هذه الحلقات الرمضانية هي تأملات وقراءة أولية لبعض جوانب حراك الريف، وهي مستوحاة من نبض وزخم الحراك، الذي حظيت بفرصة ملاحظة وتتبع بعض لحظاته، والإصغاء الهادئ إلى إيقاعات هزاته وارتداداتها، ونقل شهادات حية من قلب الريف لشباب شاركوا أو تعاطفوا مع الحراك. صرخة شباب "الني الني" الحراك بالريف من منطلق علم الاجتماع السكاني هو نداء استنجاد لجيل كامل من الشباب المغاربة، الذين يعانون التهميش والإقصاء، إنهم شباب يطلق عليهم جيل "الني الني" (NEET). ni étude, ni emploi, ni formation (Not in Education, Employment or Training). أعمارهم ما بين 15 و24، وهم بدون شغل، بدون تمدرس وبدون تكوين. وحسب الإحصائيات السكانية ل2014 هم يمثلون ما يقارب خمس سكان المغرب. ويؤكد التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لعام 2016 أن نسبة البطالة في صفوف الأشخاص النشيطين، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، من النسب الأكثر ارتفاعا (22.5 بالمائة)، تليها نسبة الأشخاص، الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 سنة (13.5 بالمائة). كما أن 64.8 بالمائة من الأشخاص الموجودين في وضعية بطالة سنة 2016 كانت أعمارهم تتراوح بين 15 و29 سنة. وتؤكد الإحصائيات السكانية لإقليمالحسيمة لعام 2014 أن حوالي 30 بالمائة من سكان إقليمالحسيمة ومدينة الحسيمة تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاما. وسجلت مدينة الحسيمة عام 2016 معدل بطالة بنسبة 21 بالمائة، وهي نسبة ترتفع ب11 نقطة عن المعدل الوطني للبطالة بالمغرب (10.1 بالمائة). ونتيجة تأثر مداخيل العمال المهاجرين بالأزمة الاقتصادية العالمية منذ 2008 تقلصت بشكل كبير المساعدات التي يقدمونها إلى عائلاتهم بالمدينة. ورغم بعض المشاريع التنموية التي استفاد منها بعد زلزال 2004، فقد عرف الإقليم، منذ التقسيم الجهوي الأخير بالتحديد، كسادا تجاريا كبيرا، حيث أغلقت العديد من المتاجر أبوابها، واضطرت عدة مراكب صيد ومئات البحارة إلى مغادرة ميناء الحسيمة نحو موانئ أخرى. كما أن غياب البنيات الإنتاجية أو الاستثمارات المنتجة لفرص الشغل ساهم في هجرة مكثفة للشباب نحو المدن الكبرى، خاصة طنجةوتطوان، مما أدى إلى تفريغ المدينة والكثير من القرى من ساكنتها. وحتى الذين يضطرون إلى البقاء في إقليمالحسيمة بدون عمل يعيشون ظروفا قاسية تصل حد اليأس بسبب الملل والفراغ القاتل، حتى أنهم أطلقوا على الحسيمة "المدينة الشبح"، إذ في فصل الشتاء تكون شبه فارغة وتفقد حركيتها، خصوصا بعد توجه أغلبية الشباب إلى الجامعات. عبارات "إِخْوَا رْحَارْ" (المدينة فارغة)، "إِمُوثْ رْحَارْ" (الوضع راكد) و"يَغْرَا رْحَارْ" (الأثمنة غالية) تحولت إلى متلازمة يتعايش معها سكان المدينة وتجارها بعد أن تحول الركود الاقتصادي إلى وضع مزمن، وأصبحت المدينة من أغلى المدن على المستوى المعيشي بالمغرب. نحن في منتصف شهر أبريل 2018.. الساعة العاشرة صباحا.. لا شيء يوحي بالحياة في الحيين الشعبيين المجاورين "الرومان" و"كوزينا".. الأزقة خالية وهادئة هدوء القبور وكأن لا أحد يسكن هنا. في