تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال (بوريطة)    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟        عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"ثورة" حسن أوريد.. رسالة إلى المثقفين
نشر في هسبريس يوم 03 - 04 - 2018

"التوبة قلب دولة، تقلب دولة نفسك وهواك" عبد القادر الجيلاني
يخرج الحديث عن المثقفين في هذا المكتوب مخرج الغالب حتى لا نسقط في التعميم، الذي يُعدّ أقصر طريق نحو الهزيمة؛ فنقول: إن بيئة المثقفين لحقتها أعطاب لوثتها وكدرت صفاءها، وعزلت المثقفين عن الجماهير التي يكيلون لها المديح في كتاباتهم مجاملة وتملقا، مثقفون يعتبرون كل شيء موضوعا للتغيير إلا أنفسهم، لا يتزحزحون عن مواقفهم قيد أنملة، متسلحين بوثوقية ترقى إلى درجة "عصمة الأنبياء"، لا مكان بتاتا لما هو مطلق في بنيتهم الفكرية والعقائدية، يتبنون نسبية متطرفة فلا يرون الحق مع أي كان، يحسِبون أنهم يحرسون الأفكار، ولم يبعد علي حرب عن الصواب عندما حمل تلك الحراسة على معنى "التعلق بالفكرة كما لو أنها أقنومُ يقدَّس أو وثن يُعبد". ومن ذات المفهوم الخاطئ ينطلق أصحاب القراءات الحرفية والجامدة للنصوص الإسلامية التأسيسية، فيُكَدِّسون النقول، ويقل لديهم الفهم وتنتكس الإرادة، ويخرجون على المجتمع مُكفِّرين ومكفهرين، كما جلى الدكتور عبد الإله بلقزيز بعضا من أعطاب النخبة في مقالة له بعنوان "في أمراض المثقفين"، فبدأ بذكر أصنافهم، منبها على أن فيهم "مثقفين متسوّلين وعتّالين كما أن فيهم متْرَفين مرتاحين"، و"أن بضاعتهم المعرفية والثقافية التي تَبَضَّعوها من الكتب والنظريات إنما هي برسم خدمةٍ أخرى غير إعمار مجال الثقافة بالقيم التي تناسب المجتمع وتدلُّ عليه" تلك الخدمة هي "التَّقَرُّبَ إلى ذوي السلطان والمال والتقلُّب من حال ومداهنة مشاعر الناس في نفس الآن"، وأن "في مجتمع المثقفين ما يُقرِف: الأنانية والطاووسية التي تَبْلُغ حدَّ الكِبْر والاستعلاء؛ السادية الافتراسية التي تنهش في الآخر وتتلذذ بقتله والمُثْلَةِ به؛ العدمية العمياء التي تَجُبُّ ما قد مضى وزَامَنَ وتتخيل التاريخ يبدأ من حيث هي تبدأ"، وفي الأخير نادى بلقزيز بضرورة القيام "بوقفة مليَّة يُطِل بها المثقفون على عمرانهم الخَرِب، فَيَسْعَوْنَ سَعْيَ صدقٍ في تنظيفه من أسلحتهم وآثار حروبهم، كي يعيدوا تأثيثه بالمعنى بعد أن انتحر المعنى أو نَحَرُوه"، وبالإمساك بخيط المعنى لا تصير الأفكار – يقول علي حرب- مجرد "شعارات ينبغي الدفاع عنها، أو مقولات صحيحة ينبغي تطبيقها، بقدر ما هي أدوات لفهم الحدث وتشخيص الواقع. إنها حيلنا في التعقّل والتدبّر، للحياة والوجود، باجتراح القدرات التي تتيح لنا أن نتحول عما نحن عليه، عبر تحويل علاقتنا بالأشياء أو بِنَسْج علاقات مغايرة مع الحقيقة. وبقدر ما ننجح في تغيير أنفسنا وواقعنا، تتغير أفكارنا ذاتها، ذلك أن ما نصبو إليه أو ما نصير إليه يتغير بقدر ما نتغير نحن بالذات".
