تقدم جريدة هسبريس لقرائها الأوفياء، داخل المغرب وخارجه، كتاب "عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر" لمؤلفه الدكتور علي الإدريسي، في حلقات، خلال شهر رمضان الكريم. هذا الكتاب، الذي تنشره هسبريس بترخيص من مؤلفه الدكتور علي الإدريسي منجما على حلقات، لقي ترحابا واسعا من قبل القراء المغاربة ولا يزال، إلى درجة أن الطبعتين الأولى والثانية نفدتا من المكتبات والأكشاك؛ بالنظر إلى شجاعة المؤلف في عرض الأحداث، وجرأته في تحليل الوقائع بنزاهة وموضوعية. الكتاب من أوله إلى آخره اعتمد الوثائق النادرة في التأريخ للزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بأفق وطني يتسع لجميع المواطنين المغاربة، على عكس الطريقة التي "اعتاد عليها أولئك الذين حاولوا احتكار الوطنية وتأميم مستقبل المغرب، والتحكم في مصير أبنائه قرونا أخرى"، يضيف على الإدريسي في تقديم الكتاب. الحلقة الخامسة ألقاب محمد بن عبد الكريم الخطابي بعد عرض المراحل التي نعتقد بأنها أسهمت في تكوين شخصية محمد بن عبد الكريم الوطنية والقيادية، والتي قدمت لنا جانبا من جوانب سر الشعب المغربي المتجلي في أحد أبنائه الذي لبى نداء الوطن وهو في محنة، واستجاب لنداء المستقبل. ولم تقدر يقظة رقباء الدول الاستعمارية اكتشاف سره وهو يتبلور ويتحقق في الوجود. وقد أضفى الناس ألقابا كثيرة عليه تعبيرا عن مشاعرهم ومواقفهم نحو الرجل. خصص سكان منطقة الريف، الذين تواصلت ثقافتهم مع ثقافة الآباء والأجداد، تقديرهم غير المتناهي لمحمد بن عبد الكريم الخطابي باختصاصه بلقب «مولاي مُحَنْدْ» (محمد)، دون غيره من الناس خارج دائرة تشريفات سلاطين الدولة العلوية وأمرائها. نعتقد أن إطلاق ذلك اللقب على الخطابي يعني تقدير صاحبه، وتخليدا للقيم التي ناضل من أجلها، وجاهد في سبيلها، وصانها من الفساد، ومقاومة لتغييب أعظم لحظات تاريخ المغرب المعاصر في دوامة العمل على نشر ثقافة النسيان. ما هو معروف أن الفقيه، والصحافي، والقاضي، محمد بن عبد الكريم الخطابي كان مواطنا عاديا، محظوظا نسبيا، كونه ينتسب إلى عائلة لها نفوذها في محيطها، ولها عراقة في العلم، وتتمتع بشيء من الثراء ورغد العيش؛ مقارنة مع باقي سكان الريف، بصفة خاصة؛ فقد كان والده قاضيا على أيث ورياغل بظهير من السلطان مولاي الحسن الأول، ومن الأعيان الذين تعتمد عليهم السلطة المركزية في فاس، وكانت إسبانيا تخطب وده. وحين شاءت الأقدار أن يتولى محمد قيادة حركة مقاومة الإسبان وتحرير المناطق التي احتلوها قبل معاهدة الحماية أو بعدها، وما حازه من انتصار مدوي، ابتداء من معركة مثلث الحرية: أنوال وادهار أوبَرَان وإغريبن سنة 1921، وإقامة جمهورية الريف سنة 1923، ومرورا بمعركة الشاون سنة 1924، ووصولا إلى معركة «البيبان» ضد الفرنسيين سنة 1925؛ ثم معارك البناء والتشييد، وغير ذلك من المنجزات في المجال الاجتماعي كفتح المدارس والحث على نشر العلم وتنظيم مجال