توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    معرض الفرس بالجديدة يواصل جذب الزوار.. و"التبوريدة" تلقى متابعة واسعة    إسرائيل تستهدف قياديا في "حزب الله "    جمارك عبدة تحرق أطنانا من المخدرات    هل تغيّر سياسة الاغتيالات الإسرائيلية من معادلة الصراع في الشرق الأوسط؟    بايتاس يُشيد بالتحكم في المديونية    انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي و"طرد البوليساريو".. مسارات وتعقيدات    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    مشفى القرب بدمنات يواجه أزمة حادة    طرائف وحوادث الإحصاء    "النملة الانتحارية".. آلية الدفاع الكيميائية في مواجهة خطر الأعداء    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    فاتح شهر ربيع الآخر 1446 ه يوم السبت 5 أكتوبر 2024    بذل عمل جديدة لعناصر الجمارك "توضح تراتبية القيادة" شبه العسكرية    المياه المعدنية "عين أطلس" لا تحترم معايير الجودة المعمول بها    رسميا: فيفا يعلن عن موعد انطلاق مونديال كرة القدم سيدات تحت 17 في المغرب    الحسيمة.. عائلة من افراد الجالية تتعرض لحادثة سير خطيرة على طريق شقران    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    إسبانيا على وشك خسارة استضافة مونديال 2030 بعد تحذيرات الفيفا    الملك يهنئ رئيس الحكومة اليابانية الجديدة    "مجموعة العمل من أجل فلسطين": الحكومة لم تحترم الدستور بهروبها من عريضة "إسقاط التطبيع" ومسيرة الأحد تؤكد الموقف الشعبي    مومن: قائمة المنتخب المغربي منطقية    أسعار النفط العالمية ترتفع ب 5 في المائة        "درونات" مزودة بتقنية الذكاء الاصطناعي لمراقبة جودة البناء    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    الركراكي: الانتظام في الأداء أهم المعايير للتواجد في لائحة المنتخب المغربي    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    الركراكي يساند النصيري ويكشف هوية قائد المنتخب    حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية تدخل شهرها الأخير    أخبار الساحة        أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مهرجان سيدي عثمان السينمائي يكرم الممثل الشعبي إبراهيم خاي    قراصنة على اليابسة    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    عبد اللطيف حموشي يستقبل المستشار العسكري الرئيسي البريطاني للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    استدعاء وزراء المالية والداخلية والتجهيز للبرلمان لمناقشة تأهيل المناطق المتضررة من الفيضانات    "جريمة سياسية" .. مطالب بمحاسبة ميراوي بعد ضياع سنة دراسية بكليات الطب    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    جائزة نوبل للسلام.. بين الأونروا وغوتيريس واحتمال الإلغاء    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    مؤتمر علمي في طنجة