يظل الخطاب الصحفي مثيرا ومشوقا، وأحيانا يعتبره البعض غريبا، في ظل بروز ظواهر صحفية مَرَضِية تستدعي التفكيك والمعالجة. و نحن ، عندما نتوقف عند واقع الصحافة العربية مثلا، نلاحظ أن العديد من المؤسسات الإعلامية إن توفرت على شروط المؤسسة ، تعاني من البؤس، و التخلف، و الإحباط، و الارتداد إلى ممارسات تتناقض مع مهمة الصحافي و ضوابط مهنته، الأمر الذي يجعلنا نتساءل، والسؤال هنا مشروع حول قضية الممارسة المهنية وأبعادها المختلفة. فهناك العديد من الرؤى والتصورات حول ماهية المهنية في مجال الصحافة، وهي تختلف حسب اختلاف المدارس الفرنكوفونية والأنجلوساكسونية ، لكن توجد بعض القواعد والقيم التي تُجمع حولها المؤسسات الإعلامية الكبرى، لإخراج مادة صحفية مهنية و مقبولة إلى الوجود ، كالدقة ، الاستقامة ، الإنصاف و الحياد، (حتى لا نقول الموضوعية التي لا نعثر عليها حتى في مجال العلوم الحقة(. "" موضوع المهنية إشكالي للغاية، ويمكن التطرق إليه من زوايا مختلفة، لكن اخترنا في هذا المقال ،التطرق إلى سؤال أساسي يؤسس في نظرنا مقدمة للتفكير في مستقبل ما يطلق على تسميته "بالسلطة الرابعة": ما معنى أن أكون صحافيا ؟ الإجابة عن هذا التساؤل ، كلفت الصحافي و الباحث الكندي ، بيير سورماني ، سنوات من العمل و الممارسة و البحث، ليصل في النهاية إلى إصدار أحد أهم كتبه حول مهنة الصحافي عام 2000 * . سورماني يقول ،إن الصحافيين ،" لا يعالجون الخبر بطريقة اعتباطية ، بل يقومون بذلك في علاقة و ارتباط بالمؤسسة الإعلامية التي يشتغلون فيها و بدورها في المجتمع "(1). وظيفة الصحافي تصبح مرهونة بعوامل و شروط عديدة تطوق عمل الممارس بشكل يومي. إن الصحافي متورط في ممارسته المهنية بالفعل و القوة . فقبل إصدار حكم على خبر معين أو طريقة معالجته، لابد من التساؤل حول جوانب مهمة من ظروف العمل الصحفي. وهنا سنركز على بعضها التي نرى أنها حساسة ومعقدة، وتساهم في صنع الخبر و إخراجه من حالته الأولية إلى حدود إصداره و جعله مادة للمتلقي أو المستهلك. و غرضنا في هذا الإطار، هو ، من جهة ، إنارة الطريق أمام المتلقي و الجماهير عامة،(هنا أوظف مصطلح الجمهور بصيغة الجمع و ليس بالمفرد ،لأن ليس هناك جمهور واحد ومتجانس)، ومن جهة ثانية، تعرية العديد من العناصر الخفية التي تقف خلف الأخبار المنشورة يوميا من طرف المؤسسات الإعلامية . طبيعة المؤسسة الإعلامية : إن كل مؤسسة إعلامية ترتبط بخصوصية وأولويات معينة، تختزل في ما يطلق عليه المحللون وخبراء الإعلام ب AGENDA SETTING ، وهي عبارة عن مفهوم و خطاطة ترسم أدوار المؤسسة الإعلامية وتوجه عملها المهني ، والتي من خلالها يتم توجيه الرأي العام نحو قضايا وأخبار معينة دون غيرها . فعندما نلاحظ أن التلفزيون الفرنسي لا يبدي اهتماما إعلاميا بحدث سياسي وقع في إحدى الولايات الكندية، نجد مؤسسات إعلامية أمريكية تركز على نفس الحدث. هذا الأسلوب الانتقائي يخضع لمنطق الأجندة ، التي ترتبط بمصالح سياسية و اقتصادية و اجتماعية و بمجموعات ضغط وبالجماهير ،و غيرها من العوامل التي تبني الحقل الإعلامي برمته. الأمر ليس بالسهل كما نتصور منذ البداية، لان صنع الخبر هو وليد طبيعة المؤسسة الإعلامية و الأجندة و كذلك الجماهير المتلقية و المستهلكة للأخبار، في ارتباط بالفاعلين في المجتمع. فالمتلقي أو المستهلك يمكنه أن يحدد ، حسب سورماني ، ليس فقط ما يقرأه و ما يلغيه من أخبار ، بل كذلك ما يحتفظ به من الخبر. الجماهير تقرر بصيغة أو بأخرى، في نوعية الخبر و طبيعته و شكله الفني و الجمالي ومضمونه. لكن ، حسب شومسكي ، " تأثير وسائل الإعلام يعد أكثر أهمية من عدد السكان الأكثر تعلما، فيظهر أن قاعدة الرأي العام، أقل مشاركة في الخطاب