَالَمِيَّ. وَدَارِوينَ يُعِيدُ كِتَابَةَ تَارِيخِ البَشَرِ لِيُوَطِّدَ عَلَاقَةَ الإِنْسَانِ بِالقِرْدِ، "غَفَرَ اللهُ له". وإيرلند توينبي يُذَكِّرُ البَشَرَ بِأنَّ التَّحَدِّيَّ يَصْنَعُ الحَضَارَاتِ. هُنَا عَرَفَتْ قِصَّةَ حَضَارَةِ وَيْلِ ديورانت. وَرِحْلَةَ صَقْر قُرِيْش، وَقُصُورَ الأَمِيرَاتِ وَسَرَادِيبَ الأَفَّاقِين. هُنَا غَاصَتْ قَدَمَاي فِي رِمَالِ الضِّفَافِ الَّتِي أَدْفَأَتْ فِيهَا أَشِعَّةُ الشَّمْسِ طِينَ القَدْرِ الإِلَهِيِ ليَكُونَ "حَيٌّ بِن يَقْظَانٍ" بَعْدَ أَنْ أَعَادَ اِبْنُ طَفِيلِ قصةَ الخَلْقِ مِنْ جَدِيدٍ، وَهِيَ قِصَّةٌ ذَكَّرَتْ بَنِي آَدَمَ بِ فَلْمًا رَأَى القَمَرَ.... وَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ... وَلَمَّا... وَلَمَّا... لِيُكونَ اللهُ. وَكَانَ وَسَيَبْقَى. عِلْمٌ غَزِيرٌ عَمِيقٌ يَتَلَقَّاهُ الإِنْسَانُ مِنْ صَفَاءِ حَلِيبِ غَزَالَةٍ هِيَ رَمْزُ الأُمُومَةِ وَمَواتُهَا. وَمَواتُهَا هُوَ رَمْزُ الفَلْسَفَةِ وَخُلَاصَةُ الكَوْنِ. قُلْتُ لِاِبْنِي: فِي "جَنَانِ الحارثي" سَمِعْتُ هَمْسَ اِبْنِ طَفِيلٍ فِي أُذُنِ اِبْنِ رُشْدٍ ينبهه بَعْدَ أن سَأَلَ الخَلِيفَةُ سُؤَالَهُ المَشْهُورَ: "مَا قُولهُمْ فِي السَّمَاءِ". وَهُوَ السُّؤَّالُ الذي كَانَ الخُطْوَةَ الأَوْلَى فِي إنْهاضِ الغَرْب بَعْدَ مَشْرُوعِ "أﭬِيرُوِّسْ" (اِبْنُ رُشْدٍ) الكَبِيرِ العِمْلَاقِ. فِي هَذَا المَكَانِ تَعَلَّمْتُ أَنَّ صَفاءَ الرُّوحِ وَصِحَّةَ النَّفْسِ لَا يَأْتِيَانِ إِلَّا مِنَ رُفْقَةِ أُنَاسٍ لَيْسَ مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُم الزَّمَانُ، أَوْ يُقَرِّبَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ المَكَانُ، إِنَّمَا هِيَ أَرْوَاحُ جُنُودٍ مُجَنَّدَةٍ تَنْتَقِلُ مِنْ بَرْزَخٍ إِلَى بَرْزَخٍ، إنْ أَرَادَتْ إرادَةُ اللهِ أنْ يَصْنَعَ الإِنْسَانُ الحَضَارَةَ.
