منذ الإستقلال والمغرب يدأب في مسيرة موفقة - وإن لم تخل من عقبات وصراعات وتعثرات - هدفها إقامة دولة القانون. قانون توضحت إلى حد بعيد أصوله وفروعه وحذافير فصوله وفي نفس الوقت أوجه قصوره. نعلم اليوم أن المشرع الرسمي لهاته القوانين هو البرلمان أو من يقوم مقامه في الحالات الإستثنائية تحت رعاية ورقابة الملك. والمؤسسة القضائية (بما فيها المحكمة الدستورية) هي المختصة بحق تأويل معنى هاته الفصول التي ليست من نوع القوانين الرياضية أو الفيزيائية التي لا يختلف على شرحها عالمان إثنان، بل هي مجرد كلمات وعبارات لغوية قد يفهمها المحامي بشكل مختلف عن فهم وكيل الملك. لقد حل هذا النظام الجديد محل الوصاية الفرنسية ورسم كذلك قطيعة مع نظام الحكم والتشريع قبل الحماية. والتطور من طبيعة هذا النظام. فهو عبارة عن منظومة حية همها التماشى مع حاجياتنا كأحياء متنوعين نتعايش معا في إطار دولة دون تقييد أنفسنا بما كان صالحا لأجدادنا في أزمنتهم. فمغرب اليوم يتخلى عن بعض القوانين التي لم تعد صالحة لظروف العصر حيث يقترح ويناقش كل من أحزابه وجمعياته ومواطنيه قوانين جديدة تتماشى مع مصلحة الأغلبية (ولو كانت مؤقتة) مع مراعات مصالح المعارضة التي غالبا ما تنطلق من دفاعها عن مصالح أقلية أو أقليات، هي كذلك مؤقتة، في ظل التناوب على السلطة عن طريق الإنتخابات. فالأخذ بعين الإعتبار لمصلحة الأغلبية دون سحق الأقلية، مع ضمان حقها في الإحتجاج بطرق سلمية، مبدأ أساسي لنظام المغرب الجديد. ولا حاجة لنا في ظل هذا النظام لما يسمى الإجماع بل نكتفي بما قرره ممثلونا من نصاب ومن أغلية، إما مطلقة أو نسبية، لأننا نعلم مسبقا أن لكل منا، كناخبين أو منتخَبين، مصالح غالبا ما تكون متناقضة مع مصالح فئات أخرى من المواطنين. فتجاوز فكرة الإجماع إكتساب رائع لأصل ومبدإ لم يكن سلفنا قد انتبه لأهميته. ظل يعتقد أن تحقيق الوئام والسلام والأخوة بين البشر لا يمكن ضمانه سوى تحت غطاء ما يدعى الإجماع الذي نعلم اليوم أنه مجرد أُمْنِيَّة غير واقعية. لقد أسهمت برأيي النظري على موقع هسبرس قبل أسبوع في شأن قضية الميراث واقترحت حلا لعُقَد التقدميين المغاربة الذين لا يرومون الصدق لما يتعلق الأمر بتشخيص وتسمية قيودهم المشتركة مع كل الفقهاء سواء نعتناهم بالرجعيين أو بالوسطيين أو بالإصلاحيين. لقد بينت، على ما أعتقد، أن حدود الله بالمصحف هي التي ترسم لهم جميعا حيزا فكريا ضيقا لأنه ليس بمقدور أي بشر مثلنا سواء سمي بالشاطبي أو بالجابري أن يعلم ما هي مقاصد المُشَرِّع الأول للشريعة الإسلامية بعدما قرر وضع حد لعهد الأنبياء والرسل. منذ ذلك الحين وبنو جلدتنا مطالبون بالتواضع ليتحدثوا بإسمهم الخاص وليس باسم الله ومقاصده. فمهما طالت دراساتنا للفقه والشريعة والبلاغة ولكل كتب التراث، لن نرق أبدا لمعرفة المطلق بل سنبقى إلى الأبد مقيدين بلغة أو بلغات بشرية حمالة لأوجه ومعبرة عن مصالح ظرفية. فلنتحدث إذن باسم مصالحنا الشخصية مع مراعات مصالح المواطنين حولنا وكذا الشعوب المختلفة عنا. هذا كل ما بوسعي فعله في الفقرات التالية التي أقدم بها اقتراحان أتمنى أن أسهم من خلالهما في فتح نقاش بناء. أمير كل المواطنين قبل التطرق لثورة الميراث الحاسمة أود اقتراح تغيير رمزي أولي ألهمني إياه مقال نشر على موقع هسبريس ترافقه صورة التقطت بمدينة باريس لعاهل المغرب محمد السادس بجانبه حاخام يهودي. لقد شرحت هسبريس بهذا المقال أن إمارة المومنين تشمل، كما هو معلوم، ملة اليهود ودين الإسلام (“حامي حمى الملة والدين” كما نص على ذلك دستور 2011). تساءلتُ : ما المانع يا ترى من وصف أدق وأوسع لصلاحيات ملك المغرب بأيامنا هاته ؟ فهو “أمير كل المواطنين”، المومنين منهم وغير المومنين، لأن حكمه وأوامره تشمل كل المغاربة بغض النظر عن إيمانهم أو غيابه. فمفهوم المواطنة، المواكب لمفهوم الدولة الحديثة، لم يعد مقتصرا على اليهود والمسلمين أو الموحدين من النصارى والصابئين... بل تعداهم ليشمل برعاية الملك كلا من المتأرجحين بين الإيمان والشك وكذا الذين لا يومنون البتة. المناصفة في الميراث وأخيرا أقدم للقراء مقترحا عمليا من شأن مناقشته أن تسهم في فتح المجال وتسهيله لتكريس المساواة بين المغربية والمغربي في حقوقهما وواجباتهما السياسية والمعنوية كي تشمل بعدها ولا شك ميادين مادية لباقي الميراث. نعلم أن دستور 2011 ينص بفصله الثالث وأربعون على أن عرش المغرب وحقوقه الدستورية تنتقل بالوراثة إلى الولد الأكبر سنا. لقد ضَمَن هذا التقليد ويضمن بالفعل إستقرارا تميز به المغرب منذ أجيال خلت. إضافة لهاته القناعة أعتقد أنه من واجب جيلنا أن يهيء الساحة والرأي العام لكي يتجاوز مغاربة الغد هذا التقليد الذي يكرس على أعلى مستوى المملكة فرقا بين الذكر والأنثى. أعتقد أن أغلبية المغاربة الذين حظوا بتعليم عصري احتفظ به المغرب ثم وسع رقعته منذ انتهاء عهد الحماية، أن هؤلاء المغاربة فهموا، بل عايشوا عن كثب، أن أخواتهم وأمهاتهم وبناتهم لسن أقل شأنا من إخوانهم أو آباءهم أو أبناءهم وأنهن يتحملن بكل مسؤولية وبكفاءة أعباء الأسرة والمدرسة والشغل بمجالات شتى لم تعد حكرا للذكور. نعم، يمكن لكل المغاربة أن يفتخروا بأمهاتهم وبأخواتهم وببناتهم وبما حققه المغرب لحد الآن من تقويم للحيف الذي كان يطال نصفنا اللطيف الذي نعلم أنه يحمل بأرحامه ثم يرعى ويربي النصفين معا : الذكر والأنثى، دون إقصاء الخنثى من بني جنسنا. فالمناصفة التي يدأب المغرب في طريق تحقيقها هدف نبيل يكرم أبناء وبنات المغرب على حد سواء ولا يفرق بينهما بل يُأهلهما لتعايش أفضل ملؤه الإحتام والتقدير والمحبة والأخوة. ولنكن صريحين مع أنفسنا : إن كانت هاته المعادلة والمناصفة من مقاصدنا اليوم لغد أفضل، فإنها لم تكن أبدا من مقاصد المصحف ولا السنة. فلا حاجة لنكذب على أنفسنا وعلى المصحف والأجداد. أعتقد أن مغرب الغد سيكون بفضل هذا مهيئا فكريا ونفسيا لأن تعلو عرشه ملكة تقوم مقامها وتنهض بمهماته مثلما نهض بها ملوك المغرب لحد الآن. هذان هما الإقتراحان الإثنان لتوطئة الأرضية التي ستسمح، حسب قناعتي، بإيجاد حل لقضيتان مطروحتان على الساحة العمومية : حرية الإعتقاد والعقيدة والفكر وتساوي حظ المواطنات والمواطنين في الميراث. أعتقد أن واقع المغربيات والمغاربة ووعيهم أفضل وأكثر تقدما مما هو عليه حال القوانين التي اكتسبوها وطوروها لحد الآن وأتمنى ألا أكون أكثر تفاؤلا من اللازم .