ومن المثقفين القلائل الذين كانت لهم الجرأة والشجاعة الكافية لإحداث الانتقال التاريخي من "اللامعنى" إلى "المعنى" الدكتور حسن أوريد الذي ضَمَّن تفاصيل ذلك الانتقال في كتابه "رَواءُ مكَّة" الذي خصصه للحديث عن "الانقلاب" الذي حدث له في الأفكار والرؤى والقناعات والتصورات والتصرفات خلال موسم الحج عام 2007، كان الرجل مترددا بين أمرين: هل سيستمر في نهجه القديم يوم كان "يرفض الحج ويتندر بشؤونه" أو يحدث التحول التاريخي المطلوب والذي تذكَر فحواه يوم زار لبنان وقرأ "تلك المقولة في دير الراهبة حريصا: لا ترحل عن هذا المكان إلى أن تتحول"، واكتشف مقابلا لمقولة الدير في إحدى حكم ابن عطاء الله السكندري (لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحى يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المُكَوِّن (وأن إلى ربك المنتهى) وتساءل: "ما جدوى أن أحج إلى مكة وأزور المدينة إن لم أتحول".
استطاع الدكتور أوريد أن يقتحم العقبات النفسية والسلوكية التي حالت دون قيام الكثير من المثقفين بمراجعات وتراجعات حقيقية، لأن البعض قام بتحولات وهمية لم تكن تعني أكثر من تغيير المواقع والرقص على الحبال وتملُّق "المخزون النفسي للجماهير" و"إحياء التراث". أوثان عديدة تنتصب في قلوب وعقول الكثير من المثقفين استطاع حسن أوريد بتحوله أن يُحَطِّمها، وبالإمكان تجلية معالم ذلك التحول بالحديث عما كانت عليه الرؤية قبلُ وعما أصبحت عليه بعدُ.
المعلم الأول: التحول في النظرة إلى الإسلام وشعائره
فقبلُ كان يرى "(الإسلام) إصرا ليس علي وحدي فحسب بل على المجتمع كله"، وكانت أشياء كثيرة تشُدُّه إلى حياته الماضية "مُتع وحُظوة وسراب"، وقال عن مسرى تلك الحياة الماضية: "التقيت بكثير من الرؤى التي اعتورت طفولتي: الاشتراكية، القومية العربية، الحركة الأمازيغية". وبعدُ، أثناء تأدية مناسك الحج رصد "ذبذبات تحول إلى أن وقع ذلك الشعور العجيب بفناء المسجد الحرام وقد فرغت من طواف الإفاضة ومن السعي ووقع التحول في آخر لحظة.. وليس لدي وسيلة للتدليل العقلي لما وقع فلست أستطيع أن أتحدث عن تجليات ما وقع، أما ما وقع فهو نور يقذفه الله في قلب المؤمن ..هو مسألة لا تدرك إلا بالذوق ولذلك أنا عاجز عن التعبير عنها"، وأصبح يعتقد بأن "الإسلام دعوة للعدل ولذلك لا يمكن أن يكون استكانة للظلم ورضوخا للاستبداد وعبادة الأصنام وتبعا للسحرة، وأنه "لو فصلنا الإسلام عن قضايا الناس لأصبح طقوسا بلا معنى ولأضحى رهينة"، وأن "ليس الخلاص في الإسلام خلاصا فرديا"، ولم يعد ينظر "إلى الحركة الإسلامية كجسد أشرحه كما يفعل عالم الاحياء أنا وهم جزء من الجسد لا أتعامل مع الحركة الإسلامية كمادة ولكن كجزء من جسم"، وهو يتحول لا يتوقف عن محاورة ذاته، ومخاطبة نفسه التي تراوده كي ينقلب على الأعقاب "كيف تذهب إلى النبع القُراح الذي كَرَعْت منه معنى الوجود والكرامة وتشوبُه بقذى اللذة والمُتع، و"ستتسلح كلما داهمك نداء النفس وإغراء الهوى بالصبر والصلاة"، وصحبة خير الأنام "ذاك اليتيم الذي هزأ به صناديد قريش ذلك الفتى ذاك الأمين أضحى رفيقي ومستشاري بل القائد الأعلى الذي أأتمر به".