السبعينيات والثمانينيات كانت الحركة تدب فيهما منذ الصباح الباكر، حيث تتوجه النساء إلى معامل تصبير السمك (صالاديرو)، ويتوجه الرجال إلى الميناء أو إلى العمل في البناء أو "تراباندو" (التهريب المعيشي)، لكن اليوم معظم الشباب هاجروا إلى إسبانيا وبلجيكا وهولندا، ومن تبقى منهم في الحي ينتظرون أي فرصة سانحة للهجرة إلى هولندا، التي تحولت إلى حلم وردي كبير بالنسبة إليهم. العديد من الشباب الذين انقطعوا عن الدراسة لا يجدون عملا، ولديهم شعور بالخواء وعدم الإحساس بالزمن والمكان، وهذا ما يعبرون عنه بمقولة: "نَشِنْ نْوَدَا ذَا" (نحن تائهون وغرباء هنا). يقول "ج. م" متحسرا على ما آلت إليه الأوضاع بالمدينة: "لم يعد لنا مكان في هذه المدينة، لم يعد هذا المكان يتحملنا (أُخِكَسِ أُمْكَنْ) نحن نختنق (نَغُفّثْ)، ليس لي حظ، لقد حاولت مرتين لحريك إلى أوروبا، لكني فشلت، أصبحت أنا وأصدقائي كالخفافيش، نعيش في الليل وننام بالنهار، الملل يقتلنا (إِشَاخْ رَقْنَظْ)، الوضع ممل (إِزْهَمْ ذَا الحَارْ)، والعمر يتقدم، ولا أعرف ماذا ننتظر، أبواب العمل منعدمة، إنها مدينة للموظفين والمتقاعدين، لا شيء يتغير هنا، نحن أحياء أموات (أَخْمِي نَدَا أَخْمِي نَمُوثْ)، نريد الفكاك من هنا (نَازُو أَنْفَكْ أَسَّا)". وبالطبع، الوضع أكثر بؤسا في العالم القروي، وبالخصوص في المناطق الجبلية والمناطق البعيدة عن المراكز الحضرية، حيث تنعدم الشروط الدنيا للعيش اللائق. ويتذمر الشباب كثيرا من هندسة السياسات التنموية بإقليمالحسيمة، ومن غياب ثقافة الإنصات والاستماع إليهم، "نحن معلقون هنا منذ زمن، نعاني هنا قلة العمل وغياب آفاق إقامة مشروع تجاري صغير، ورغم ذلك انظر ماذا يفعل المسؤولون، عوض بناء مصانع ووحدات إنتاج توفر فرص الشغل يقومون في كل مدة ببناء فنادق ضخمة تبقى فارغة طوال السنة تقريبا، وبتبليط الشوارع، ونزع الزليج من الأرصفة والساحات العمومية. انظر كورنيش صاباديا، كل الأكشاك والمقاهي مغلقة باستثناء فترة منتصف يوليوز وشهر غشت، ومع ذلك يريدون إنشاء الجسور المعلقة، والربط بين الشواطئ. إنها قمة السكيزوفرينيا". ثمة أفكار نمطية وتمثلات سائدة وسط العديد من المغاربة، الذين يعتقدون أن سكان الريف "أثرياء" ولا يحتاجون إلى العمل ولا يحبونه لأنهم يعيشون في بحبوحة من العيش بفعل أموال المخدرات والتهريب والتحويلات المالية للمهاجرين. لكن الواقع عكس ذلك تماما، ففئة صغيرة جدا هي التي ينطبق عليها هذا الوصف، أما أغلب الريفيين فيعيشون أوضاعا معيشية مزرية، خصوصا في المناطق القروية النائية أو الجبلية حيث تنعدم شروط العيش ويكابد السكان كثيرا، والعديدون منهم يضطرون في الغالب إلى الهجرة إلى تطوانوطنجة أملا في تحسين عيشهم وإيجاد عمل لائق. يشير "س. ع" وهو في حالة غضب: "الكل ينظر إلينا وكأننا أغنياء أو أباطرة مخدرات، لكن هذا مخالف للحقيقة، يمكنكم أن تذهبوا إلى أعماق الريف، إلى المناطق النائية والجبلية لتشاهدوا بأعينكم البؤس والفقر المدقع يتمشى على رجليه (مِيِزِيرِيَا ثَكَا خِيدَانَسْ) (في اللهجة الريفية "يتمشى على رجليه" صيغة مجازية للتعبير عن