يعتبر عبد القادر أجينو مثالا لمن وجد في "الخيار البديل" أفضالا تفوق التوقعات من "الحلم الأساس"، ظافرا بمكانة أكاديمية محترمة ومهام تدريسية مقدّرة عوضا بعيدا عن سيرة ابتغاها في ميدان الاتصالات. شارف هذا المغربي على استكمال ربع قرن من الحياة خارج الوطن الذي ضمّه عقدين ونيفا، لكن أجينو دأب على استحضار المملكة واعتبار شخصه سفيرا لها، غير متردد في افتخار بمغربية ضمن تجربتيه الفرنسية والعُمانية. ميل فيزيائي في مدرسة "السعادة" استهل عبد القادر أجينو تعليمه الابتدائي بالعاصمة الرباط، وهي مؤسسة خاصة في حي أكدال وسط الحاضرة التي شهدت ولادته، ثم انتقل إلى ثانوية "مولاي يوسف" لاستكمال مساره. بهذا المرفق التربوي قضى أجينو سبع سنوات كاملة، في الطورين الإعدادي والثانوي، قبل أن ينجح في الحصول على شهادة الباكالوريا في شعبة العلوم التجريبية، ثم ارتاد جامعة محمد الخامس. تواجد عبد القادر في كلية العلوم لدراسة الفيزياء والكيمياء خلال سنتين، قبل أن يتخصص، مدة مماثلة، في ضبط العلوم الفيزيائية وحدها؛ بتركيز على الفيزياء الجزيئية، متصدرا خريجي دفعة شهادة الإجازة التي ينتمي إليها. مدارك أوسع يقول "ابن الرباط" إن ميله إلى الفيزياء وإقباله على دراسة علومها لم يكن اعتباطيا، ويفسر: "أعددت لذلك منذ المرحلة الثانوية بغية الاشتغال كمفتش اتصالات، لكنني لم أوفق في مباراة الولوج إلى هذه الممارسة بعد الحصول على الإجازة". تمكن أجينو من الالتحاق بالديار الفرنسية، منتصف عقد التسعينيات من الألفية الماضية، متواجدا في معهد "غاليلي" الباريسي على وجه التحديد، وبه أقبل على تحضير دبلوم الدراسات المعمقة في تخصص "الليزر وتطبيقاته". "هذا التحرك جاء بديلا، فقد تفاديت المراهنة بالكامل على مسعاي الوظيفي في الوطن الأم، ولذلك عملت على مراسلة عدد من المؤسسات العليا الأجنبية خلال آخر سنة لي في الدراسة الجامعية بالرباط"، يكشف المغربي نفسه. مسايرة الزمن لاقى عبد القادر بداية صعبة لهجرته إلى فرنسا، مرجعا ذلك إلى عدم قدرته على التأقلم مع إيقاع العيش في باريس بشكل سلس، ويشدد على أنه فكر في التخلي عن استكمال الدراسة قبل أن ينجح في الاعتياد على فضائه الجديد. حاز أجينو دبلوم DEA بتفوق قبل أن يقرر مواصلة رحلة العلم بالانخراط في رسالة دكتوراه أنهاها بحلول 2001، وموازاة مع ذلك أخذ في الاشتغال بالتدريس في معاهد عليا وثانويات، أساسا، من أجل توفير حاجياته وجمع التكوين النظري بخبرة ميدانية. بعد تسميته دكتورا في الفيزياء، حصل المغربي ذاته على تأهيلين للتدريس كأستاذ محاضر في الجامعات الفرنسية، أولهما يهم ميدان البصريات، بينما الآخر حكر على المحتويات التعليمية المتصلة بمجال المواد في علوم الفيزياء. لحظة اختيار "مع المسار الدراسي والتجارب المهنية كان هناك زواج في سن مبكرة، كما رزقت بابنة وأنا طالب، لذلك كان ضروريا أن أحدد مساري بوضوح"، يكشف مراكم سنوات من الاستقرار في فرنسا. بين كل الاحتمالات والمقترحات المتوفرة أمام أجينو؛ اختار المغربي إكمال المشوار في التدريس..