لَحَظَاتٌ قَصِيرَةٌ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ تَفْصِلُ بَيْنَ عَزْمِي عَلَى أَنْ أَسِيرَ أَنَا وَابْنِي إِلَى مَوْطِنِ ذِكْرَيَاتِي وَالوُصُولِ إِلَى "جَنَانِ الحارثي". كَانَتْ كَأَنَهَا كُلُّ صِبَايَا وَطُفُولَتِي وَعُنْفُوَانِي. كُلُّ حَيَاتِي تَجَمَّعَتْ فِي قَرِيبٍ مِنْ عِشْرِينَ دَقِيقَةً هِيَ المَسَافَةُ بَيْنَ بَيْتِ الوَالِدِ وَ"جَنَانِ الحارثي". وَفِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ مَرَّ بِخَاطِرِي كُلُّ مَا قُلْتُ. وَاقْتَرَبْتُ مِنْ بَابِ الحارثي، وَبَدَأَ قَلْبِي يَدُقُّ، لِأَنَّ اللَّحَظَاتِ الغَالِيَةَ، لَحْظَاتِ أَنْ تُسَلِّمَ أَعَزَّ مَا تَمْلِكُ إِلَى أَعَزِّ منْ تُحِبُّ، أَنْ تَسَلَّمَ قَصْرَكَ إِلَى وَرِيثِهِ. وَقَصْرِي هُوَ هَذَا الَّذِي بَنَيْتُه فِي جَنانِ الحارثي، وَأَثَاثُهُ وَأَبْدَعُ مُحْتَوَيَاتِه هُمْ أُولَئِكَ العُظَمَاءُ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ وَالَّذِينَ نَسِيتُ ذِكْرَهمْ، مَتَاعِي وَكُلُّ دُنْيَاي وَجُماعُ تِلْكَ السَّاعَاتِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي قَضَيْتُهَا هُنَا، فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الحُزْنِ وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الفَرَحِ، فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ شِعْرِ الحُبِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَدَّ بَني عُذْرَةَ، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّثْرِ الَّذِي كَانَ هُوَ لِبَاسِي الجَدِيدَ فِي الأَعْيَادِ، وكان َأَسْفَارِي فِي العُطَلِ. كُلُّ هَذَا تَرَكْتُهُ هُنَا حَتَّى يَحِينَ الحِينُ لِأُسَلِّمَهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ.. انْتَظِرْ قَلِيلًا يَا بُنَي. وَعَانَقْتُ إِسْمَاعِيلَ وَعَانَقَنِي بِالغَرِيزَةِ، وَنَظَرَتُ إلَيْه وَدَمْعٌ مِنْ العَيْنِ يَنْهَمِلُ. إنها لَحْظَةُ البَهْجَةِ وَسَمُوِّ الرُّوحِ وَقِمَّةِ السَّعَادَةِ. تَتَابَعَتْ خُطُوَاتِي وَخَلْفَي إِسْمَاعِيلُ يَهُزُّ الخُطَى. بَيْنَ بَابِ الحارثي وَوَسَطِه حَوَالَيْ مِائَتَي مِتْرٍ. فِي هَذَا الوَسَطِ كُلّ مِلْكِي: مَقْعَدٌ أَخْضَرُ لَهُ إِخْوَةٌ فِي أَمَاكِنَ أُخْرَى شَاهِدٌ مِنْ شُهُودِ المَسَارِ، وَمِنْهُ وَمِنْ عَلَيْهِ دَخَلْتُ دُنْيَاي تِلْكَ. وَعَزَمْتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا المَقْعَدُ مَكَانَ التَّسْلِيمِ..... جُلْتُ بِنَظَرِي. صِحْتُ أَيْنَ المَقْعَدُ؟ أَيْنَ جَمَالُ هَذِهِ السَّاحَةِ وَمُنَسَّقُ زُهُورِهَا وَأَشْجَارِهَا؟ أَيْنَ المَعْهَدُ المُوسِيقِيُّ الَّذِي طَالَمَا خَفَّفَ مِنْ عَنَاءِ الإِرْهَاقِ بِرَنَّةِ وَتَرٍ كَانَ يَجُودُ بِهَا عَبْدُ الله عِصَامِي أَوْ آلَةُ عَوَاطِف أَوْ عَبْدِ الرَّفِيقِ رحمه الله؟ أَيْنَ فِعْلُ السِّحْرِ الَّذِي كَانَتْ تَحْمِلُهُ الأَنْسامُ مِنْ هَذَا المَكَانِ كُلَّ مَا أَعْيَى صَقيلُ الوَرَقِ العِينَ أَوْ غُمَّ فَهْمُ مَعْنًى؟ أَيْنَ بَصَمَاتُ كِبَارِ مُوسِيقيِّينا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْتُ وَمَنْ لَمْ أَذْكُرْ؟ مَعْهَدُهُمْ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ هُنَا، هُوَ خِرْبَةٌ مُتَهاوِيَّةُ السَّقْفِ مَكْلُومَةُ الجُدْرَانِ مَبْقورَةُ الأَحْشَاءِ.