المعلم الثاني: التحول في النظرة إلى موقع العقل
بشيء من التلبيس والتدليس تريد بعض النخب أن تخلِط الجماهير المتعلمة بين العقلانية الفلسفية التجريدية والعقلانية العلمية العملية المرتبطة بالتجربة، ويوم لم يتبين أوريد الفرق بين العقلانيتين قال: "ملَّكتُ عقلي أمور حياتي أصبحتُ عبدا للذة أأتمر بأمرها"، و"كنت مُقْمَحا رافع الرأس أأبى أن أنحني مُعتدّا بعقلي ووضعي". وبعد التحول، ولاجتناب الوقوع فريسة لذلك التلبيس تساءل أوريد "هل يمكن أن تُصرفَ الحياة بالعقل وحده"، وانتهى إلى جعل "العقل صاحبا لاسيدا".
المعلم الثالث: التحول في السلوك
التصور هو عنوان التصرف، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، والعقيدة، أية عقيدة، تحدد طبيعة السلوك، فقبل أن يتحول كان "ينقع الكأس ويرفعها تمردا لا نشوة أو لذة"، وكان يعتقد أن "ما ورثته يعوقني نحو التحرر وأنا محتاج لعقلي لأفهم العالم لأتمرد على الظلم"، وبعدُ تساءل "هل كسرت الأغلال كلها، أنسيت أوثق الأغلال وأسوأها الهوى ألم تكن فيما تصدر فيما كنت تفعل عن هوى؛ هوى النفس ألم تكن تريد حسن الذكر وجميل الأحدوثة بل غلب علي الهوى ولذلك أنا مقبل لأتطهر"، وبينما كان في الحج "متكأ على عمود من أعمدة المسجد في هدوء وسكينة حينما بدر من نفسي نداء كما لو هو يجيب على دعوة النفس والهوى كل ذلك متع عابرة كلها تنال منك وتحيلك حطاما هل ترضى بذلك".
المعلم الرابع: التحول في النظر إلى الغرب
لتعزيز التصور والتصرف يبحث الإنسان عن النماذج والقدوات، قبلُ وجد أوريد بغيته في "الغرب" "كان الغرب إمامي ومُتَع الحياة أنِيسي"، و"عدت لكتابات العبث لسارتر وكامو أقرؤها من جديد وجدت فيها ضالتي"، وعلى عتبة التحول تساءل: "لم أقيم في بيت ليس لي؛ بيت الغرب بمنظومته الفكرية بمرجعيته بأسلوب حياته ولكن البيت الذي أويت إليه يضيق علي فبنود العقد تضيق كل يوم، ورب البيت لا يحترمها يدعو لحقوق الإنسان ويغتالها يطالب بالحرية ويمالى الاستبداد"، ولذلك: "كانت هناك إشراقات تغري بأن أعود إلى بيتي الأول بيتي الذي سمعت فيه صوت القرآن يتلى من الفجر يصدح به والدي وفيما ناغتني به والدتي من أشعار أمازيغية في مدح الرسول عليه أزكى الصلاة والسلام"، وخَلُص إلى الحسم "الغرب سراب والمتغربون أعجاز نخل خاوية يُحبُّون الدنيا ومفاتنها ولا يقوون على شيء"، ولم ينس ذكر أفضال النموذج الفطري الأول "هي (جدتي) معيني الأول من نبع الإسلام هي التي سقتني قيمه وعدت إليه بعد مهامهة وكدح"، ثم أمي التي لم تقابل بين الإسلام والأمازيغية قط"، جدة وأم، أي أسرة يراد اليوم تفكيكها وتفتيتها بلغة الحقوق القريبة جدا من العقوق.
