أعرف أن هذا العنوان سيثيركم وسيستفز معارفكم، وأعرف أنكم تتوسلون الدليل تلو الآخر لتنفوا عن الحلاج مسيحيته، وهذا من حقكم، لكن تعالوا بنا ننظر إلى تاريخه، ولو أن هذا التاريخ غير واضح المعالم في كتابته عن هذه الشخصية التي تم صلبها وقطع أطرافها ثم حرقها ورمي رمادها في مهب الريح منثورا، كما تقول بعض السرديات التاريخية في الفترة العباسية. يروي علي بن أنجب البغدادي، في مستهل كتابه "أخبار الحلاج"، أن الحلاج قال مخاطبا إبراهيم بن فاتك وكان من مريديه: "يا بني، إن بعض الناس يشهدون علي بالكفر، وبعضهم يشهدون لي بالولاية، والذين يشهدون علي بالكفر أحب إلي وإلى الله من الذين يقرون لي بالولاية...لأن الذين يشهدون علي بالكفر تعصبا لدينهم، ومن تعصب لدينه أحب إلى الله ممن أحسن بأحد". تظهر هذه الشهادة الاختلاف الصارخ بين الناس حول شخصية الحلاج، فهو عند بعضهم ولي من الأولياء، وهو عند آخرين كافر، وليس في الأمر وسط قد يكون مسيحيا ما دام هذا النعت (كافر) يوصف به المسيحيون وغيرهم خلال تلك الحقبة الإسلامية. إن الذين درسوا تراث الحلاج يجمعون على أنه كان يحمل أفكارا جذرية ترمي إلى إعادة بناء النسق العقائدي، انطلاقا من عملية مثاقفة تجمع بين ثقافة الشرق الأقصى التي ينحدر منها وبين الثقافة الإسلامية؛ فالمستشرق الفرنسي "لويس ما سينيون LOUIS MASSIGNON" يقول عنه: "أنه أتى بنظرة جديدة للتصوف الإسلامي"، ولم يصرح بمسيحيته بالرغم من أن هذا الأخير كان من الدارسين لسيرته ومؤلفاته الأدبية ذات الحمولة الدينية المخالفة للتراث الإسلامي. إن سيرة الرجل تقول إن الحسين بن منصور الحلاج قد ولد سنة (244 ه / 857 م)، وتوفي سنة (309 ه / 922 م)، ومسقط رأسه كان في البيضاء من مقاطعة فارس، وهي المنطقة نفسها التي ولد فيها "سيبويه" العلامة اللغوي. وعلى الرغم من أنه كان يكن تقديرا كبيرا لأحمد بن حنبل، فإنه لم يتمذهب بأحد المذاهب التي كانت معروفة في زمانه، وهو ما سيؤلب عليه كل الفرق، وربما يعود هذا إلى أنه تتلمذ على أيدي شيوخ مختلفي الأهواء منهم سهل التستري وعمرو المكي والجنيد. يعد الحلاج من القلائل الذين عملوا على نشر أفكارهم وإقناع الناس بها عبر رحلات تبشيرية منظمة بدأها بخرسان وبلاد فارس. وإذا عرفنا أن الفترة التي بدأ خلالها نشاطه الدعوي كانت فترة قلاقل سياسية، إذ يكفي القول بأنه عاصر ثورة الزنوج، أدركنا أن خروجه في حملات للتبشير بأفكاره كان يعني مما يعنيه زعزعة البنى المؤسساتية للدولة التي كان الدين أحد أركانها الرئيسة، وعندما كثف من جهوده في سبيل نشر أفكاره، وأصبح له أتباع في الجهات الأربع للدولة العباسية، ومس استقطابه الأنصار والمريدين موظفين كبارا في الدولة أصبح يشكل خطرا على محيط الخليفة المقتدر. إن نشاطات الحلاج وأفكاره التي تبدو غريبة عن من كان يعتقد أنه أحد المتصوفة، وكما يقول ذلك المستشرق "لويس ماسنيون "LOUIS MASSIGNON، جعلت أحد شيوخ المدرسة الظاهرية واسمه داوود الأصفهاني يصدر فتوى ضد الحلاج، أخضعته للمراقبة الدائمة من طرف الشرطة، ولكنه استطاع