الإعلامي. " ويقدم شومسكي مثالا بالحرب على إيران ، حيث " نجد 75 في المائة من الأمريكيين يرغبون في أن تضع الحكومة الأمريكية حدا لتهديداتها لطهران ، و أن تختار الحوار الدبلوماسي كوسيلة لإيجاد اتفاق حول الملف النووي الإيراني" (2). قضية تأثير وسائل الإعلام على الجماهير ، تستحضر بالضرورة تاريخ الإشاعة وعلاقته بالإعلام . وفي هذا السياق، نقدم مثال قصة الأطفال الذين أخرجوا من أسرَّتهم و ألقي بهم على الأرض، بأحد المستشفيات الكويتية من طرف الجنود العراقيين إبان الغزو العراقي. هذا الخبر الكاذب صنعته واحدة من كبريات المؤسسات الأمريكية المتخصصة في نشر الدعاية وترويجها، إذ لم يكتشف فحوى الخبر وحقيقته إلا بعد مرور عدة سنوات. فخبر الأطفال الكويتيين ،ساهم في تأجيج غضب الرأي العام العالمي ضد العراق ،وأثر على مجريات الأحداث، بل دفع بأحد أكبر المنظمات الحقوقية (ونعني بذلك، منظمة العفو الدولية المعروفة باسم امنستي )، إلى نشر الخبر في بياناتها و تقاريرها السنوية، و كأنه حقيقة ، و لم تتدارك الموقف إلا بعد فوات الأوان. إذا كان الجمهور ،حسب سورماني ،هو في حاجة إلى أن يكون موضوعا للمواد الإخبارية الثقافية و أن يقتسم فضاء المعلومة مع الآخرين، فإن المؤسسات الإعلامية في حاجة إلى من يعترف بها ويؤسس وجودها ويجعلها ذات شعبية . فهناك مراكز متخصصة لقياس نسبة المشاهدة أو القراءة أو الاستمتاع، عمليات أمست قابلة للمراقبة العلمية و الضبط وإصدار تقارير تُقيِّم عمل المؤسسات الإعلامية. وظيفة الصحافي مرتبطة بشكل وثيق بكل الأبعاد المذكورة، فدور هذا الأخير، لا يختزل في نقل خبر حول حدث معين لم تحضره فئات عريضة من الجماهير، بل هو عين المشاهد والقارئ، و أذن المستمع في مكان وقوع الحدث. الصحافي هو شاهد كذلك على الحدث ، لكن لا يحق له أن يملي على الجماهير كيف ينبغي عليها أن تفكر أو أن تعبر عن رأي معين ، بل يجب عليه أن يحلل الحدث و يوضح أبعاده العامة في سياقها الشمولي وإبراز خلفيتها، و هذا يتطلب منه بحثا معمقا حول موضوع الواقعة. مهمة الصحافي صعبة و مليئة بالعقبات، و خاصة عندما يواجه أسئلة جوهرية من قبيل: ما ذا يجب علي أن أنقل ؟ وكيف سأنقل الخبر ؟ عملية الانتقاء مشروطة بطبيعة المؤسسة الإعلامية التي تشغِّله ، و أهدافها و أولوياتها و الأمر كذلك ، متعلق بحنكة و توازن الصحافي ، لكن العملية تظل دوما مفعمة بالمزالق و الهفوات. يعلم أهل الاختصاص ، أن الواقع الذي يشتغل فيه الصحافي غير موجود كحقيقة واحدة و كلية، بل هو مصنوع بأيادي و أعين و عواطف وشروط مجتمعية مترابطة . إذن، لا يمكن أن نفهم الخبر بشكل جيد إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار كل العوامل المتداخلة التي تساهم في صناعة الأخبار وبناءها بشكل مباشر أو غير مباشر. فنقل الوقائع يعني بالضرورة، المساهمة في صنعها وتأويلها و إعطائها شكلا ومادة خاصة، مغايرة لشكلها الأولي، وهو الشكل الذي يقدم لأعداد كبيرة من الجماهير التي بدورها تمارس فعل التأويل. والعملية برمتها لا تبتعد عن علاقة تواصلية تربط المرسل بالمرسل إليه. يظل الصحافي في نهاية المطاف شاهد على الأحداث ومؤرخ بصيغة الحاضر، فعندما يقرر انتقاء الخبر قبل نقله و تقديمه في قالب إعلامي للآخرين، يكون له هذا الإمتياز الخاص في سياق الفعل الاجتماعي ،"إنها وظيفة بسيطة، لكنها نبيلة وأساسية في المجتمع الديموقراطي حسب تصور بيير سورماني". * Pierre SORMANY, Le métier de journaliste, Chapitre 1, Ed. Boréal, Québec, Canada, 2000 1- Pierre SORMANY, Ibid 2-Noam, CHOMSKY, Le lavage de cerveau en liberté, le Monde Diplomatique, Août 2007, p.1 محمد نبيل صحافي و باحث مقيم بين برلين وموسكو [email protected]