موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو قراءة جديدة للشعر المغربي الحديث والمعاصر
نشر في هسبريس يوم 17 - 05 - 2018

إن انعدام بنك معلوماتي بيبليوغرافي حول الشعر المغربي الحديث والمعاصر، وتشتت الجهود الفردية المبذولة في إنجاز مجموعة من المصنفات البيبليوغرافية الأدبية، وتأخر ظهور فهارسها على وجه العموم، وتركيزها على المجاميع الشعرية بصفة أساسية في عملية بحثها دون الاهتمام الكافي بالمتون النصية الشعرية والنقدية غير المجموعة، المتناثرة في مختلف المنابر من جرائد ومجلات وكتب إلكترونية أو ورقية، سمعية وبصرية، وغياب مظان الجرائد اليومية من مجال البحث في نطاق شاسع من منجز الدراسات والبحوث حول النتاج الشعري ونقده وتأريخه، والنقص الكبير الذي يعتريها على المستوى المنهجي والنظري والمعرفي والمرجعي، وعدم إدراج البيبليوغرافيا مادة أساسية ضمن مقررات دراساتنا الجامعية بصفة عامة، وإيلاء الاهتمام المتوخى للبحث البيبليوغرافي في مجال الدراسات حول الشعر خاصة، بناء على الاستغلال الأمثل لتكنولوجيات الاتصال والإعلام الحديثة كمنظومة المعلوميات: Intranet و Extranet في هذا المضمار، وغياب خطة عمل استراتيجية مؤسساتية محكمة ومتناسقة ومنهج علمي استقرائي لإنجاز أعماله، كلها عوامل ساهمت بشكل واضح في رسم معالم القصور في منجز الدراسات حول شعرنا الحديث والمعاصر. رغم ما بذل من جهود في حصيلة البحوث البيبليوغرافية حول النتاج الأدبي المغربي النثري والشعري على حد سواء، إلا أنها تبقى مساهمات فردية محدودة وناقصة، يظل أمامها طريق التنقيب والاستقصاء طويلا ومتشعبا، يقتضي قطعه تجاوز هذه النواقص والعوائق المذكورة بناء على عمل مؤسساتي متناسق، تتحمل المؤسسات الرسمية بالدرجة الأولى مسؤولية إنجازه، في مقدمتها كليات الآداب والعلوم الإنسانية، وقطاع الثقافة واتحاد كتاب المغرب، وأكاديمية المملكة المغربية، وبيت الشعر، ودار الشعر بالمغرب، ورابطة أدباء المغرب.
إن عددا ليس باليسير من الشعراء المغاربة نشروا قصائدهم منفردة في العديد من المنابر الإعلامية والثقافية، دون أن يحالفهم حظ نشرها في دواوين شعرية لأسباب مختلفة مادية وذاتية وظرفية، كشعر الشاعر مصطفى الطليكي ومحمد ابن الهاشمي التطواني ومحمد اللواح ومحمد المختار العلمي، ما جعله عرضة للإهمال والتهميش في مجمل الدراسات والأطاريح التي تناولت الأدب المغربي الحديث والمعاصر، وهو سبب لا يعفي أصحابها كذلك من استقراء ما لم يطلعوا عليه وإعادة النظر فيما انتهوا إليه من نتائج حول هذا الأدب، خاصة وأن هذه الفئة من الشعراء نشرت أعمالها في مختلف المجلات والجرائد الوطنية والمحلية، بمعنى أنها ليست معدومة أو أصابها التلف حتى يحل تبرير غيابها عن البحث والتحليل والدراسة.