يقارب دور المدن الذكية في تطوير المجتمعات الحضرية    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    القطب الرقمي للفلاحة.. نحو بروز منظومة فلاحية رقمية فعالة        وقفة أمام البرلمان في الرباط للتضامن مع لبنان وغزة ضد عدوان إسرائيل    مندوبية طنجة تعلن عن منع صيد سمك بوسيف بمياه البحر الأبيض المتوسط    المغرب يشرع في فرض ضريبة "الكاربون" اعتبارا من 2025    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    دراسة: التلوث الضوئي الليلي يزيد من مخاطر الإصابة بالزهايمر    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنان الحارثي دمعة في عين الكاتب
نشر في هسبريس يوم 02 - 06 - 2018

كتبت المقالة في أكتوبر 1997، ونشرت في الملحق الثقافي لجريدة لعلم
إرْثُ المَالِ يَفْنى وَإِنْ كَانَ قارونِياً، وَإرِثُ الذِّكْرَى وَالتَّذَكُّرِ يَخْلُدُ لِأَنَّهُ أَسَاسُ الحَضَارَاتِ. إِرْثُ المَالِ قَدْ يَكُونُ مَصَدرًا للتباغُضِ وَالشَّنَآنِ، وَإرِثُ الذِّكْرَى لُحْمَةُ حُبّ الأَهْلِ وَالأَبْنَاء وَالوَطَن.... هذه بَعْضُ أَفْكَارٍ كَانَتْ تَتَرَدَّدُ فِي خَاطِرِي وَأَنَا أَسِيرُ جِهَةَ "جَنان الحارثي" وَمِعَى طِفْلِي أُرِيدُ أَنْ أَجْلِسَ وَإِيَّاهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ طَالَمَا وَقََتْنِي حَرَّ الصَّيْفِ فِي أَيَّامِ صِباي، عِنْدَمَا كَانَ أَبْنَاءُ المَيْسُورِينَ يَتْرُكُونَ جُوَّ مَرَّاكِش الحَارِ فِي رِحْلَةٍ إِلَى الشُّطْآنِ، إِلَى البَحْرِ الَّذِي كُنْتُ أَتَصَوِّرُهُ عِنْدَهَا دُكَّانًا كَبِيرًا كَبِيرًا كَبِيرًا يَمْتَلِئُ مَاءً كَثِيرًا كَثِيرًا كَثِيرًا، عِنْدَمَا كُنْتُ أَظُنُّ مِيَاهَ ذاكم البَحْرِ سَمْرَاءَ اللَّوْنِ لِأَنَّ العَائِدين مِنْهُ كَانُوا يَرْجعون وَقَدْ صَارَتْ أَجْسَامُهُمْ طِينِيَّةَ اللَّوْنِ.
كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَجْلِسَ وَابني عَلَى مَقَاعِدَ خَضْرَاءَ عَرَفْتُهَا مُتَوَاضِعَةً مذ بَدَأْتُ أَحِبُّ الكِتَابَ، لِأَرْبُطَهُ مَعَهَا بِعَلَاقَةِ مَاضٍ كَانَ لي وَأُرِيد أَنْ يَكُونَ لَهُ هُوَ أَيْضًا. وَسَرَحَ بِي الخَيَالُ وَبَدَأْتُ أَحَدِّثُ طِفْلِي عَنْ قَصْرِيَ الجَمِيلِ الَّذِي بَنَيْتُهُ فِي"جَنَانِ الحارثي" وَقَدْ قَرَأَتُ فِيه أُوَلَ كِتابٍ غَيْرِ مَدْرسِي كُنْتُ اشْتَرَيْتُهُ بِ "عِشْرِينَ رِيَالٍ" (درهم) فِي سَاحَةِ جَامِعِ الفَنَاءِ، وَكَانَ عُنْوَانُه "أَكْلْ عَيْشْ (عَيْشَ = الخَبْزُ بِاللَّهْجَةِ المِصْرِيَّةِ) وَهُوَ مَجْمُوعةُ قَصَصٍ لَمْ أَعُدْ أَذْكُرُ اسْمَ كَاتِبِهَا. سَرَحَ بِي الخَيَالُ وَبَدَأْتُ أحدثه عن قَصْرٍ اِسْتَقْبَلْتُ فِيهُ المَنْفَلُوطي بِنَظَرَاتِهِ وَعَبَرَاتِه، وَتَوْفِيقَ الحَكِيمَ مَعَ حِمَارِهِ وَأَصْحَابِ الكَهْفِ وَالرَّقِيمِ وإسلامياته. وَأَحْمَدَ أَمِين فِي فَيْضِ خَاطِرِهِ وَتَوَارِيخِهِ.
