ما الذي يجعل شخصا يبوح، بعد سنوات من الصمت، بمأساة عاشتها عائلته، التي تمزقت أمام عينيه؟ ربما جروح لم تندمل بعد لكاتب عاش أحداث روايته، التي تفوق فيها الحقيقة الخيال. تفاصيل رواية "مجنون الملك" (Le fou du roi) لكاتبها المغربي ماحي بينبين قال فيها كل شيء على لسان أبيه "الفقيه محمد" (بطل الرواية)، الذي خدم الملك الراحل الحسن الثاني وكان مؤنسا له لسنوات قبل أن يجد نفسه في ورطة سيختار بعدها قطع صلته بابنه عزيز، الذي سيعتقل بتازمامارت، على التخلي عن حبه للملك. "عائلة شكسبيرية" ولدت في عائلة شكسبيرية" عبارة لخص بها ماحي بينبين فترة متوترة بصمت حياته، لتصنع منه روائيا عرف عليه "الصدق في تعابيره". كاتب "مجنون الملك" لم يفعل أكثر من إعادة كتابة ما عاشه من أحداث درامية، تنتقل من معاناة أمه التي اكتوت بنار اعتقال ابنها عزيز، الضابط الذي شارك في الانقلاب الفاشل بالصخيرات سنة 1971، والحيرة التي عاشها الأب بعدما صار متهما بكونه والد شخص كان يريد خيانة الملك الراحل الحسن الثاني. لا تخلو آخر روايات ماحي بينبين من مواقف إنسانية حقيقية؛ لكن في الوقت نفسه تجعلك تنبهر من قوة المشاعر التي وظفت في كتابتها، حتى أنك تحاول إقناع عقلك بأنها فقط "تفنن درامي" يستعمله الكاتب ويريد به أن يبهرك. صوّر ماحي الأمَّ التي عاشت 18 عاما من العذاب والشوق لرؤية ابنها المعتقل، تلك المرأة المغربية الوفية والصامدة أمام الأقدار. من المواقف التي عاشها الكاتب وعبّر عنها بصدق في روايته، ألمه القادم من ثلاثة منابع: الأخ الذي لم يكن يعرف مصيره بتازمامارت، علما أن عددا من المعتقلين به فارقوا الحياة؛ معاناة الأم التي لم يكن مشهد رجوع ابنها يفارق خيالها؛ وصدمة الأسرة في الأب، مؤنس الملك، الذي تنكر لابنه عزيز بدل أن يطلب من الحسن الثاني أن يعفو عنه، ليستمر في عمله "مهرجا بالقصر". الأب الإنسان كيف لأب أن ينام ويساعد الآخر على النوم؟ وفلذة كبده لا يعرف مصيرها وفي الأثناء نفسها الزوجة أم الأبناء تكتوي يوميا بفراق عزيز، هذا أول سؤال يطرحه القارئ، كون الراوي في "مجنون الملك" هو الأب نفسه. بالرغم من تبرؤ "الفقيه محمد" من ابنه الضابط، لم يستمر في العيش بالقصر؛ بل أمر بالعودة للعيش في بيته مع زوجته وابنيه. الأب الحائر كان وفيا للملك، ولم يتنازل عن "إنكار الابن". تجعلك شخصية "الفقيه محمد"، المراكشي المتمكن من الكلام الموزون والحكايات والمواقف الفكاهية بالإضافة إلى حبه للملك، تستخلص أنه إنسان بلا قلب بإمكانه التضحية بأناس أعزاء في سبيل الحفاظ على "الجاه"؛ لكن سرعان ما ستتكسر هذه الصورة عند القارئ عندما يحس بعبارات نفس الأب وهو منكسر. "مجنون الملك" غلب العقل على العاطفة، كانت قسوة قلبه في تلك الفترة المشحونة، وسيلة لإنقاذ العائلة والقبيلة بأكملها من لهيب غضب كان بإمكانه أن يمسح أثرها من الوجود. كلمات صادقة وظفها الكاتب في الحوار الذي دار بين أبويه، يجعلك تلغي حكمك المسبق عن الأب "عديم المشاعر" الذي هو في الحقيقة كان أكثر من تألم في صمت. بالرغم من المأساة التي عاشها "الفقيه محمد" والألم الذي عاشه في صمت إلى جانب أسرته الصغيرة، كان صادقا في حبه للملك الحسن الثاني، ويظهر هذا الأمر في عدم قدرته على الكذب في وجه الملك في أقوى موقف عاشه في حياته والذي كان "آخر لقاء بالملك" بعدما تمكن منه المرض. وصف ماحي هذا الحب في حوار بسيط؛ لكنه مليء بالمشاعر الصادقة، سيسأل الحسن الثاني مؤنسه: هل سأرى أزهار الجوكاندا.. لن أراها بعد اليوم؟ ليجيبه "الفقيه محمد" بصدق: لا، لن تراها، يا مولاي.