ما لا نستسيغه في هذا المقام هو بأي تعليل وبرهان تم الاعتماد في هذه الدراسات بصفة أساسية على الشعراء الذين يتوفرون على دواوين شعرية منشورة، بغض النظر عن معيار انتقائها!؟
-هل أصبح التوفر على ديوان شعري بمثابة جواز سفر ليلج هذا الشاعر هذه الدراسات حول شعرنا الحديث والمعاصر !؟
هل أصبح معيار الكم والشهرة والذيوع تأشيرتها للاعتماد على ما ينشر من الأشعار سواء كان إصدارها مجموعا في دواوين شعرية أو منفردا في مراجع معينة!؟
- أليست هذه المعايير عوائق وأوهام، أرخت بظلالها على واقع ونتائج ومسار هذه الدراسات من جهة، وعلى رصيد شعري مغربي كبير لم يحالفه الذيوع ونشر قصائده في مجاميع شعرية من جهة أخرى!؟
لقد كان على قطاع الثقافة العمل على نشر النتاج الشعري لهذه الفئة من شعراء هذا الرصيد، عوض الاكتفاء بنشر الأعمال الكاملة لنظرائهم الآخرين فقط لأسباب متعددة لا مجال لذكرها الآن، وعليه أدعو من هذا المنبر إلى العمل على جمع وتوثيق ونشر شعرنا المغربي الحديث والمعاصر من خلال مختلف مظانه الإعلامية والثقافية المكتوبة والبصرية والمسموعة، الإلكترونية والورقية وموارده المخطوطة والمرقونة، وإحداث جوائز تشجيعية تحفيزية لهذا الصنيع حتى نفي بحقوق وواجبات هذا الشعر، ونضعه في المقام الذي يستحق حماية له من آفة الشتات والضياع والنسيان والتجزيئ والأحكام المسبقة والإيديولوجيات الإقصائية و الدراسات التعميمية والانتقائية، كما أدعو إلى إعلام متخصص مواكب في مجال الأدب عامة والشعر على وجه التحديد لأهميته الكبرى في خدمة هذا الشأو وتسليط الضوء على مساراته وأعلامه وتلقيه.
إن من الشروط العلمية الأساسية لدراسة الأدب المغربي الحديث والمعاصر بصفة عامة، والشعر خاصة، هو الإحاطة بنتاجه ومواكبته بالتعريف والدراسة النقدية التحليلية سواء على المستوى الأفقي أو العمودي، المتسلحة بالمناهج الملائمة والمعرفة الكافية بمجال البحث المتناول، فالناظر فيما تناولته الدراسات من دواوين الشعر المغربي الحديث والمعاصر، المنشورة منذ عشرينيات القرن السابق إلى حد الآن، سينتهي إلى مفارقة كبيرة بين العدد المدروس ونظيره المنشور من هذه الدواوين التي تتجاوز الألفين حسب بيبليوغرافيا الشعر المغربي المعاصر (1923-2016) لمحمد يحيى قاسمي، ما يعكس جزءا من القطيعة بين الدراسة ومادتها الشعرية، ويفضي إلى عوائق إبيستمولوجية بحصاد نتائجها الجزئية التعميمية الناقصة والمحدودة والمتهافتة .
مما لا شك فيه أن جزء هاما من هامش هذا الأدب بصنفيه الشعري والنثري، الذي أسميه بأدب الظل أو الهامش، من شأنه أن يضيف حلقات ولبنات جديدة، ويملأ ثغرات كثيرة، ويبرز مزايا عديدة، ويصحح أخطاء وفيرة، فيما كتب من دراسات حول الأدب المغربي، من قبيل شعر شاعرنا الأديب الراحل متعدد المواهب محمد البقالي الذي يعد بنظمه قصيدة: "حكاية شعب"، أحد المؤلفين الرواد القلائل في فن الأوبيريت بالمغرب.
لئن كان هاجس إثبات الذات الأدبية المغربية والذود عن مزاياها قد سيطر على الدراسات الأدبية الأولى التي تصب في مجال تأريخ الأدب المغربي، تصديا لآفة جهل أو تجاهل المشارقة لنتاجه الأدبي، فإن هذا الهاجس لم يعد له أي مبرر أو إملاءات في واقعنا الراهن، بل إن الأخطر ما في الأمر أن هذه الآفة انتقلت من إطارها البراني إلى نظيرها الجواني، بمعنى أن عدوى الجهل والتجاهل تسربت إلى دراساتنا الأدبية والنقدية والبيبليوغرافية لتشمل بصورة متعمدة أو غير متعمدة، عددا وافرا من نتاجنا الأدبي بصفة عامة.