المعلم الخامس: التحول في النظر إلى طبيعة المخزن والحكم
لم يكن أوريد قريبا فحسب من دوائر صنع القرار بل كان جزءا منها "ارتضيت حياة الجاه والسلطان، وخلتني جزءا من منظومة"، كل ذلك لم يشفع له عندما أزفت ساعة الرحيل، رحيل مُدَبَّر للتخلص من رجل يكثر من توجيه الأسئلة إلى الذات وللأغيار، وعلى نحو مهين "قوبلت بالإهانة في مسرى عملي كوال بمكناس"، ولم يذكر - في سياق تبيين الأسباب- "من روح القوانين لمونتسكيو إلا نتفا عن الحكم الفردي وكيف أن الملكيات تغور في الاستبداد كما يصب النهر في البحر، ولكني مذاد عن كتبي مذاد عنها لأن مكتبتي أضحت تحفا وليس رفقة أستأنس بها، ولأني لقد قرأت كتبا كثيرة ولم أعها، فهل أعي الآن وقد نطق لسان الحال هل كنت أستطيع أن أدرك فحوى الآية الكريمة (إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى) وهل كنت لأدرك تتمتها (إن إلى ربك الرجعى) كانت بذهني غشاوة لأنفذ إلى ذلك كله"، لكن فراسته لم تخطئ أثر "تخرصات حكم نظر عابر وصدى وشايات"، واقتضى الأمر منه صراعا مريرا، وجهدا جهيدا لتحطيم وثني الجاه والمال "هل أرضى بوضع راتب مريح وامتيازات ثم تذوي همة الإنسان ويذهب معها العمر أأرضى باللقب وهو اللقب الذي لا يعني شيئا لأنه بلا أدوات عمل أم أن علي أن أقتحم العقبة"، ولأنه اكتفى بالكناية دون التصريح فقد التمس العذر من القارئ "لقد وعدت أن أبوح ولكني لا أستطيع، لطفك أيها القارئ اعذرني إن أنا كتمت ففي الإشارة ما يعني عن العبارة"، وفي الأخير استشعر الرجل حكمة الله لما تهاوت من قلبه أصنام الجاه والمال والغَرب والمنصب، لأنه لو كان مقيدا بكل ذلك ما كان له أن يتابع تحولات "الربيع العربي" قبل أن يُحيله الغرب وصنائعه المستبدون والطائفيون إلى خريف، ليختم أوريد حكاية تحوله بالقول : " علينا أن نحيى لنرعى هذا الغرس (أي الشباب) من أجله نحيى إلا أن يتخطفنا الموت".
وبعد، هل يتعلق الأمر "بانتشاء" أحد "الإسلاميين" ب"توبة" أحد "العلمانيين"؟ أو بعملية "تبشير" وسط جمهور المثقفين لكي يحذوا حذوه من غير حاجة للمرور بمكة ولا بالمدينة؟ إن الأمر لا يتعلق بهذا ولا بذاك، إنما الذي يُلفت الانتباه في تجربة أوريد القدرة على امتلاك الموقف، ومعاكسة التيار الغالب، والانفلات من كماشة "العولمة الثقافية" التي تضرب بخصوصيات الشعوب عُرض الحائط، ومجافاة لغة الخشب التي تتصنع الحياد ولا تمتلك أي موقف، وتعادي الاختيارات العقدية والدينية للأغلبية عاملة بشعار "تغليب الأقليات لإخراس الأغلبية"، وتتحاشى إثارة الأسئلة الوجودية الكبرى المتعلقة بمغزى الحياة والممات:
قال المنجم والطبيب كلاهما ////////// لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر////////// أو صح قولي فالخسار عليكما
تلك الأسئلة قدَّم لها الإسلام آخر الإجابات، ولم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أكمل التبليغ، وأفلح في أداء وظائف التزكية والتعليم فخلف وراءه رجالا ونساء تمثلوا رسالته واتخذوه مثالا وقدوة، يُعتبرون اليوم سلفا لمليار ونصف من المسلمين العرب والأتراك والفرس والأكراد والهنود والأمازيغ والزنوج والشركس...يتقاسمون بينهم قناعة راسخة وهي أنهم عباد مخلوقون لله، وأنهم مكلفون وميتون ومقبورون ومحاسبون ومجزيون على أعمالهم يوم يقوم الناس لرب العالمين، إن خيرا فخير وإن شرا فشر (بإمكان من لا يوافقنا أن يستقطع دقائق من وقت قراءة هذا المقال ليستلقي على ظهره ضحكا وتندرا بالتفكير الخرافي الماضوي الرجعي والظلامي.. لا حرج)، وإن إحجام الكثير من المثقفين المسلمين بالوراثة عن تبني الإجابات الإسلامية عن الأسئلة الوجودية إلى اعتقادهم بأن ذلك التبني يسقطهم في "فخ اللغة المشتركة" مع "الإسلاميين"، ويُظهرهم بمظهر "المنهزم" في مواجهة فكرية وثقافية حامية الوطيس، فيلجؤون نكاية فيهم إلى إنكار قطعيات الدين لا إلى إنكار أفهامهم وتأويلاتهم، ومما يُسهم في تسطيح الفهم التناول الإعلامي المتسرع لقضايا فكرية وعقائدية تحتاج إلى مطارحات وتدقيق نظر، وطول نفس.
