عمت غيابا ليلى العلوي، كنت في هذه الحياة ولم ألتق بك، كانت بيننا مسافات رخوة، لكنني لم أنعم بشمس ابتسامتك ولا بضوء روحك الوهاجة، لعله الحظ العاثر يا ليلى، لعلها الصُّدف لم تفكر في أن تجمعنا، وكنت أتمنى حقا أن أراك، وأجالسك، وأسمع منك بوح الأنثى، كنت سأعانقك طويلا مزهوة بك كنموذج لمغربية مقاتلة وصامدة وجريئة، وكنت سأرى المرأة التي نجت من أحداث 11 سبتمبر، ورغم ذلك استمرت في الأسفار كأنها روحك توَّاقة إلى اكتشاف أمداء ما وراء الحياة، وكنت سأرى الجميلة التي بأعجوبة أيضا نجت من أحداث باريس الأخيرة، حيث كنت على مقربة من تلك القيامة، فأخطأك الموت كي تعاودي نسج العلاقة مع العالم من جديد، ثم تذهبين إلى "بوركينافاسو"، إلى "واكادوكو" تحديدا، لتجلبي ربورتاجا عن الزواج المبكر بتكليف من منظمة العفو الدولية، فإذا بك تجلبين درسا عن الموت المبكر... ثلاثة وثلاثون عاما فقط يا ليلى، وكل هذه الفرادة في نظرتك، هذه الدهشة في صُوَرك، هذه البلاغة في درسك الإنساني، لماذا قتلوك؟ لماذا تذهبين ضحية الدين؟ أليس الدين الرحمة، أوَ لم تكوني رحمة على كل امرأة التقيت بها وحاولت أن تخففي من ألمها؟ أليس الدين هو الفرح؟ أو لم تكوني فرح هذا العالم؟ لم يرك الرفاق في كل زوايا الكون إلا مبتهجة وفرحة، فلماذا يقتلونك؟ لماذا يضعون حدا للرحمة والفرح؟ ليلى، أكاد أسمع صدى صوتك الشادي من هناك، حيثما أنت في تلك الأبدية التي لم ندرك بعد جغرافيتها، أكاد أراك، تلوِّحين لنا جميعا ونحن نستحضر ذكراك، وفي القلب غصة وألم وحيرة، أكاد ألمس أطراف ثوبك الأزرق الأخير الذي تبدين فيه في "واكادوكو" مثل أميرة الصحراء، أكاد أراك، لأنني سمعت والدتك تقول عنك: لقد كانت ليلى ملاكا، علينا أن نتعلم كيف نعيش بدونها رغم أننا لن نعرف. لقد رحلتِ وتركت العالم على ما هو عليه، دمار، شتات، دم، همجية، ترهيب، وخراب في شتى أشكاله، خراب القيم، خراب الروح، خراب المدن والأعمار، خراب النفوس التواقة إلى معرفة ما الذي يحدث؟ رحلت يا ليلى ولم يتغير شيء أبرياء ستبكيهم الأرض مثلما نبكيك بفارغ الأسى والأسف عليك، وعلى بشرية تمشي نحو هلاكها العظيم. إن كل جرج منه ينفذ النور، هكذا قال المتصوفة، فكم من نور اخترق جسدك الذي مزقته رصاصات غادرة، وإذن، طوبى لك وصلت إلى الهناك ملأى بالنور، متوهجة، تكاد صورك تخرج من كل جرح لتُبهر الأرض. أما أنا فأتيتك بالسواد ذاته ظاهريا وباطنيا، لم أتلفَّع إلا بالحزن العظيم عليك، وعلى كل أبرياء هذا الكوكب، أناس اجتازوا الموت بجنون وقوة وخوف لا يمكن التغلب عليه، فعبَروا من الهنا إلى الهناك، تاركين لهيب السؤال الحارق دائما: لماذا؟ ما الدين إن لم يكن ما قدّمته أنتِ من تسامح وتقبل للآخر ونبذ للعنف وتحريض على قيم الجمال؟ ما الدين إن لم يكن ما خاطبت به الناس من محبات وابتسامات وغفران؟ ما الدين إن لم يكن السلم والسلام ومد يد العون وليس يد الغدر والتقتيل والإرهاب؟ ما الدين إن لم يكن حبا؟ والآن، وقد تركت بصمتك الساطعة من خلال صورك الوهاجة، الآن وقد تحولتِ إلى قطعة في سماء بعيدة، وقد تحولت إلى غيمة أو يمامة، إلى أمنية صغيرة في قلب كل خائف بأن يعم السلام هذه الأرض الحزينة، الآن وقد أصبحت صورة لحب حوّله القتَلة إلى جنازة، إلى قلب "نبيل" الجريح، حبيبك الذي كاد يرمي بنفسه في قبرك المفتوح ليدفن معك، الآن وقد أصبحتِ وعينا الشقي بأنا لسنا سوى الجبناء، أمام هكذا تقتيل. سأُرْهِف السَّمع عميقا إلى رجع صداك وأنت ترشقيننا بضحكاتك الفانية، سيتردد صداك في بيروت ومراكش وباريس وسيتوقف رجع الصدى على مقربة من فندق "سبلونديد"، حيث كان لك موعد مع الحتْف وحيثما كنت في محنتك الأخيرة أقوى القويات أمام جبار اسمه الموت.