لقد كان على كليات الآداب منذ تأسيسها وشروع شعبها اللغوية والأدبية في العمل، الالتفات إلى أهمية العمل البيبليوغرافي في جميع الأجناس الأدبية، ما كان سيجنبها طيلة عقود من حياتها مشاكل لا تعد ولا تحصى تعترض الطلبة والأساتذة الباحثين على حد سواء، وتزداد تناميا بمدى إهمال هذا العمل واستسهاله، وتضر بجميع هذه الأجناس ونقدها في الآن عينه، باعتباره مدخلا أوليا وأساسيا في جميع الموضوعات المختارة للدراسة والتحليل والتحقيق والتقييم والاستنتاج وغيره، وإن كنا لا ننفي المجهودات التي بذلت في هذا المجال، إلا أن أعمالها طغى عليها طابع الانتقائية والانفرادية والتجزيئ في غياب تصور محكم وتدبير معقلن ومقنن لهذا العمل، وبنك معلوماتي مؤسساتي واستغلال المنظومة التكنولوجية المعلوماتية الحديثة كالإنترانيت، ناهيك عن الفراغ القانوني التشريعي في معالجة هذا الأمر الذي يرتبط ارتباطا عضويا بجانب الصيانة والاستغلال والاستثمار الأمثل لثروتنا اللامادية الثرية والمتعددة، والحفاظ على ذاكرتنا وهويتنا الثقافية والحضارية.
رغم انعقاد ندوة حول "تاريخ الأدب المغربي الحديث: حدود وطرائق" يوم 11 دجنبر 2009 في كلية الآداب بالرباط، نظمها فريق البحث في الأدب المغربي الحديث، بتنسيق الشاعر محمد بنيس، تحت رئاسة حفيظ بوطالب جوطي رئيس جامعة محمد الخامس، وعبد الرحيم حمادة عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وذلك قصد الشروع في إنجاز موسوعة الأدب المغربي الحديث مدة خمس سنوات تبتدئ من سنة 2010 إلى 2015، إلا أن مشروع هذه الندوة وخطاباتها ظلت صيحة في واد إلى حد الآن، بل كان بديهيا أن تفشل في تحقيقها لأن أصحابها آمنوا بسهولة إنجاز صنيعهم، علما أنهم أمام زخم هائل من مصادر ومراجع المادة الشعرية والنثرية المنشورة والمخطوطة والمرقونة والمسجلة، المجموعة والمنفردة التي تحتفظ بها العديد من المكتبات العامة والخاصة، ومختلف الوسائل والوسائط من صحف ومجلات وكتب ودفاتر وأوراق وتسجيلات سمعية وبصرية وغيرها، طيلة أكثر من نصف قرن، سواء على عهد الحماية الإسبانية والفرنسية بشمال المغرب وجنوبه أو بعد استقلاله إلى وقتنا الراهن، ما يقتضي أولا حصرها وجمعها وتصنيفها ورقمنتها واستقراءها، والشروع في دراستها وتحريرها، الأمر الذي يتوخى على الأقل، اجتياز المرحلة الممهدة للدراسة طيلة المدة الزمنية الكاملة التي خصصت لإنجاز هذه الموسوعة أي خمس سنوات المذكورة، وإن اقتصر عملها على جنس واحد من أجناس الأدب كالشعر، ولغة واحدة هي اللغة العربية، هذا فضلا عما يقتضي أمر هذا المشروع من انخراط كلي لجميع شعب اللغة العربية وآدابها بجامعات المغرب على وجه التحديد، والمؤسسات المعنية بشأن هذا العمل كدار الشعر وبيت الشعر، بل إن مشروع موسوعة شعر الملحون المغربي المكتوب بالعربية فقط، الذي أفردت له أكاديمية المملكة المغربية 50 متخصصا لإنجازه تحت إشراف الدكتور عباس الجراري، لا يزال لم يكتمل، بعدما تم نشر 10 أجزاء من دواوينه طيلة 10 سنوات : من سنة 2008 إلى 2017، و لا ندري لماذا لم يتم التنسيق مع هذه المؤسسة في هذا الشأن رغم أن المشروعين المذكورين يصبان في نفس الموضوع !؟
