كيف يغدو المثقف المغربي ضحية لسوء الفهم والمغالطات؟ وكيف يمكنه أن يتواصل مع الآخر كمجتمع وثقافة وكقراء مفترضين أيضا؟ وكيف يعرف المثقف بدربته وخبرته الطويلة أن الكتابة ليست معجزة، بل هي تشكيل و"خلق"؟ في هذا الحوار، نكتشف الشاعر والناقد المغربي عبد الغني فوزي بصوت التعدد وبصوت السؤال الذي يطرح ويفكك بنية الوضع الثقافي والأدبي وتجلياته بين مؤسسات معطوبة في التدريس والتصور...وبين مثقفين يلعبون في الهامش، لا دور لهم غير دور الهامش ويبحثون عن أنواع شتى من الترقي... ويخلص الكاتب إلى أننا "لا نولد كتابا؛ بل تتشكل الأشياء من الانشغال الدؤوب والاهتمام الذي يغدو جديا وهادفا"، وأن تكتب الشعر الآن، لا بد أن تجد لك مكانا ضمن الصفحة البيضاء "الغاصة بالأصوات" و"السلالات العابرة"... تابعونا على صفحات هسبريس الإلكترونية.. ماذا يعني لك تكريم المبدع والكاتب المغربي في غياب نقد رصين وفي ظل مجتمع لا يقرأ.. كيف تنظر إلى هذه المعادلة التي تحمل بين طياتها الكثير من التناقض؟ في واقع الأمر، حين نطرح هذا السؤال ضمن سياقه الراهن، يبدو أن المجتمع المدني الثقافي لا يقوم بدوره الحقيقي في إثارة الأسئلة الحقيقية للثقافة والأدب. وبالتالي، لا يراكم شيئا من أجل التداول الثقافي داخل المجتمع والحياة. في هذا الصدد، فأغلب التكريمات في غير محلها؛ لأنها محكومة بالإخوانيات وشبكة العلاقات التي لا شبكة لها ما عدا المقايضات التي حولت المشهد الثقافي إلى مشاهد. إن التكريمات بهذا التمظهر كرست لبعض الأفعال المعطوبة أصلا الساعية إلى تنظيم مهرجانات على غرار "مواسم" ترفع من شأن اللغط. أما النقد في المغرب وعربيا، فإنه متأثر بالوضع الثقافي والأدبي بين مؤسسات معطوبة في التدريس والتصور (المدرسة، الجامعة..) والنقاد أنفسهم حيث غياب الأفق المعرفي . والتالي، فالتكريم لم يؤسس لفعل ثقافي جاد، والنقد على مشهديته لم يسهم بقوة مؤثرة في مجريات التنظيمات الثقافية. حدود التماس والتفاعل بالعشيرة والقبيلة الفيسبوكية.. وحضورك على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي.. كيف تقيم وتنظر إلى هذا الحضور؟ أظن أن مواقع التواصل الاجتماعي راكمت إيجابيات وسلبيات في آن؛ لكن لا يمكن التنكر لفعالية هذه النافذة الإيصالية والتواصلية من خلال الاطلاع على أحوال الأفراد والمجتمع . في هذا الصدد، أشارك من حين إلى آخر بإشارات وكلمات ثقافية، بغية تقديم رسائل في اتجاهات عديدة. كما أن هذه النافذة تساعد أيضا في الإخبار وتبادل الأفكار في حياة الأدب والثقافة. بالرغم من تعدد اهتماماتك (التدريس/ النقد/ الشعر.. الكتابات الحرة الفلسفية) هناك جوانب مهمة جديرة بالمتابعة للقارئ المغربي عن حقولك الثقافية وعن طقوس القراءة والكتابة الابداعية.. يغلب ظني، أننا نأتي إلى الكتابة من بيئات وحيوات ما ظهر منها وما بطن. وبالتالي، لا بد أن يكون المبدع على انشغال واشتغال، انشغال البال والحواس بشيء ما (ليس على ما يرام إنسانيا). وهو ما يحفز على البحث عن أداة تأمل ونظر. هنا تنطرح الكتابة كمتكأ حياة ووجود، فتنشأ الرفقة وتتمدد إلى حد اندغام الكاتب في هذه المدعوة "كتابة". الشيء الذي يصعب معه القبض على أجوبة يقينية حول ماهيتها وكيفية تشكلها كلحمة وخلق، بالمعنى الإبداعي للكلمة؛ لكن هذا لا يمنع من وضع بعض التفصيلات لفك "العقدة"، وبسط الخيوط ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. الحديث عن العملية الإبداعية حديث متنوع سياقيا؛ نظرا لحضور أطراف عدة أثناء وبعد الكتابة، منها المبدع الذي قد تقوده الصدفة إلى كتابة شيء ما، لكن سرعان ما يتوغل، ويتحول الهزل إلى جد. يحصل هذا، في