شكل مطلع أبريل لسنة 2018 تحولا نوعيا في تعامل النظام الجزائري مع قضية الصحراء؛ فقد أدرك النظام العسكري أن عامل الوقت أصبح حاسما في تدبير هذا الملف، بالرغم التشويش الإعلامي والتحرك الدبلوماسي الذي ما فتئ يمارسه قبيل صدور القرار السنوي لمجلس الأمن حول ملف الصحراء. ومن ثمّ، فيبدو أنه قد خطط للقيام بعملية انتحارية، من خلال الدفع بالمليشيات المسلحة لانفصالي البوليساريو، قصد الاستيطان بالأراضي المغربية، والتي تعتبرها الأممالمتحدة بموجب اتفاق وقف النار "مناطق عازلة". لقد شكلت الأحداث المتسارعة في الفترة الأخيرة، من خلال محاولة الجزائر فرض الأمر الواقع بالقوة في قضية الصحراء، منعرجا خطيرا في تدبير العلاقات الدولية، جعل المغرب يعبر بشكل حازم عن استعداده لاتخاذ كل التدابير المناسبة، بما فيها الحل العسكري. وبالموازاة مع التلويح بهذا الخيار الصعب، وتكثيف التحركات الدبلوماسية مع العواصم الدولية، كانت ورقة "تعبئة الجبهة الداخلية" للمملكة إحدى الحلقات الرئيسية في التعبير عن الموقف المغربي، من الاستفزازات الجزائرية الأخيرة، والتي تمخض عنها بشكل عملي "إعلان العيون". من الناحية الجيواستراتيجية، يشكل "إعلان العيون"، والذي أصدرته الهيئات السياسية ومنتخبو ووجهاء وشيوخ القبائل في الصحراء، محطة نوعية في التعبير عن موقف النخبة السياسية من قضية الصحراء؛ فجميع الأطياف السياسية بالمغرب، أغلبية ومعارضة، شدت الرحال نحو عاصمة الصحراء المغربية، لمطالبة الأممالمتحدة باتخاذ الإجراءات الحازمة والرادعة لإجبار "بوليساريو" على الانسحاب، وإزالة كل مظاهر محاولاته الهادفة إلى إحداث واقع جديد في المنطقة. وبالرغم من الزخم الذي حققته المبادرة على المستوى الوطني وتأثيرها الإيجابي على الأطراف الفاعلة دوليا، نعتقد أن "إعلان العيون" لا يجب أن يكون غاية في حد ذاتها؛ بل نقطة تحول حقيقية، في تعامل الأحزاب السياسية مع قضية الصحراء، وكذا مع باقي القضايا الدولية، والتي تتطلب انخراطا حقيقا مع الشركاء والفاعلين الدوليين. لم يعد ممكنا أن تلعب نخبتنا السياسية دور رجل الإطفاء، كلما تطلب الأمر ذلك. كما لم يعد مقبولا أن نبقى في موقف الدفاع، في الوقت الذي تنهج فيه جهات أخرى أساليب هجومية، دون أن تكون معنية بصورة مباشرة بقضية الصحراء. لقد حان الوقت لبناء إستراتيجية واضحة ومستدامة، تخص كل الأحزاب السياسية، خاصة تلك التاريخية منها، والتي أسهمت في وقت من الأوقات في تدبير ملف الصحراء، وكان لبعض قراراتها تأثير في مستقبل الأحداث. فهل يشكل "إعلان العيون" الأرضية المثلى، نحو إرساء دعائم حقيقية للدبلوماسية الحزبية بالمغرب؟ بكل صراحة، حتى لو توفرت اليوم الإرادة القوية لدى الأحزاب السياسية المغربية للانخراط في الدبلوماسية الحزبية الفاعلة والمؤثرة، أعتقد هناك ثلاثة عوائق حقيقية، ستحد من فعاليتها وتأثيرها: العائق الأول، يتعلق بغياب توجه واضح داخل الأحزاب السياسية، للدفاع عن القضايا المصيرية للمملكة، بما فيها مشكل الصحراء؛ فلا يمكن بين عشية وضحاها أن يتشكل داخل منظومة الأحزاب السياسية وعي جماعي بضرورة الدفاع عن القضايا الخارجية للوطن. الأمر يتطلب ردحا من الزمن، لتحقيق هذا المبتغى، لكن المهم هو تحقيق الانطلاقة الحقيقية... العائق الثاني يتعلق بالفقر المدقع التي تعانيه جل الأحزاب المغربية، فيما يتعلق بوجود الكفاءات السياسية القادرة