أما فيما يتعلق بالمصادر الشفوية المنوطة بهذا المجال على سبيل المثال، فالأمر أكثر مدعاة للرثاء، فبغض النظر عن ضحالة الأرشيف الشفوي عندنا، وعدم الاكتراث بالرواية الشفوية المباشرة في التوثيق وصيانة رصيدنا الأدبي والعلمي والفني والثقافي، فإن أولى المشاكل العويصة التي تجابهنا في هذا النطاق تكمن في ضياع العديد من المناهل الشفوية الثرية الأدبية واللسانية والفنية والعلمية وغيرها، برحيل أصحابها دون أن يتم الالتفات إلى توثيقها واستغلالها وتقدير مكانة أصحابها، ورد الاعتبار الذي يستحقونه سواء في حياتهم أو مماتهم من قبيل الشاعر الكبير محمد اللواح الأصيلي، والعالم الرياضي الأستاذ الفذ قاسم مشاش الودراسي التطواني الذي كان يشغل منصبا علميا راقيا في الناسا (NAZA) : الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء:National Aeronautics and Space Administrationبالولايات المتحدة الأمريكية، ضمن فريق الخبراء المكلف بأبولو 11 الذي نزل على سطح القمر لأول مرة في تاريخ البشرية سنة 1969 بقيادة أول رائد فضاء أمريكي نيل أمسترونغ (1930-2012)، والفقيه الجليل العالم البصير أحمد بن محمد بن عبد الكريم البازي (ت 1956)، آخر الفحول الحفاظ للقراءات السبع بتطوان وأبرزهم فيها دراية ورواية وتفسيرا، والموسيقار الفريد المطرب الشهير الشريف محمد بن عبد السلام البقالي، عميد الموسيقى الأندلسية، الحافظ عن ظهر قلب جميع نوباتها الإحدى عشر، الذي كان يعد: "أكبر حافظ للآلة بتطوان" حيث كانت وفاته سنة 1936 "خسارة كبرى" لهذه الموسيقى التراثية الإنسانية، فضلا عن أفول صيت نبوغهم على حساب نظرائهم المشاهير، من بينهم الكاتب الروائي محمد لفتح (1946-2008) الذي اعتبره الأديب المغربي إدمون عمران المليح: "أفضل كاتب بالفرنسية عرفه المغرب على الإطلاق"، وشاعرنا الكبير الأديب محمد أحمد البقالي (1927-2017) أحد رواد الشعر المغربي الحديث وشعرائه المجددين، ورفيق دربه الرسام العالمي محمد الإدريسي المقيم بأمريكا إلى حد الآن.
كل هذا وذاك ينم عن استسهال العمل البيبليوغرافي والتوثيقي، وكأنه ترف فكري وكلامي وجمع وترصيف فسيفسائي وتنضيد مراطوني، دون الوعي بأهميته القصوى وأولويته الكبرى في جميع الموضوعات المتناولة دراسة وتحليلا ونقدا وتقييما، باعتبار أن أبرز النواقص وأغلب الهفوات والزلات المرتكبة في مختلف مجالات العلم والمعرفة تنم عن نقص بيبليوغرافي في مباحثها المتناولة.
إن من عواقب هذا الإهمال: تكرار أعمال التحقيق لمخطوط واحد، وتفاوت أعداد النسخ المعتمدة في التحقيق من عمل إلى آخر، وتكرار تناول الدراسات لموضوع واحد، وعدم تطابق عناوين البحوث مع مواضيعها، والنقص الكبير في بيبليوغرافيتها المعتمدة العربية والأجنبية، وفشل مناهجها وضعف نتائجها، وسقوطها في المغالطات والافتراءات والتناص والتلاص والتقويل والتحريف والتحبير، وتناسلها في الدراسات الموالية لها بناء على قاعدة بياناتها الهشة، خاصة في هذا الواقع الموسوم بثورة معلوماتية هائلة وسريعة، جارفة ومطردة التي تقتضي مواكبة لامتناهية لمعطياتها على إيقاع وتيرتها.