المثقف والتحول والتصوف
لماذا يجد بعض المثقفين– بعد مراجعات وتراجعات- ضالتهم في التصوف ذي الصبغة الانعزالية؟
ولقد شكل التصوف رافدا من روافد الإجابة الإسلامية الكبرى عن الأسئلة الوجودية، واختلفت الآراء وتضاربت المواقف حوله قديما وحديثا فوجد الرافض له بإطلاق، ووجد القابل له بإطلاق، ووجد الرافض له من وجه القابل له من وجه آخر، "فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا إنهم مبتدعون خارجون عن السنة (...). وطائفة غَلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، وكِلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده. وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين. وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيُخطئ، وفيهم من يذنبُ فيتوب أو لا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه.(...) فهذا أصل التصوف" (ابن تيمية، الفتاوي ج 10 ص 18- 19).
مِطبات اللغة
وارتبط كثير من الاختلاف حول التصوف باللغة، سواء من حيث تسمية "التصوف" نفسها، أو من حيث التعابير التي يفصح بها المنتسبون إليه عن مشاعرهم وأفكارهم، ولقد استُحدثت في تاريخنا عدة مصطلحات شكلت متاريس مفهومية حالت دون النفاد إلى حقيقة ولب كثير من العلوم، ومنها مصطلح "التصوف"، والمعروف أن الخلاف التاريخي الذي استحكم بين الفقهاء والمتصوفة من أهم أسبابه "جناية المصطلحات" وهو ما أكده الإمام السيوطي بقوله: "واعلم أن دقائق علم التصوف لو عرضت معانيها على الفقهاء بالعبارة التي ألفوها في علومهم لاستحسنوها كل الاستحسان، وكانوا أول قائل بها، وإنما ينفرهم منها إيرادها بعبارة مستغربة لم يألفوها"، هذا بالإضافة إلى جناية أخرى خطيرة وهي جناية "التعميم" أي مؤاخذة الكثرة بجرائر القلة، والغفلة عما يوجد عند المخالفين من حق يقتضي الإنصافُ الاعترافَ به لتحقيق التواصل بين مختلف طوائف ومذاهب وفرق وأحزاب الأمة، ونتيجة لآفة "التعميم" حدث أن كُفِّر أهل السنة جميعُهم لأنه وُجد من بينهم نواصب ومنحرفين عن أهل البيت، وكُفر الشيعة جميعهم لأن من بينهم روافض يسبون الصحابة، وكفر المتصوفة جميعهم لأن من بينهم الممخرقين والقائلين بالاتحاد والحلول والتعطيل وأصحاب الشطحات.