على التصدي بحزم للمخططات التي تمس بالوحدة الترابية للمملكة. وحينما نتحدث عن مفهوم "الكفاءات"، فنحن نقصد بشكل واضح الكفاءات متعددة المجالات والتخصصات خاصة منها: السياسية، الاقتصادية، القانونية، التاريخية، الحقوقية والدبلوماسية. كما نقصد أيضا تلك الكفاءات الأفقية في مجال التواصل واللغات الحية. فلسنوات طويلة، كان التركيز البرغماتي للأحزاب على استقطاب ذوي النفوذ المالي والسياسي عاملا مباشرا في إضعاف تمثيلية هذه الكفاءات من داخل الأحزاب السياسية المغربية، خاصة خلال عملية إعداد اللوائح الانتخابية. العائق الثالث يتعلق بضعف التنسيق بين الدبلوماسية المغربية والقيادات الحزبية. وعوض أن تعتبر الأحزاب السياسية ذلك إشكالا يتعين تجاوزه، اتخذته وللأسف الشديد ذريعة للغياب عن التأثير الفاعل داخل الساحة الدولية، تطبيقا لشعار "كم حاجة قضيناها بتركها". من جهتها، لم تحاول الدبلوماسية الرسمية كسر الجمود بينها وبين الأحزاب السياسية، ولعل المؤشر الأبرز هو ضعف نجاعة وفعالية "لجنة الخارجية والدفاع الوطني والشؤون الإسلامية والمغاربة المقيمين في الخارج"، والتي يمكن أن تشكل الإطار المناسب والمستدام للتنسيق بين الطرفين. لقد أبانت التطورات الأخيرة لقضية الصحراء أن البرلمان المغربي أصبح مطالبا، أكثر من أي وقت مضى، بتجاوز الأدوار التقليدية التي يمارسها على المستوى الوطني، وبات من الضروري أن يتجه نحو وضع إستراتيجية دولية لمجابهة التحديات التي تفرضها القضايا المصيرية للمغرب. فخلال بداية الأسبوع الجاري، وبالإضافة إلى التعقيدات التي باتت تطرحها المواقف الأخيرة للبرلمان الأوروبي من قضية الصحراء خاصة في الشقين الحقوقي والاقتصادي، سيعقد هذا الأخير جلسة استماع حول ملف نزاع الصحراء المغربية وخاصة قرار مجلس الأمن الدولي الأخير رقم 2414، بحضور "هورست كوهلر" المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة. كما أن هناك تحديات كبيرة تنتظر الوفد المغرب داخل البرلمان الإفريقي، بعد استعادة المغرب لعضويته من داخل الاتحاد الإفريقي. الأمر نفسه ينطبق على التحديات الجديدة المتعلقة بانضمام المغرب إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، والأدوار التي من الممكن أن يضطلع بها برلمان "سيدياو"، سواء في إتمام إجراءات الانضمام أو لما بعد عملية الانضمام، وهي أدوار لن تكون لها قيمة مضافة في غياب انخراط فاعل وتجاوب مستمر للبرلمان المغربي. وبمستوى ثقة المواطن المغربي في قدرة القوات المسلحة الملكية على الدفاع عن حوزة الوطن يحتاج هذا المواطن إلى أن يثق كذلك في الأحزاب السياسية في الاضطلاع دبلوماسيا بنفس الدور، وهي التي تبدو في الوضع الراهن عاجزة عن مسايرة الأحداث الدولية. لكن المواطن نفسه، والذي يشكو من ضعف تفاعل الأحزاب مع قضاياه الداخلية وقضايا الوطن الخارجية، يعتبر هو أيضا جزءا أساسيا من المشكل، كما يمكن أن يشكل أيضا جزءا من الحل. فبقدر انخراطه الفعلي والفعال في العملية الانتخابية، وبقدر اختياراته الصائبة لممثليه من داخل قبة البرلمان، يمكن للأمور أن تسير في الاتجاه الصحيح، من أجل بناء نخبة حقيقية داخل الأحزاب المغربية، بمقدورها، الدفاع أولا عن مصالح المواطن، وثانيا، الدفاع عن المصالح الخارجية للوطن. عندئذ، سيكون لإعلان العيون معنى آخر. *أستاذ باحث جامعة القاضي عياض، مراكش. [email protected]