الإنتاج الاقتصادي وفقا لمقتضيات الحرب، وفي مجال البنية التحتية كشق الطرقات ونشر المواصلات الهاتفية، وفي مجال المؤسسات السياسية كتأسيس الجمعية الوطنية وإنشاء المحكمة العليا. وبالجملة كانت هنالك رؤية وقرار يفيدان أن المغاربة قادرون على تأسيس دولة عصرية، بعيدا عن أي وصاية. وتقديرا لذلك واعتبارا له تقاطرت على الفقيه القاضي ألقاب وصفات مثل «الأمير» أو «الأمير الخطابي» أو «الأمير عبد الكريم»، وهناك من يكتفي بلقب «عبد الكريم» الذي هو الاسم الحقيقي لوالده. ولقب «عبد الكريم» هو اللقب الأشهر له في أوروبا وأمريكا، وكذا عند بعض البلديات المغربية التي أطلقت اسمه على بعض الشوارع والمؤسسات المدرسية. أما اللقب الأكثر تداولا عند الناطقين باللسان الريفي فهو «مولاي مُحَنْدْ» أو «أمِّيْس نْسِّي عْبَرْكِريمْ»، ويترجم عند الناطقين باللسان العربي الدارجي في المغرب ب «ابن عبد الكريم». وتُفضل قلة قليلة من المغاربة مناداته ب «زعيم الريف» أو «الزعيم الريفي»... إلخ. فما قصة هذه الألقاب والصفات؟ لقب الأمير ونبدأ بالسؤال، هل هو لقب فرضته الظروف وانتصار أنوال، أم هو لقب له مرامي سياسية؟ عندما نتقصى لسان العرب، نجد أن عبارة «الأمير» تعني صاحب الأمر، أو الآمر، أو القائد، كقولنا: أمير الأعمى؛ أي قائده، أو أمير قوم؛ أي قائدهم. وعبارة الأمير لها علاقة مع عبارة أولي الأمر؛ أي الرؤساء وأهل العلم. وفي تاريخ الثقافة العربية والإسلامية نجد أن مصطلح «الأمير» يلتصق التصاقا قويا بالمعنى اللغوي؛ فقريش كانوا «يدعون النبي (صلى الله عليه وسلم) أمير مكة وأمير الحجاز.» ثم أضحى مصطلح الأمير في الإسلام يطلق على كل من يتولى شأنا من شؤون المسلمين مدنيا كان أو عسكريا. ولا يزال حكام المناطق في العربية السعودية يحملون صفة المنطقة. كأن يقال أمير مكة، أو جدة. والملك الحالي بقي مدة طويلة يحمل لقب أمير الرياض، أي حاكم الرياض. ولا علاقة بالألقاب التشريفية التي يحملها أمراء العائلة الملكية البريطانية. ومن الجدير ذكره أن المعجم الأوروبي اقتبس مصطلح «الأميرال» من لقب «أمير البحر» الذي ساد الدولة في الإسلام، بمعنى حاكم البحر. وتوجد أحاديث نبوية تشير إلى ضرورة تأمير أي جماعة «مهما صغرت» أميرا يتولى تنظيم شأنها، أو قيادتها نحو غايتها المشتركة. وأعلى درجات الإمارة في التراث الإسلامي هي درجة «أمير المؤمنين»، أي القائد العام أو الحاكم العام. ولم يثبت أبدا أن عبد الكريم الخطابي تلقب بهذه الدرجة من الإمارة، لأنها درجة خاصة بسلطان كل المغرب والمغاربة. وليس لعبارة «الأمير»، إذن، أي علاقة مع عبارة «Prince» الأوروبية. وهنا يجب أن نذكّر أن بعض سلاطين المغرب الذين لم يستقلوا استقلالا كاملا عن الخلافة في المشرق امتنعوا عن حمل لقب «أمير المؤمنين» واكتفوا بلقب «أمير المسلمين»، كما هو شأن أمراء الدولة المرابطية؛ حيث رفض يوسف بن تاشفين قبول صفة «أمير المؤمنين» بحجة أن تلك الصفة خاصة «بخلفاء بني العباس لكونهم من تلك السلالة الكريمة». كما تجدر الإشارة إلى أن صفة« الأمير»، وفقا للثقافة السياسية الأوروبية، لم تترسخ في التشريفات المغربية إلا في عهد محمد الخامس. أما صفة التبجيل التي كانت تطلق على أبناء السلاطين فكانت تترجمها عبارة «مولاي». وهكذا يتكشف لنا مصدر عبارة «الأمير» لفظا ومصطلحا في ثقافتنا الإسلامية. ومن ثمة فإن مدلول تلك الصفة التي حملها عبد الكريم بصفته أمير الجهاد وأمير منطقة الريف، أي حاكمها، في ظرف سياسي تاريخي أصيبت فيه السلطة المركزية بالشلل من جراء معاهدة الاحتلال الأجنبي. ولم نعثر على أي وثيقة وجهت إلى المغاربة، أو إلى الشعوب المجاورة والعربية، تحمل أي إشارة إلى أنه «أمير». وعلى العكس من ذلك عندما كان يكاتب الأوروبيين أو يخاطبهم، كان يذكرهم بأنه «أمير» أي حاكم. ولم يكن يفوت الفرصة لكي يشير إلى أن مرجعية «الأمير» هي الإسلام، وقد احترم الأوروبيون ذلك، على الأقل في كتاباتهم، حين أبقوا على مدلولها فكتبوها « Emir» وليس « Prince». ولذلك فهي صفة لا علاقة لها بطلب «السلطنة»، كما حاول البعض تصور الأمر، متجاهلا الموروث الثقافي والسياق التاريخي للأحداث. لقب عبد الكريم ويعد لقب « عبد الكريم » الأوسع انتشارا بين الناس، محليا ودوليا، لشخص محمد بن عبد الكريم الخطابي، وهو في الأصل كما نعلم اسما شخصيا لوالده. ووفقا لإفادة أنجاله: عبد الكريم وعبد المنعم، وسعيد ومريم، رحمهم الله، وعائشة، أطال الله عمرها، فإن والدهم كان يستحسن المناداة عليه بهذه الصفة استحضارا وتقديرا لدور والده في تكوينه السياسي وتوجيهه الوطني، ووعيه بمشكلات عصره. ومن جهة أخرى، أصبح لقب «عبد الكريم» شائعا في العالم وفي كتابات المؤرخين والعلماء والروائيين للدلالة على قائد حركة التحرر المسلحة ضد إسبانيا وفرنسا في العشرينايت من القرن الماضي. والأمر نفسه في المغرب؛ فجميع الشوارع والمؤسسات التي تشرفت بحمل اسم الخطابي تكتفي بلقب «عبد الكريم الخطابي». لقب مولاي مُحَنْدْ لابد من التنويه بأن عبارة «محند» تطلق على «محمد» في اللسان الريفي. أما صفة «مولاي» فمعروف ومشهور عند المغاربة أنها تطلق على الأخيار من الناس كأولياء الله الصالحين، وسياسيا كانت تطلق على أبناء السلاطين منذ العهد السعدي في القرن السادس عشر، كما كانت تطلق على السلاطين أنفسهم، كقولنا «السلطان مولاي عبد الرحمن أو السلطان مولاي يوسف». وفي عهد الدولة الوطنية الحديثة حذفت عبارة «مولاي» عن السلطان، كما حذفت صفة «السلطان» نفسها، وحلت محلها صفة «جلالة الملك»، واحتُفِظ بصفة «مولاي» لتكون وقفا على المنحدرين من السلالة الملكية. وهناك ظهير ( مرسوم) يُرسّم ذلك. أما في حالة الخطابي فإن صفة «مولاي» التي خص بها في مرحلة الجهاد، والتي لا تزال الأجيال المتعاقبة تحبذ التشبث بإطلاقها عليه، لم يخترها هو أبدا، وإنما جاءت عفوية وتلقائية على لسان مواطني منطقة الريف، تقديرا وتعظيما له كتقديرهم