إن فتور هذا العمل الأولي الأساسي في البحث والتحصيل والدراسة والتحليل والتقييم والاستنباط والتفكيك والاستنتاج أرخى العنان بصورة مطردة إلى الإدلاء بمختلف الأعذار والتبريرات التي لا يقبلها منطق البحث العلمي على الإطلاق، من قبيل عدم استطاعة الباحث الاضطلاع على نصوص مصدرية ومرجعية في مبحثه أو اكتفائه بعينة من البحوث باعتبار صفتها المعيارية الأساسية، وصعوبة الإحاطة بكافة المراجع و المصادر المرتبطة بموضوع البحث رغم وجودها، أو بحجة أن الشخص المبدع شاعرا أو كاتبا، المنتمي إلى الحقل والموضوع المتناول، مغمور وغير معروف وخافت الحضور في المشهد الثقافي والإعلامي المعاصر، أو أن الزمن المتوخى لإعداد البحث لا يسع للاضطلاع على مجموعة من البحوث والإحاطة بها ودراستها، أو عدم التمكن من الحصول على بعضها، أو الاستناد إلى أحكام مسبقة في حق الكتاب دون الرجوع إلى متون هذا الكتاب في أصله، وإنما عبر نقول منتخبة منه في دراسات معينة، ما يحول دون الوقوف على سياقات نصوصها الأصلية الواردة في الكتاب نفسه، التي تستجلي بوضوح مراميها الحقيقية والوظيفية، وغيرها من العلل الواهية التي تضر بالبحث العلمي وتسيء إلى مجالاته ومساراته وأهدافه، وتسلب البحوث فرادتها وأصالتها وجدتها وصرامتها العلمية والمنهجية.
وهكذا ساهم هذا الوضع إلى حد كبير في تبويئ البحث العلمي عندنا المكانة المنحطة والمراتب المتأخرة في سلم التصنيفات الدولية، ما يدعو إلى إعادة النظر في آلية ومضامين وأهداف ودعم هذا البحث، و كذا في مختلف مشاربه وموضوعاته من أجل قراءة حداثية لها.
لقد حان الوقت لإنجاز قراءة جديدة لشعرنا الحديث والمعاصر بناء على ما راكمه من متون شعرية وافرة سواء التي هي في حكم المجهول أو المعلوم، المركز أو الهامش، واستنادا إلى ما توفره تكنولوجيا المعلوميات الحديثة ومناهج البحث العلمي من إمكانيات مثمرة ونتائج قيمة، بغية تذليل عوائق وصعاب ولوجه ومعرفته، والإحاطة بصورته في مختلف أبعادها وزواياها، والإلمام الشامل بكينونة ووضعية هذا الشعر وقضاياه وموضوعاته ومواطن القوة والجودة والتعثر والغفوة في مساره، كي تكون معالم لتجويد النتاج الشعري وترقية ذائقة متلقيه وناظمه، حتى لا يترك الفن الشعري للعبث ولمن هب ودب، ويقطع الطريق على الرداءة ودابر الإساءة إلى هذا الفن الجميل وتأريخه ومتفانيه ومتلقيه على حد سواء.
لن تستقيم دراسة أدبنا المغربي بصفة عامة، وكتابة تأريخه النقدي والنثري والشعري بصفة خاصة، دون إجراء هذا النمط من القراءة التي تعبد السبيل إلى ولوجه من بابه الأوسع، وفضائه الأرحب. قد نختلف في تلقي النصوص الإبداعية نثرية أو شعرية، وهو أمر طبيعي ومحمود، يثري ديناميتها وتاريخيتها على حد سواء، لكن ما لا يقبل الاختلاف فيه، هو إقصاء قسم وافر من هذه النصوص لسبب أو لآخر، ما يبعدنا عن إجراء قراءة عالمة وافية وفاحصة، فاعلة ومتفاعلة، ودراسة شاملة علمية نقدية وتأريخية رصينة لهذا الأدب بصنفيه الشعري والنثري، من هنا تستمد هذه القراءة مشروعيتها وأهميتها وأولويتها في حقل الأدب ونقده وتأريخه بصفة عامة، وشعره على وجه التحديد.