الهرب بعد عام والاستقرار في منطقة الأهواز، وفي سنة (301 ه / 914 م) ألقي عليه القبض، فقضى بالسجن ثمانية أعوام في محاكمة أولى، ثم خضع لمحاكمة ثانية حكم عليه عقبها بالإعدام. وإذا كانت قضية إعدام الحلاج قد أثارت تساؤلات كثيرة من لدن الذين عاصروه أو أتوا بعده، فإن ما يثير الاستغراب والدهشة حقا هو الطريقة التي تم بها إعدامه. ويروي المستشرق الفرنسي "لويس ماسينيون"، بناء على ما ورد في مصادر عربية قديمة، كيف تم قتل الحلاج، فيقول على لسان ابنه: "أخذوه إلى الساحة وقطعوا له اليدين والقدمين بعد أن جلدوه خمسمائة جلدة، ثم وضع على الصليب، وبعد مدة جاء أحدهم مبعوثا من الخليفة يبلغ بإذن إنزاله، لكن قيل له أن الوقت تأخر، عند الصباح أتوا به ليقطعوا رأسه، ثم لفت جثته في حصير، صبوا عليها نفطا وأضرموا فيها النار، بعد ذلك حملوا رفاته إلى أعلى المنارة لينثروها في مهب الريح"، كان ذلك في سنة (309 ه / 922 م). لم تكن نهاية الحلاج مفاجئة هكذا، فقد أغرق نفسه في التفكير في الوجود والله، أو بمعنى آخر أغرق نفسه في الحضرة الإلهية كما يقول المتصوفة، وظل لسنين طويلة تواقا إلى "الاستشهاد". كان أستاذه الجنيد، وهو من كبار الصوفية والتي تعتبر طريقته معتبرة بالمغرب ذو المذهب المالكي، قد تنبأ بقتله وعمره لا يتجاوز عشرين سنة؛ فقد صاح في وجهه بعد مناقشة قصيرة: "أية خشبة ستفسدها"، إشارة إلى أنه سيموت مصلوبا. وعلى الرغم من أن الحلاج قتل في بداية القرن الرابع للهجرة، فإنه ظل مثار اختلاف عبر العصور، كما ظل المسيح أيضاً منذ القرن الأول الميلادي سبب اختلاف؛ فقد أعيدت محاكمته عدة مرات من لدن رجال الدين، فصوره الجوزي ساحرا كبيرا، ووصفه ابن تيمية بأنه كائن شيطاني تخدمه الشياطين، و شكل محيي الدين ابن عربي استثناء في حملة تكفير الحلاج، فقد استلهم شخصيته وتجربته في عدة مواقع من "الفتوحات المكية". وفي العصر الحديث، أصبح الحلاج رمزا للتضحية من أجل الفكر الحر وتجسيدا للقمع المسلط على المثقفين، ووظفت سيرته وأفكاره في أعمال أدبية عديدة، من ذلك مسرحية صلاح عبد الصبور الشعرية "مأساة الحلاج". إن ما دفعني إلى اعتبار الحلاج شخصية مسيحية هو ديوانه الشعري "الطواسين"، الذي به أشعار تميل إلى التجربة المسيحية وإلى شخص المسيح، مثلاً شعره الذي يقول فيه: ألاً أخبر أحبائي بأني، ركبت البحر وانكسرت السفينة على دين الصليب يكون موتي، ولا البطحا أريد ولا المدينة وقوله أيضاً: سبحان من أظهر لاهوته، في سنا ناسوته الثاقب/ وعاش بيننا، كمثل الأكل والشارب. وهناك أيضاً قصيدة شعرية يهجو فيها نبي الإسلام بعنوان "دلال يا محمد"، مما يثبت عدم إيمانه بالإسلام في آخر حياته، وتحوله إلى المسيحية، وهذا ما لا تجرؤ على الاعتراف به السرديات التاريخية التي ترجع إلى القرن الرابع الهجري من الحكم العباسي، خوفا من خلق اضطرابات دينية كانت الفترة العباسية في منأى عنها، نظراً لضعفها السياسي، وقيام سلطتها باسم الدين. *باحث في مقارنة الأديان، عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية (MADA)