وتعظيمهم لأولياء الله الصالحين، ويبقى التمسك بتداولها لدى الأجيال المتلاحقة كتمسك المغاربة، في كل العصور، بالقول: «مولاي بوعزة» أو "مولاي عبد السلام" مثلا، حين يذكر الولي الصالح أبي يعزى الينور المشهور بمولاي بوعزة، أو عبد السلام بن مشيش. وذلك كرد مباشر على وصف «الدكتاتور» الذي أطلقته الكتابات الاستعمارية الرسمية، وشبه الرسمية في حق الخطابي، وكرد على بعض المنشورات والرسائل المخزنية، التي وصفته، آنذاك، بالفتان وموقظ «نار الثورة والفساد». في الوقت الذي تعتقد فيه الأجيال المغربية المتلاحقة بأن ما قام به الخطابي كان حربا تحريرية للوطن من النير الاستعماري، وإنجازا جعل المغرب أشهر من نار على علم في كل أصقاع الدنيا، مسترجعا دوره في التاريخ، بعد أن ظل نسيا منسيا قرونا طويلة، وكجواب أيضا لأولئك الذين حاربوا عبد الكريم لأسباب سنعرض لأهم أسبابها في فصل لاحق. لقب ابن عبد الكريم نعتقد أن هذه الصفة تداولتها الألسن ترجمة للصفة التي كان يتحدث بها سكان الريف عن الخطابي، أحيانا، تحت عنوان «أمّيسْ نْسِّي عْبرْكْرِيمْ»، أي ابن السّي عبد الكريم. وفي مرحلة لاحقة كان الغرض الأساس من استعمال هذه الصفة هو التمييز بينه وبين والده الذي كان دوره دورا مركزيا في دحر بوحمارة في معركة السواني؛ هذا الدور الذي لم يحظ بعد بنفض الغبار عليه وتقديره تاريخيا وعلميا، وفي الإعداد لمقاومة الإسبان، التي أخذ مشعلها ولده محمد بعد أن وافته المنية وهو على خط النار في "تفرسيت" خلال شهر غشت من سنة 1920. صفة «الريفي» أو«الزعيم الريفي» وأخيرا، وليس آخرا، لا يخفى على أحد أن إطلاق صفة "الريفي" على الخطابي قد يكون دافعه الشعوري واللاشعوري في الوقت نفسه النعرة الجهوية المحتكرة لصفة الوطنية والحق في السلطة، وقد يكون القصد من إطلاق تلك الصفة الإقلال من شأن زعامته وقيادته الوطنية لمقاومة الاستعمار، أي حصرها في منطقة معينة فقط، لأسباب لا تغيب عن العارفين بالثقافة التي يطلق عليها "سياسية مغربية"، التي تحاول وتسعى «جاهدة» إلى نزع الصفة الوطنية عن الخطابي وعن حركته التحريرية، وإدراجه ضمن الزعماء القبليين، وهو ما يرسخه بعض «الزعماء» السياسيين الذين يزورون منطقة الريف، من حين لآخر، من أجل استدراج ساكنتها للتصويت على مرشحيها في الانتخابات، وذلك بوضع صورة الخطابي خلفهم في المنصة أمام الحاضرين، وهم لا يفعلون ذلك عند زيارتهم لمدن ومناطق المغرب الأخرى. ومعنى ذلك أن عبد الكريم ليس إلا مجرد شيخ قبيلة لم يفهم رسالة التمدن الحضاري التي جاءت بها فرنسا وإسبانيا. هذه محاولة لفهم قصة ألقاب وصفات الخطابي وأبعادها. ومن كان يمتلك إضافات تفيد التاريخ أو انتقادات علمية تصحح بعض الأخطاء، فإننا نرجو منه كامل الرجاء، أن يتفضل بها كتابة، من أجل خدمة الحقيقة التاريخية والعلم. وفي الأخير يجب التذكير أن طابع أو خاتم الخطابي اكتفى بالعبارة التالية « محمد بن عبد الكريم الخطابي كان له الله».