تقديري، بالقراءة المتعددة والمتنوعة. وغير خاف هنا أننا لا نولد كتابا؛ بل تتشكل الأشياء من الانشغال الدؤوب والاهتمام الذي يغدو جديا وهادفا. والقراءة بدورها لا تتم في بيت مغلق النوافذ، أي في منأى عن تفاعلات وتحولات الحياة. وهو ما يقتضي تفاعلا مع ما يدور حولنا. وهنا يسعى الكاتب إلى مجابهة الاختلالات والإشكالات، فيبدو لاهثا في عملة الإبداعي كبطل تراجيدي يخرج عن الأنساق، ساعيا إلى رد العالم إلى صوابه الإنساني دون إفحام إيديولوجي أو آنيات دائرية. فتمتد تلك الحركات النفسية والعقلية إلى النوع الذي يكتب ضمنه المبدع كمؤسسة رمزية لها اشتراطاتها أيضا، فتكون المعركة متعددة الأوجه والرهانات مع اللغة والمتخيل أساسا، لخلق إقامة خاصة في مسيرة الإبداع المتعددة الأصوات والأسلاف. فأن تكتب الشعر الآن، لا بد أن تجد لك مكانا ضمن الصفحة البيضاء الغاصة بالأصوات والسلالات العابرة، وإلا ضاع صوتك في الاجترار والمراوحة. الشيء الذي يقتضي تواصلا متعددا، تواصل الكاتب ومكتوبه، تواصله بينه وبين نفسه (ماذا يريد؟ وكيف؟)، تواصله مع الآخر كمجتمع وثقافة وكقراء مفترضين أيضا. وهو ما يثبت أن المبدع وكتابته ليسا معجزة، بل تشكيلا و"خلقا". ما هو جديد إصداراتك؟ يبدو أني أتأمل واقع المشهد الثقافي الذي يقتل الإصدارات عوض التعريف بها وتقديمها. طبعا، أتأمل وأواصل الكتابة في انتظار إنجاز بعض الإصدارات. كيف تؤطر الكتابة الإبداعية وطقوسها الابداعية انطلاقا من تجربتك الحياتية والابداعية؟ طبعا، للكتابة الإبداعية طقوسها المتعددة بتعدد الصيغ الجمالية الوليدة مختبرات خاصة. ويغلب ظني أن هذه الطقوس تمثل لذاك التماس الحارق بين المبدع وما يكتب، وهي علاقة مجسدة للصلة الحميمة بالكتابة، بل المقدمة لتصور ما للكتابة بكيفية ما.. في هذا الصدد، أميل إلى الطقوس التي لا تؤسطر الكتابة وتجعل منها لحمة خارقة لا يمسها إلا أولئك دون السواد الأعظم. أجدني هنا قرب الموقد، معتبرا الكتابة مجهودا وعراكا مع مستوياتها، قصد البحث عن الحلة الملائمة للحالة والموقف. وبالتالي، فطقوسي ليست بخورا ولا أحجية؛ بل مؤثثات تليق بامتداد القلق، منها اختيار اللحظة ضمن مقام على نظر يتصف بالإصغاء للتجاذبات الداخلية. كأني آتي إلى الكتابة على وضوء ما، وعلى استعداد نفسي وفكري يسعى إلى أن يتصادى مع المرحلة وتحولاتها المتسارعة ضمن غمرة من "التأويل" بواسطة التشكيل الإبداعي. هنا، تكون الكتابة كفتحة لترقب العالم من نقطة ما، إنها نقطة مضغوطة على قدر كبير من التشابك بين الذات والآخر، في انفتاح على الآتي، هذه اللحظة المحتشدة، يمكن أن تتحقق في أي مكان وزمان؛ ولكن كاحتباس في الزمن والسير الإنساني. وأحب في هذا التحقق أن تفرغ يدي من العالم، أي بعيدا عن الوظيفة وقوالبها، وبعيدا عن لغو الناس، بل بعيدا عن كل ما يمت إلى الكتب بصلة. إنه نوع من العناد المحتشد والقلق. والكتابة جماع ذلك، وبها نظرا.. هل صرنا، بالفعل، نتحدث عن نهاية عهد المثقف و"موت المثقف" الذي ينأى بنفسه عن خوض الصراعات السياسية والمجتمعية ويخصص معظم وقته للمشاركات في التظاهرات الثقافية والفنية؟ كلما سعيت إلى إثارة ظاهرة ما لصيقة بالمثقف ومساحاته المنكمشة، أبحث لها عن سند أو امتدادات في بحوث ميدانية أو مؤشرات، وإذا اقتضى الأمر مسامرة التجارب الإبداعية والثقافية وهي تحكي خلف تراكم الإحباط بشكل ضجر. وأثير هنا الإشكال الثقافي في المجتمع المغربي خاصة والعالم العربي عامة، إشكال متعدد الوجوه إلى حد يصل إلى تعقيد الفعل على صورة ما، داخل المجتمع والحياة، أقول وأنا أتحدث هنا عن صورة الثقافي الآن وهنا، يمكن التوقف عن الشكل الثقافي الذي يمرر عبر مؤسسات وأنساق؛ وهو ما يدفع في المقابل إلى إثارة الأسئلة الآتية: ما هي صورة هذا الثقافي المقدم؟ لماذا تظل المسافة قائمة كهوات للردم دائما بين الأشكال التعبيرية من مسرح وسينما وأغنية؟ وبين المؤسسات الفاعلة في الشأن الثقافي من وزارة وحزب وجمعية؟ هل هناك حد أدنى كأرضية مشتركة، للعمل قصد تقديم خدمات ملموسة للكتاب، للقراءة، لتعميم العرض الثقافي في جميع شمول الوطن دون مركز ولا هامش. هذه الأسئلة وأخرى لا أزعم في هذه الوقفة أني سأحيط بها دفعة واحدة؛ ولكن أمرر حولها من حين إلى آخر ورقة ما، تثير مفصلا معينا، ضمن هذا الإشكال العريض والمعقد التناول؛ نظرا للتداخل وكثرة الإكراهات البنيوية التي تجعل الثقافي يراوح مكانه على الرغم من النقد وتشخيص الأعطاب. وهذا يدل أن ما يثار في الأعمدة الثقافية ليس معارف سريعة الاختفاء والموت شبيهة بالتقييمات السياسية التي تلازم الحالات والمواقف الآنية والمتقلبة تبعا لرياح المواسم. في هذا السياق، كان عمود "بضمير المتكلم " للروائي والباحث المغربي محمد الدغمومي ضمن أحد المنابر الصحافية، منارة لتشخيص الكثير من الأعطاب الملازمة لظاهرة الثقافي كسيرورة لصيقة بتفاعلات وتحولات، لصيقة بالمثقف نفسه. وحين جمعها الكاتب في مؤلف ضمن سلسلة "شراع" المأسوف على موتها، لأنها رفعت شعارا جميلا "من أجل مجتمع مغربي قارئ"، الكتاب جاء تحت عنوان "أوهام المثقفين": أوهام عديدة، رصدها الكاتب ضمن تسعينات القرن السالف، وما زالت قائمة ولها راهنيتها، نظرا لمكانة هذا الثقافي كمكون ساقط من التدبير بأنواعه المختلفة. يقول محمد الدغمومي في نفس الكتاب: "... أما "المخلوضون" الذين تجدهم في كل مكان، لا يبحثون عن شيء سوى الشهرة وتلميع الذات، ولا يملكون ما يخصصهم في العلم ولا في الفن، ولا في الصحافة، ولا في التربية والسياسة والقانون والإدارة، ويلعبون في الهامش، لا دور لهم غير دور الهامش". هل يمكن أن توضح للقارئ فكرة صورة الثقافي وعن الشكل الثقافي الذي يمرر عبر مؤسسات وأنساق؟ وما هي صورة هذا الثقافي المقدم؟ وعن مثقفين "يلعبون في الهامش، لا دور لهم غير دور الهامش" على حد تعبيرك؟ المثقف بهذه الصفة، وصفات أخرى مبثوثة في هذا الكتاب كالنفعية الفجة ولعبة المصالح ودخول المؤسسات دون تحرج أو تعرق... كلها صفات تجعل من المثقف إنسان يبحث بدوره عن الترقي الاجتماعي عبر وسائل تتحول إلى أدراج وقنوات للعبور. كثيرة هي الكتابات التي تنبني على تشخيص أو ملاحظات ميدانية؛ وهي بذلك تثير بلا هوادة الجانب المظلم من السلوك والتدبير الثقافي. الشيء الذي يولد حروبا بين الفاعلين ونماذج من المثقفين. وفي المقابل تتفاقم الحالات والوضعيات من الأمية التي تغدو أميات، من الجهل الذي يغدو مركبا من الأسس التقليدية التي تعمل على أكثر من صعيد وبآليات قبلية؛ هذا فضلا عن جدارات المؤسسات السياسية التي تسعى إلى ترك الثقافي للثقافي؛ وبالتالي إبعاد المثقفين عن معركة الرأي، كأن نتاجهم مجرد شغب يربك ويقوض البناءات المحشوة بالدوغمائيات والخلفيات المفحمة. المثقف، في جميع مناحي العطاء الفكري والإبداعي، كان ضحية سوء فهم ومغالطات؛ بل وعدم إصغاء له أصلا. ويغلب ظني، هنا، أن سند المبدع الآن، والحالة هذه هو المؤسسة الثقافية التي ينبغي بقوة الإرادة والأفق الإستراتيجي التغلب على الذاتيات المريضة والأفعال المقنعة، وتتحول إلى معبر حقيقي لصوت المبدع والإبداع الخلاق الذاهب برسائله إلى آخر الزلزال. وبالتالي، العمل في هذا الاتجاه الذي ينتظر الكثير. قصد تقديم خدمات، تعلو على سقف الأوهام التي غدت راسخة كعلم له سلالمه الخاصة وتبريره المتعدد الذي يجدد الخطاب والنبرة، مهما تقعرت الأزمة.