وَطَهَ حُسَيْن فِي أَيَّامِهِ وخُصُومَاتِهِ، بَدْءًا مِنْ الشّعْرِ الجَاهِلِي إِلَى أَحَادِيثِ الأَرْبِعَاءِ. وَالأَخْطَلَ الصَّغِيرَ فِي غَزَلياتهِ. وَأَحْمَدَ شَوْقِي فِي شوقياته. وَخَلِيلَ مِطْرَان وَجُبْرَانَ وَسَلَامَة مُوسَى والشابي وَ اِبْنَ إِبْرَاهِيمَ وَأَحْمَدَ الخُلَاصَةَ. وَقُلْتُ لِأَبْنِيَ إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَسْمَاءٍ أُخْرَى غَابَتْ عَنْ ذِهْنِي فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، كُلَّهُم حَثُّونِي بِأَلْفِ وَجْهٍ وَوَجْهٍ عَلَى النَّظَرِ والتَّأَمُّلِ فِي آدَابٍ أُخْرَى كَانَتْ سُوقُ التَّرْجَمَةِ حَافِلَةً بِهَا فِي تِلكُمْ الأَيَّامِ. وَقُلْتُ لَهُ إِنَّي هُنَا اِلْتَقَيْتُ بِأَحَدَبَ نُتَرْدَامْ لِﭬﯖتُور هِﯖو، وَفِي هَذَا المَكَانِ عِشْتُ "الحَرْبَ وَالسِّلْمَ "مَعَ تُلْسْتوي، وَسَمِعْتُ حَدِيثَ "الأُمِّ" لِجُوَرِكِي. وَفِي هَذَا القَصْرِ تَعَلَّمْتُ مِنْ كُلّ هَؤُلَاءِ أَنَّ الأَدَبَ هُوَ حَضَارَةُ الفِكْرِ، وَأَنَّ الفِكْرَ هُوَ رُوحُ الفَلْسَفَةِ، فَبَدَأْتُ أَقْرَأُ سُقْرَاطَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو وَأفلوطين، وَتَذَوَّقَتُ لَذَّةَ الأبيقوريين، وَسَمِعْتُ مِنْ زينونَ، وَتَجَوَّلْتْ فِي"الأُكْرُبول" على جبل أتينا، ومِنْ عَلَاهُ اطَّوَّفَ بِي نَظَرِي فِي آفَاقٍ أُخْرَى رَأَيْتُ منها "فَاوْسَتْ "يَعْقِدُ عَهْدَهُ مَعَ الشَّيْطَانِ، وفَاغنَرْ يَعْزِفُ لَهُمَا لَحْنَ التَّصْدِيقِ بَعْدَ أَنْ حَرَّرَ ﯖُوتْه آخَرَ كَلِمَةٍ مِنْ رائعته.
فِي هَذَا الأُفْقِ رَأَيْتُ "شَيْخَ البَحْرِ" يُصَارِعُ الأَمْوَاجَ العَاتِيَةَ بَعْدَ أَنْ تَرْكُهُ هَمَنْﯖوي يَلْقَى مَصِيرَهُ وَذَهَبَ لِيَدُقَّ الأَجْرَاسَ قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ بُنْدُقِيَّتَهُ وَيُسْدِلَ الظَّلَامَ. فِي هَذَا الأُفْقِ رَأَيْتُ كريل تسيسمن فِي زِنْزَانَتِهِ الَّتِي نَسِيتُ رَقْمَهَا يُحَرِّكُ الضَّمِيرَ العَالَمِيَّ. وَدَارِوينَ يُعِيدُ كِتَابَةَ تَارِيخِ البَشَرِ لِيُوَطِّدَ عَلَاقَةَ الإِنْسَانِ بِالقِرْدِ، "غَفَرَ اللهُ له". وإيرلند توينبي يُذَكِّرُ البَشَرَ بِأنَّ التَّحَدِّيَّ يَصْنَعُ الحَضَارَاتِ. هُنَا عَرَفَتْ قِصَّةَ حَضَارَةِ وَيْلِ ديورانت. وَرِحْلَةَ صَقْر قُرِيْش، وَقُصُورَ الأَمِيرَاتِ وَسَرَادِيبَ الأَفَّاقِين. هُنَا غَاصَتْ قَدَمَاي فِي رِمَالِ الضِّفَافِ الَّتِي أَدْفَأَتْ فِيهَا أَشِعَّةُ الشَّمْسِ طِينَ القَدْرِ الإِلَهِيِ ليَكُونَ "حَيٌّ بِن يَقْظَانٍ" بَعْدَ أَنْ أَعَادَ اِبْنُ طَفِيلِ قصةَ الخَلْقِ مِنْ جَدِيدٍ، وَهِيَ قِصَّةٌ ذَكَّرَتْ بَنِي آَدَمَ بِ فَلْمًا رَأَى القَمَرَ.... وَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ... وَلَمَّا... وَلَمَّا... لِيُكونَ اللهُ. وَكَانَ وَسَيَبْقَى. عِلْمٌ غَزِيرٌ عَمِيقٌ يَتَلَقَّاهُ الإِنْسَانُ مِنْ صَفَاءِ حَلِيبِ غَزَالَةٍ هِيَ رَمْزُ الأُمُومَةِ وَمَواتُهَا. وَمَواتُهَا هُوَ رَمْزُ الفَلْسَفَةِ وَخُلَاصَةُ الكَوْنِ. قُلْتُ لِاِبْنِي: فِي "جَنَانِ الحارثي" سَمِعْتُ هَمْسَ اِبْنِ طَفِيلٍ فِي أُذُنِ اِبْنِ رُشْدٍ ينبهه بَعْدَ أن سَأَلَ الخَلِيفَةُ سُؤَالَهُ المَشْهُورَ: "مَا قُولهُمْ فِي السَّمَاءِ". وَهُوَ السُّؤَّالُ الذي كَانَ الخُطْوَةَ الأَوْلَى فِي إنْهاضِ الغَرْب بَعْدَ مَشْرُوعِ "أﭬِيرُوِّسْ" (اِبْنُ رُشْدٍ) الكَبِيرِ العِمْلَاقِ. فِي هَذَا المَكَانِ تَعَلَّمْتُ أَنَّ صَفاءَ الرُّوحِ وَصِحَّةَ النَّفْسِ لَا يَأْتِيَانِ إِلَّا مِنَ رُفْقَةِ أُنَاسٍ لَيْسَ مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُم الزَّمَانُ، أَوْ يُقَرِّبَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ المَكَانُ، إِنَّمَا هِيَ أَرْوَاحُ جُنُودٍ مُجَنَّدَةٍ تَنْتَقِلُ مِنْ بَرْزَخٍ إِلَى بَرْزَخٍ، إنْ أَرَادَتْ إرادَةُ اللهِ أنْ يَصْنَعَ الإِنْسَانُ الحَضَارَةَ.
لَحَظَاتٌ قَصِيرَةٌ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ تَفْصِلُ بَيْنَ عَزْمِي عَلَى أَنْ أَسِيرَ أَنَا وَابْنِي إِلَى مَوْطِنِ ذِكْرَيَاتِي وَالوُصُولِ إِلَى "جَنَانِ الحارثي". كَانَتْ كَأَنَهَا كُلُّ صِبَايَا وَطُفُولَتِي وَعُنْفُوَانِي. كُلُّ حَيَاتِي تَجَمَّعَتْ فِي قَرِيبٍ مِنْ عِشْرِينَ دَقِيقَةً هِيَ المَسَافَةُ بَيْنَ بَيْتِ الوَالِدِ وَ"جَنَانِ الحارثي". وَفِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ مَرَّ بِخَاطِرِي كُلُّ مَا قُلْتُ. وَاقْتَرَبْتُ مِنْ بَابِ الحارثي، وَبَدَأَ قَلْبِي يَدُقُّ، لِأَنَّ اللَّحَظَاتِ الغَالِيَةَ، لَحْظَاتِ أَنْ تُسَلِّمَ أَعَزَّ مَا تَمْلِكُ إِلَى أَعَزِّ منْ تُحِبُّ، أَنْ تَسَلَّمَ قَصْرَكَ إِلَى وَرِيثِهِ. وَقَصْرِي هُوَ هَذَا الَّذِي بَنَيْتُه فِي جَنانِ الحارثي، وَأَثَاثُهُ وَأَبْدَعُ مُحْتَوَيَاتِه هُمْ أُولَئِكَ العُظَمَاءُ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ وَالَّذِينَ نَسِيتُ ذِكْرَهمْ، مَتَاعِي وَكُلُّ دُنْيَاي وَجُماعُ تِلْكَ السَّاعَاتِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي قَضَيْتُهَا هُنَا، فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الحُزْنِ وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الفَرَحِ، فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ شِعْرِ الحُبِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَدَّ بَني عُذْرَةَ، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّثْرِ الَّذِي كَانَ هُوَ لِبَاسِي الجَدِيدَ فِي الأَعْيَادِ، وكان َأَسْفَارِي فِي العُطَلِ. كُلُّ هَذَا تَرَكْتُهُ هُنَا حَتَّى يَحِينَ الحِينُ لِأُسَلِّمَهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ.. انْتَظِرْ قَلِيلًا يَا بُنَي. وَعَانَقْتُ إِسْمَاعِيلَ وَعَانَقَنِي بِالغَرِيزَةِ، وَنَظَرَتُ إلَيْه وَدَمْعٌ مِنْ العَيْنِ يَنْهَمِلُ. إنها لَحْظَةُ البَهْجَةِ وَسَمُوِّ الرُّوحِ وَقِمَّةِ السَّعَادَةِ. تَتَابَعَتْ خُطُوَاتِي وَخَلْفَي إِسْمَاعِيلُ يَهُزُّ الخُطَى. بَيْنَ بَابِ الحارثي وَوَسَطِه حَوَالَيْ مِائَتَي مِتْرٍ. فِي هَذَا الوَسَطِ كُلّ مِلْكِي: مَقْعَدٌ أَخْضَرُ لَهُ إِخْوَةٌ فِي أَمَاكِنَ أُخْرَى شَاهِدٌ مِنْ شُهُودِ المَسَارِ، وَمِنْهُ وَمِنْ عَلَيْهِ دَخَلْتُ دُنْيَاي تِلْكَ. وَعَزَمْتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا المَقْعَدُ مَكَانَ التَّسْلِيمِ..... جُلْتُ بِنَظَرِي. صِحْتُ أَيْنَ المَقْعَدُ؟ أَيْنَ جَمَالُ هَذِهِ السَّاحَةِ وَمُنَسَّقُ زُهُورِهَا وَأَشْجَارِهَا؟ أَيْنَ المَعْهَدُ المُوسِيقِيُّ الَّذِي طَالَمَا خَفَّفَ مِنْ عَنَاءِ الإِرْهَاقِ بِرَنَّةِ وَتَرٍ كَانَ يَجُودُ بِهَا عَبْدُ الله عِصَامِي أَوْ آلَةُ عَوَاطِف أَوْ عَبْدِ الرَّفِيقِ رحمه الله؟ أَيْنَ فِعْلُ السِّحْرِ الَّذِي كَانَتْ تَحْمِلُهُ الأَنْسامُ مِنْ هَذَا المَكَانِ كُلَّ مَا أَعْيَى صَقيلُ الوَرَقِ العِينَ أَوْ غُمَّ فَهْمُ مَعْنًى؟ أَيْنَ بَصَمَاتُ كِبَارِ مُوسِيقيِّينا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْتُ وَمَنْ لَمْ أَذْكُرْ؟ مَعْهَدُهُمْ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ هُنَا، هُوَ خِرْبَةٌ مُتَهاوِيَّةُ السَّقْفِ مَكْلُومَةُ الجُدْرَانِ مَبْقورَةُ الأَحْشَاءِ.
أَيْنَ هَيْبَةُ هَذَا الرِّوَاقِ الَّذِي تَرَبَّعَ فِي صَدْرِ الحارثي، وَرَدَّدَ فِي زَاهِي أَيَّامِهِ أَنْغَامَ جُوقٍ نُحَاسِي كَانَ يُطْرِبُ أَهْلًا مِنْ مُتَوَاضِعِي الحَالِ مِنْ سُكَّانِ هَذِهِ المَدِينَةِ؟ أَيْنَ قَاعَاتٌ جَمِيلَةٌ كَانَتْ زينَةً لِلمُحَاضَرَاتِ وَالنَّدَوَاتِ مِنْ غَابِرِ العُصُورِ؟ أَيْنَ مَرَابِعُ حَيَوَانَاتٍ وَطُيُورٍ ولطائِفَ كَثِيرًا مَا أَمْتَعَتْ صِغَارَ هَذِهِ المَدِينَةِ الصَّامِتَةِ. جَنَانُ الحارثي اليَوْمَ، بَاقَةٌ مِنْ قِلَّةِ الذَّوْقِ وَبَرَاعَةِ القُبْحِ، آجُرٌّ وإسْمَنْتٌ هُوَ قَيْءٌ تَرَبَّعَ أَيْنَ مَا يَحْلُو لَهُ. وَسَخٌ فِي وَسَخٍ. جَنَانَ الحارثي اليَوْمَ جَسَدٌ مَقَطَّعُ الأَوْصَالِ. بَعْضٌ مِنْ أَوْصَالِهِ صَارَ جُزْءًا مِنْ المَلِكِ العَامِّ، وَبِعَضٌ مِنْ المُلْكِ الخَاصِّ. مَأْسَاةٌ وَخَرَابٌ وَسَرِقَةٌ. مَأْسَاةٌ مَنَعَتْنِي مِنْ تَسْلِيمِ مَا كُنْتُ أَمْلِكُ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ. وَخَرَابٌ لِقُصُورِ ذِكْرَيَاتِ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِي وَعُمْرَانِ النَّاسِ. وَسَرِقَةٌ لِهَذِهِ الذِّكْرَيَاتِ وَلَا حُجَّة لِي وَلِأَمْثَالِي، لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ لَا ُيُلْمَسُ بِاليَدِ، إِنَّمَا هُوَ فِي الخَيَالِ وَالصُّوَرِ، وهوَ مع هَذا الْمَكَانِ كَمَا كَانَ لا كما هوَ الآن.. وَكَمْ هُمْ ضَحَايَا هَذَا الغَدْرِ مِنْ أَبْنَاءِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَمِنْهُمْ الَّذِي أَصْبَحَ وَزِيرًا وَالَّذِي أَصْبَحَ طَبِيبًا وَالَّذِي أَصْبَحَ عَالِمًا؟ وَمِنْهُمْ مَنْ لَوَّحَتْ بِهِ رِيَاحُ الأَيَّامِ للاسترزاق فِي مَا وَرَاءَ البِحَارِ. وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي البَابِ غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ عَلَى عَيْنَيْهِ حُجَبَ الصَّبْرِ وَرَدَّدَ بِلِسَانِهِ حَوْقَلَةَ القُلُوبِ. مَاذَا أَقُولُ لَكَ يَا بُنِّي؟ عَزَمْتُ أَنْ أَنْقُلَ إِلَيْكَ مَا تَسْتَحِقُّ فَحَرَمَتْكَ مِنْهُ يَدُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ. بَلَائي وَبَلَاؤُكَ رَحَى الإِهْمَالِ وَعَدَمُ يَقْظَةِ البَالِ. بَلَائي وَبَلَاؤُكَ أَنَّ الَّذِي يَرْعَى هَذَا الْمَكانَ فِي هَذِهِ الْمَدينَةِ لَمْ يَصِلْ بِهِ بَعْدُ وَعْيُ الضَّمِيرِ لِيَعْرِفَ أَنَّ العُمْرَانَ لَا يَكُونُ بِحَجَرٍ عَلَى حَجَرٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِجُمَاع ذَكَرِيَّاتِ أَبْنَاءِ المَدِينَةِ.
الحَجَرُ تَذُرُّوهُ الرِّيَاحُ، وَعُمْرَانُ الفِكْرِ يَتَطَاوَلُ عَلَى الزَّمَانِ. وَقَاضينَا يَا بُنَي، أَنْ تَرْفَعَ الْعَيْنَ إِلَى السَّمَاءِ، فَالصَّحْرَاءُ تَعَود مُرُوجًا، وَالمَسْلُوبُ قَدْ يَرْجِعُ قُصُورًا وَبُرُوجًا، فَيَعُود إلَيْكَ وإِلَى إِخْوَةٍ لَكَ فِي هَذِهِ المَدِينَةِ، حَقُّ أبيكَ وحُقوقُ آبائِهم. إِنْ الإنسانَ يا بُنَي صَنَعَ الحَضَارَةَ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الذِّكْرَيَاتِ، وَالحَيَوَانُ وَحْدَهُ لا ذاكِرَةَ لَهُ فَلَمْ يَصْنَعْ حَضَارةً. وَمَا ضَاعَ حَقٌّ وَرَاءَهُ كَاتِبٌ.
رسالة مفتوحة إلى السيد عمدة مدينة مراكش: جنان الحارثي في كليته إرث معنوي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.