إن ما حصل من تهميش وإقصاء وتعتيم وإهمال لهذا القسم من شعرنا الحديث والمعاصر ليدعو إلى إحداث قضاء للأدب حتى تظل متونه وأصحابها في مأمن من هذه الجنايات التي طال أمدها واستفحل بأسها إلى حد لم يسلم منها على سبيل المثال أحد أهرام ورواد الشعر المغربي الحديث الشاعر الكبير أستاذ الأجيال محمد أحمد البقالي رحمة الله عليه.
إن إيلاء ما تستحقه هذه الشخصية الشعرية الرائدة من تقدير واهتمام، باعتبارها أحد رموز ثقافتنا المغربية سواء على المستوى الجهوي أو الوطني، وحلقة من الحلقات الهامة المتميزة في مسار شعرنا الحديث والمعاصر، هو دين طائل واجب علينا إيفاؤه حقه من البحث والدراسة والتدريس في برامجنا الأدبية التعليمية الجامعية والثانوية والإعدادية، إنصافا وصونا لمكتسباتنا الحضارية وإثراءا لهويتنا الثقافية، خاصة إذا علمنا أن هذا الهرم الشعري المغربي لم يكن يرنو إلى الأضواء والذيوع رغم أن قامته الأدبية كنز لا تقدر بثمن عقيان شعره ودرر نثره، بمعنى أن غايته النبيلة السامية أغنته عن مساحيق التألق والسموق والحبور، وأنها لم تكن وسيلة لغاية، بل غاية في حد ذاتها، ما يجعلنا أكثر تعلقا بشعره المتلألئ بهاءا وفنا وقيما ورسالة شكلا ومضمونا، ولولا استنهاضي عزيمته لنشر كنزه الحكيم لما انبرى فيما بدا لي إلى استخراج درره المكنونة بعدما أقنعته بأنه لم يعد ملكا فقط لنفسه، بل ملكا للأدب المغربي والعربي الحديث والمعاصر على حد سواء، وفي هذا السياق أجدد شكري لروح فقيدنا الشاعر الرائد الأديب المبدع أستاذ الأجيال المرحوم محمد البقالي على تلبيته دعوتي هذه، وعلى ما بذله من جهود في إخراج مكنون كنزه الحكيم إلى حيز الوجود، وجمع درر ديوانه الشعري الثاني ملاحم ومراثي الخالدين الذي سينشر في المستقبل القريب، كما أحيي أستاذ الأدب المغربي الحديث بشعبة اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، الدكتور الأديب أحمد هاشم الريسوني، على استجابته الكبيرة لطلبي في موضوع إعداد أطروحة دكتوراه حول شاعرنا الأديب محمد البقالي، قبل أن يختار للقيام بهذا البحث الأكاديمي أحد طلبته المتفوقين الطالب الباحث النبيل نجيب لوليشكي تاج الذي سجل موضوع أطروحته بداية العام المنصرم، بعنوان: دراسة حول الأديب محمد بن أحمد بن عبد السلام البقالي المحمدي: حياته وآثاره الأدبية، تحت إشراف أستاذه المذكور.
أملي أن يتم الالتفات إلى باقي الشعراء الذين أشرت إلى بعضهم فيما سبق، بجعل شعرهم موضوعا للبحث والجمع والنشر والدراسة والتحليل، ضمن أولويات برامج ومشاريع ووحدات البحث والتدريس في الأدب المغربي، نظرا للثغرة الكبيرة التي تركتها حلقته المفقودة في منجز الدراسات حول الشعر المغربي الحديث والمعاصر، وقيمته المضافة الفنية والتصحيحية والتأسيسية لقراءة جديدة حداثية شاملة لنتاجه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.