المبالغة وعن قوة حضور ظاهرة ما). اذهب إلى شقران، تسافت، بوعرمة، ثزطوطين، إعزوزن... الناس هنا يعيشون في عالم آخر، إنهم خارج التاريخ، سيأتي وقت لن يبقى أحد هنا، الكل سيهاجر بلا رجعة". قبل بداية الحراك، وخلال السنوات الأربع الأخيرة، تصاعدت وتيرة الانتحار شنقا بشكل مخيف وسط الشباب من كلا الجنسين، سواء في المجال الحضري أو القروي، وهذا مؤشر واضح على المعاناة النفسية والهشاشة الاجتماعية، التي يعيشها العديد من الشباب في منطقة الريف بسبب البؤس اليومي، وتزايد نسب البطالة والفقر والاكتئاب. وقد لوحظ في العقد الأخير تزايد الاضطرابات والضغوط النفسية وسطهم بشكل مقلق، خصوصا أمراض الاكتئاب dépression والفصامSchizophrénie ، وبسبب معاناتهم من إحباط وخيبات أمل كبيرة فهم يشعرون بالتعاسة، ويميلون إلى العزلة، ويشتكون من تقلب المزاج والعصبية والتوتر الشديد. لكن بعض الشباب في المدينة يلومون أقرانهم لأنهم "كسالى"، يفضلون الخمول ولا يريدون الكفاح من أجل لقمة العيش. وثمة تمثلات نمطية سائدة لدى العديد من المغاربة تعتبر أن أهل الريف "لا يحبون العمل" و"يحصلون على الأموال بسهولة وبدون أي مجهود عبر التهريب والمخدرات". بعض الشباب يشيرون إلى أنهم يفضلون البطالة على الاشتغال مقابل أجرة زهيدة في اليوم أو الشهر. يقول "م. س"، من حي مورو فييخو، إن "الكثير من الشباب هنا لا يجيدون غير الجلوس في المقاهي واستعمال الهواتف الذكية وكثرة الكلام عن الآخرين طوال اليوم. ليست لهم عقلية العمل بكدح، ولا يحبون "تمارة" و"التكرفيس"، وبعضهم لا يحب أن ينهض في الصباح الباكر للذهاب إلى العمل، وتعجبه "الساهلة". هم يفضلون أن يكونوا مشرفين وباطرونات في العمل أو أن يشتغلوا في المكاتب، أما العمل العضلي فهو غير وارد لديهم، ومعظمهم لا يمكن أن يشتغل في الحرف أو البناء من أجل 70 درهما ولا حتى من أجل 100 درهم في اليوم، انظر إلى الشباب القادمين في كل موسم صيف من بني ملال، تاونات، وزان وتازة للعمل هنا في أنشطة تجارية خفيفة (باعة متجولون، بيع البالونات، الأعشاب، الملابس، الألعاب، الإكسسوارات الخفيفة...)، إنهم يكدون من أجل لقمة العيش، ولا يتذمرون كثيرا". قد يصعب أن تجد شبابا يشتغلون في بعض المهن كالبناء أو الفلاحة، لكن عكس التمثلات السائدة، فالشباب يشتغلون في مختلف الأنشطة: التجارة الصغيرة (المواد الغذائية، بيع السمك والخضار)، الحرف كالنجارة والجبس والصباغة والمقاهي، والصيد البحري، وحتى العديد من التلاميذ والطلبة يضطرون في فصل الصيف إلى الاشتغال في مهن موسمية بالمطاعم والمقاهي وبالشواطئ (بيع الذرة، وإعداد السردين المشوي...) لمساعدة أسرهم أو توفير تكاليف دراستهم. تبقى الإشارة إلى أن قيم العمل بالريف وثيقة الصلة بالطبيعة الجبلية للمنطقة، وظروف الجفاف التي تعرفها، وتواجد جالية كبيرة في المهجر. وقد عرفت المنطقة تحولات جذرية بفعل التهميش والإقصاء، اللذين فرضا على المنطقة، مما أفرز بنية اجتماعية وثقافية واقتصادية شبه ريعية مرتبطة بالثالوث الجهنمي: الهجرة، التهريب والمخدرات. *أستاذ حقوق الإنسان والعلوم السياسية بجامعة محمد الأول بوجدة