لنعتبر أن الإسهال الكبير الذي يعاني منه النشر الورقي للدواوين الشعرية في المغرب مرض يحتاج إلى تشخيص، وأن دعوات لفت الانتباه إلى ضرورة وضع مقاييس نقدية أو فنية أو إبداعية لاتباعها والتقيد بتوجيهاتها قبل أي نشر لأي ديوان شعري تحمل وجاهتها وصدقيتها وراهنيتها. ولنعتبر أن النشر الشعري الإلكتروني اختلط حابله بنابله؛ حتى لم يعد القارئ يميز بين الشعر والخاطرة والكلام. تأسيسا على هذه المسلمة، يصح التساؤل: من هي الجهة المخولة لوضع مقاييس وشروط ومواصفات الديوان الشعري الذي يستحق النشر؟ هل هي دور النشر التي من المفروض أن تكون لها لجنة قراءة متخصصة تجيز ما يمكن أن ينشر وما لا يستحق النشر؟ هل هي المطبعة التي أضحى هاجس الربح هو ما يوجهها، وليس أي اعتبار آخر؟ هل المتغيرات العميقة التي طرأت على الحياة، وعلى المشهد الثقافي العام، والتي يجب أن تكون دافعا ضروريا نحو تغيير المفاهيم الأدبية والنظر إليها؟ صحيح أن كل ما يكتب في الشبكة العنكبوتية ليس كله شعرا، بالمفهوم الصحيح للشعر، ولو أن الأمر مرتبط هنا بالموقف الملتبس من قصيدة النثر، وما خلفه التسامح النقدي الكبير في التعامل مع الشعر سواء على مستوى الكتابة الإبداعية أو على مستوى النقد. وصحيح أن كم الأخطاء اللغوية والنحوية والتركيبية، والجهل المركب بالمكونات الشعرية الضروري، صورة شعرية ولغة وبلاغة وإيقاعا وغير ذلك، شيء يثير الشفقة على المستوى المعرفي لكثير من الشعراء المفترضين. وصحيح كذلك أن الكثير من المواقع الإلكترونية ليس لها معيارا أو شروطا أدبية محددة للنشر الشعري، وبالتالي تفتح صفحاتها لكل من يعتقد في نفسه أنه يكتب شعرا. ولكن، ألا يمكن اعتبار بعض هذه الظاهرة شيئا صحيا، لأنه أسقط الكثير من الوثوقيات الأدبية والشعرية التي كانت تحد من إمكانات الكتابة والتألق فيها؟ ألا يمكننا اعتبار هذه الطفرة الشعرية الكبيرة، على الأقل من ناحية الكم، جعلت المهتمين والمتابعين والمختصين ينتبهون إلى أنه من الممكن أن تبرز بين هذا الركام الشعري أصوات يمكن أن تكون مختلفة أو متميزة أو ناضجة، قابضة على زمام أصول الكتابة الشعرية، إما موهبة أو تعلّما؟ ألم تفتح هذه الشبكة العنكبوتية الباب واسعا أمام العديد من المبدعين الذين عانوا من الإقصاء العمْدي من طرف المشرفين على منابر النشر الورقية؟ هل كان المشرفون على المجلات الأدبية المتخصصة والملاحق الثقافية نزيهين في انتقائهم للمواد الإبداعية التي تستحق النشر، أم كانت تحركهم خلفيات أخرى اتخذت أوجها متعددة لا تخرج عن الحزبي والإيديولوجي وحتى الشخصي؟ ألم يكن الإقصاء العشوائي للكثير من الأقلام الإبداعية الواعدة، الذي مارسته لوبيات النشر الورقي، سببا في انحسار الشعر وتراجعه، كما وكيفا، بشكل لافت للنظر؟ ألم تخرج من رحم هذه الشبكة العنكبوتية أعمالا شعرية عديدة تتوفر على كل شروط الكتابة الشعرية أصالة وحداثة؟ إن الكثير من المتتبعين لتطور الشعر في المغرب يعرفون أن جيلا كاملا أو أكثر تعرض لقصف إقصائي مقصود، وأن المسؤولين على المجلات والملاحق الأدبية و حتى صفحات الجرائد، مع بعض الاستثناءات القليلة، لم تكن النزاهة الأدبية ديدنهم، ولا معايير موضوعية للنشر توجههم، لذلك تم قبر الكثير من الأصوات الشعرية الواعدة، وفي الوقت نفسه تم تلميع أصوات أخرى تفتقد للحد الأدنى من الموهبة الشعرية، وأصبحت بين عشية وضحاها أصواتا شعرية يشار إليها بالبنان، تماما كما هو حاصل الآن على صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي. إن هذا التراكم الكبير من النتاج الشعري المنشور إلكترونيا ينسجم مع خصوصيات المرحلة الزمنية التي يوجد فيها. أما التمييز بين الغث والسمين، والجيد والرديء فيها، فهذا التصنيف يحتاج إلى الصرامة النقدية التي للأسف لم تعد بدورها مؤصلة علميا ومنهجيا، ولا نزيهة في انتقائها للأعمال الشعرية التي تستحق المتابعة. يعيش الشعر المغربي الحديث أزمة ثقة كبيرة تستدعي التفكير من خارج المنظومة التداولية الورقية التي انتهت صلاحيتها أو كادت، والبحث عن منظومة شعرية أخرى يكون فيها الحقل التداولي الجديد، القائم على الإلكتروني بالدرجة الأولى، هو الموجه الرئيسي نحو أي تفكير للخروج من هذا المأزق. يبقى السؤال الملح هو: كيف يمكن للشعر المغربي الحديث الاستفادة من هذه الثورة الإلكترونية والطفرة الشعرية الكمية، ومن إمكانات النشر والتوزيع التي أصبحت في متناول الجميع؟ التعامل مع هذا السؤال يمكن اعتباره خريطة طريق لتلمس المستقبل القريب للشعر المغربي، غير ذلك، يمكن أن يكون هروبا إلى الأمام في اتجاه المحافظة على مكتسبات شعرية إما ذاتية أو فئوية أو شللية، لم تعد صالحة في زمن سقطت فيه الكثير من الحدود والوثوقيات والمقدسات الشعرية، وفِي أحسن الأحوال يمكن أن يكون نوستالجيا شعرية تعيش في زمن شعري غير زمانها.