والانحراف الذي طال اللغة التي عبر بها بعض المتصوفة عن المواجيد القلبية، المعاني التي يرومونها هو "الشطح"، وقد قال أبو حامد الغزالي في تعريفه: "الشطح نَعْنِي به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية، أحدُهما الدعاوي الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المُغني عن الأعمال الظاهرة، حتى ينتهِي قوم إلى دعوَى الاتحادِ وارتفاعِ الحجابِ والمشاهدةِ بالرؤية والمشافهة بالخطاب. فيقولون: قيل لنا كذا، وقلنا كذا، ويتشبَّهون بالحلاج الذي صُلِبَ لأجل إطلاقِه كلماتٍ من هذا الجنسِ، ويستشهدون بقوله: أنا الحق، وبما حُكِي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: سبحاني سبحاني(...) الصنف الثاني من الشطح كلماتٌ غير مفهومة، لها ظواهر رَائِقَةٌ، وفيها عبارات هائلة، وليس وراءَها طائل(...) ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يُشَوِّشُ القلوب، ويُدهش العقول، ويحيِّرُ الأذهان" (الغزالي، إحياء علوم الدين، 1/39)، ولزجر المُعجبين بهذه الشطحات قال الإمام الرفاعي: "أي سادة! تقولون: قال الحرث! قال أبو يزيد! قال الحلاج! ما كان الحال قبل هذه الكلمات؟! قولوا: قال الشافعي، قال مالك، قال أحمد، قال نعمان. صححوا المعاملات البَيْنِيَّة، وبعدها تفكهوا بالمقالات الزائدة. قال الحرث وأبو يزيد لا ينقص ولا يزيد! وقال الشافعي ومالك أنجح الطرق وأقرب المسالك. صححوا دعائم الشريعة بالعلم والعمل وبعدها ارفعوا الهمة للغوامض من أحكام العلم وحكم العمل...لا أقول لكم: تفلسفوا، ولكن أقول لكم : تفقهوا؛ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" (الرفاعي، البرهان المؤيد، ص 86- 87) .
ولذلك أحجم البعض عن استعمال مصطلح "التصوف" منهم الأستاذ عبد السلام ياسين الذي لم يكن يريد – في سياق بسط مشروعه- إثارة معركة حول الأسماء فقال: " لست أدعو إلى التصوف، ولا أحب الاِسم والشكل لأني لا أجدهما في كتاب الله وسنة رسوله" (عبد السلام ياسين، الإحسان 1/23)، ويستعيض عنه بالمصطلح النبوي "الإحسان"، فالتصوف الحقيقي والخالص من الزوائد البدعية والتعصبية ليس شيئا غير مجاهدة النفس للترقي في مدارج الإيمان والسعي إلى تحصيل المرتبة الثالثة في الدين: مرتبة "الإحسان" التي هي "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وذلك السعي يتطلب حركة جماعية مقتحمة هاجمة على الواقع بأدوات الوقت، يحدو أفرادها تحقيق خلاصين اثنين: خلاص فردي يهم الفرد، وخلاص جماعي يهم الأمة والمجتمع.
التصوف بين التبرك والسلوك
إن تطورا خطيرا وقع آل بمعاني الإحسان والتطهر والتزكية إلى نوع من "تصوف الرسم" كما سماه ابن تيمية، ويقصد بصوفية الرسم المتشبهين والمتبركين والمنتسبين بالآداب واللباس والزي فقط، وهذا هو التصوف الذي تريد الكثير من الدول الإسلامية نشره والترويج له، أي التصوف التبركي المنعزل عن الاهتمام بالشأن العام للناس، والمزكي بإطلاق لسياسات الحاكمين وإن خالفت الشريعة والحقيقة، وهو تصوف أوصى كذلك معهد "راند" الأمريكي في أحد تقاريره بإشاعته ودعم طُرقه في إطار الحرب على الإرهاب وقطع الطريق على حركات الإحياء الإسلامي الجادة، وفي جانب آخر تَضخُّم سياسي بدعوى القيام بواجبات التحرك السياسي، والتكوين الفكري، والتفرغ التنظيمي "مما ردَّ التربية الروحية ردا، وهدها هدّا، فعَسُر على القيادات القائمة بتلك الواجبات الجمع بين الجهاد العملي اليومي المتشعب القضايا وبين التطلع الدائم للملإ الأعلى والتخلق السامي بأخلاق أهل الله (الإحسان 1/242)، وبذلك آل الأمر إلى "تسطيح الإسلام" والحديث عنه كبديل من البدائل الثقافية والحضارية والاقتصادية والاكتفاء بالكلام العام عن التقوى ومجالس الإيمان وتربية الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع، أي مجرد "إسلام سياسي" لا إسلام القرآن والسنة حيث "تلتحم العقيدة والشريعة، الرحمة بالحكمة، السلوك إلى اللّه تعالى بالسلوك في الناس، الأخلاق بالنشاط في الأرض" (عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج) وتُفضي إلى وجود مؤمن ذي قلب مع الله، مفعم بالمحبة لمخلوقات الله جميعا، ويد تعمل في البيئة الملوثة تصلحها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.