كما يعلن أنه ابتغى الخروج من البلد الأوروبي مخافة وضع صغيرته في وضع مفرز لتزعزع ثقافي. ويزيد المهاجر ذاته بخصوص هذه الفترة: "قمت بمجموعة من المراسلات بحثا عن اشتغال جديد، وكان أول رد من المؤسسة الفرنسية في مسقط، سنة 2003، فلم أتردد في الانتقال إلى عُمان". في رحاب السلطنة يعتبر عبد القادر أجينو أن الاندماج في سلطنة عمان، كما تعلم من تجربته الفرنسية خلال انطلاقتها، تحقق انطلاقا من ذاته المستعدة مسبقا للتأقلم مع مناخ العيش في هذا الفضاء الخليجي. المنتمي إلى صف "مغاربة العالم" يؤكد أن السلطنة شكلت مفاجأة سارة له ولأسرته، حيث تم اكتشاف طيبوبة الشعب العماني ومبادلته الاحترام بنظيره، وما تزخر به مسقط من ارتفاع في مستوى الأخلاق سكانيا. "تم أخذ وقت بسيط للتعرف على ما يجري، ثم انفتحنا على الناس بعدما وعينا بتشابه عادات وتقاليد العُمانيين مع ما ألفناه في المغرب"، يسترسل مستجمع 15 سنة من العيش في سلطنة عمان. التزامات تدريس التحق الدكتور أجينو بالثانوية الفرنسية في مسقط بمهام تدريس متعددة، ممتدة إلى الفيزياء والكيمياء والرياضيات والتكنولوجيا، إضافة إلى تدريب فريق كرة القدم والإشراف على الموقع الإلكتروني للمؤسسة، وكذا التنسيق بين المرفق والإدارة الفرنسية. استثمر عبد القادر استعداده للاستقرار أطول مدة ممكنة في عُمان ليساير تطورات المؤسسة التي يعمل فيها بمسقط، وهي الحاملة سابقا لاسم "المدرسة الفرنسية" قبل تحولها إلى ثانوية، مساهما في ما تم لتحسين البناية وتجويد ظروف التربية والتكوين. يعمل الإطار المغربي، حاليا، أستاذا للفيزياء والكيمياء في الثانوية الفرنسية المتواجدة بعاصمة سلطنة عُمان، كما يقبل على حصص رياضيات خاصة بمستوى واحد، ويشرف أيضا على مختبرها العلمي وتحقيقه للأهداف التربوية المرسومة له. حاضر ومستقبل يعبر أجينو عن رضاه وهو يعيد تأمل مسار حياته إلى الحين، ويشدد على أن هذا التقييم يعود إلى تواجده في موقع يجمع التعليم والتعلّم في آن واحد، ما يمكنه من البقاء متصلا بالاستفادة أكثر من الإفادة. "صادفت صعوبات لم أقارنها أبدا بالحزن، بل حاولت مجابهة كل ما يعترضني بتحدّ؛ كذلك الأمر كان في مقاربة المسؤوليات المنوطة بي"، يردف الرباطي المستجمع تكوينا مغربيا فرنسيا. يواصل عبد القادر النظر إلى المستقبل بعين المتشبث بتحقيق مزيد من التطور، عبر البقاء منفتحا على التعلّم من سير الحياة، ثم الإقدام على مزيد من التقدم في وضعه المهني التدريسي. ربح متبادل عقب 23 سنة من التواجد خارج الوطن الأم، يرى أجينو أن على المغاربة الراغبين في الهجرة أن يعتبروها فرصة لا هدفا، وأن يختاروها عن قناعة كي يغتنموا ما تحمله بكل إبداع. وينصح المغربي ذاته مغتربي الغد بالحصول على مؤهلات تتيح لهم فرض أنفسهم في مجتمعاتهم الجديدة، وأن ينخرطوا في علاقات ربح متبادل تجلب إليهم احترام الأغيار، مع تنمية الكفاءة والالتزام والجدية. "كسب الناس هو استثمار على المدى البعيد يضمن الأرباح للجميع، مثلما النظر إلى الجانب الإيجابي يعيد خلق الحوافز في هذه الحياة..واستحضار الوطن في القلوب والأذهان ضروري كيفما كان المكتسب"، يختم عبد القادر أجينو.