أَيْنَ هَيْبَةُ هَذَا الرِّوَاقِ الَّذِي تَرَبَّعَ فِي صَدْرِ الحارثي، وَرَدَّدَ فِي زَاهِي أَيَّامِهِ أَنْغَامَ جُوقٍ نُحَاسِي كَانَ يُطْرِبُ أَهْلًا مِنْ مُتَوَاضِعِي الحَالِ مِنْ سُكَّانِ هَذِهِ المَدِينَةِ؟ أَيْنَ قَاعَاتٌ جَمِيلَةٌ كَانَتْ زينَةً لِلمُحَاضَرَاتِ وَالنَّدَوَاتِ مِنْ غَابِرِ العُصُورِ؟ أَيْنَ مَرَابِعُ حَيَوَانَاتٍ وَطُيُورٍ ولطائِفَ كَثِيرًا مَا أَمْتَعَتْ صِغَارَ هَذِهِ المَدِينَةِ الصَّامِتَةِ. جَنَانُ الحارثي اليَوْمَ، بَاقَةٌ مِنْ قِلَّةِ الذَّوْقِ وَبَرَاعَةِ القُبْحِ، آجُرٌّ وإسْمَنْتٌ هُوَ قَيْءٌ تَرَبَّعَ أَيْنَ مَا يَحْلُو لَهُ. وَسَخٌ فِي وَسَخٍ. جَنَانَ الحارثي اليَوْمَ جَسَدٌ مَقَطَّعُ الأَوْصَالِ. بَعْضٌ مِنْ أَوْصَالِهِ صَارَ جُزْءًا مِنْ المَلِكِ العَامِّ، وَبِعَضٌ مِنْ المُلْكِ الخَاصِّ. مَأْسَاةٌ وَخَرَابٌ وَسَرِقَةٌ. مَأْسَاةٌ مَنَعَتْنِي مِنْ تَسْلِيمِ مَا كُنْتُ أَمْلِكُ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ. وَخَرَابٌ لِقُصُورِ ذِكْرَيَاتِ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِي وَعُمْرَانِ النَّاسِ. وَسَرِقَةٌ لِهَذِهِ الذِّكْرَيَاتِ وَلَا حُجَّة لِي وَلِأَمْثَالِي، لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ لَا ُيُلْمَسُ بِاليَدِ، إِنَّمَا هُوَ فِي الخَيَالِ وَالصُّوَرِ، وهوَ مع هَذا الْمَكَانِ كَمَا كَانَ لا كما هوَ الآن.. وَكَمْ هُمْ ضَحَايَا هَذَا الغَدْرِ مِنْ أَبْنَاءِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَمِنْهُمْ الَّذِي أَصْبَحَ وَزِيرًا وَالَّذِي أَصْبَحَ طَبِيبًا وَالَّذِي أَصْبَحَ عَالِمًا؟ وَمِنْهُمْ مَنْ لَوَّحَتْ بِهِ رِيَاحُ الأَيَّامِ للاسترزاق فِي مَا وَرَاءَ البِحَارِ. وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي البَابِ غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ عَلَى عَيْنَيْهِ حُجَبَ الصَّبْرِ وَرَدَّدَ بِلِسَانِهِ حَوْقَلَةَ القُلُوبِ. مَاذَا أَقُولُ لَكَ يَا بُنِّي؟ عَزَمْتُ أَنْ أَنْقُلَ إِلَيْكَ مَا تَسْتَحِقُّ فَحَرَمَتْكَ مِنْهُ يَدُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ. بَلَائي وَبَلَاؤُكَ رَحَى الإِهْمَالِ وَعَدَمُ يَقْظَةِ البَالِ. بَلَائي وَبَلَاؤُكَ أَنَّ الَّذِي يَرْعَى هَذَا الْمَكانَ فِي هَذِهِ الْمَدينَةِ لَمْ يَصِلْ بِهِ بَعْدُ وَعْيُ الضَّمِيرِ لِيَعْرِفَ أَنَّ العُمْرَانَ لَا يَكُونُ بِحَجَرٍ عَلَى حَجَرٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِجُمَاع ذَكَرِيَّاتِ أَبْنَاءِ المَدِينَةِ.
الحَجَرُ تَذُرُّوهُ الرِّيَاحُ، وَعُمْرَانُ الفِكْرِ يَتَطَاوَلُ عَلَى الزَّمَانِ. وَقَاضينَا يَا بُنَي، أَنْ تَرْفَعَ الْعَيْنَ إِلَى السَّمَاءِ، فَالصَّحْرَاءُ تَعَود مُرُوجًا، وَالمَسْلُوبُ قَدْ يَرْجِعُ قُصُورًا وَبُرُوجًا، فَيَعُود إلَيْكَ وإِلَى إِخْوَةٍ لَكَ فِي هَذِهِ المَدِينَةِ، حَقُّ أبيكَ وحُقوقُ آبائِهم. إِنْ الإنسانَ يا بُنَي صَنَعَ الحَضَارَةَ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الذِّكْرَيَاتِ، وَالحَيَوَانُ وَحْدَهُ لا ذاكِرَةَ لَهُ فَلَمْ يَصْنَعْ حَضَارةً. وَمَا ضَاعَ حَقٌّ وَرَاءَهُ كَاتِبٌ.
رسالة مفتوحة إلى السيد عمدة مدينة مراكش: جنان الحارثي في كليته إرث معنوي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.