ككل البدايات التي تكون استثنائية من أوّل الضّوء إلى آخر النّبع البعيد، كان هذا الفنان شديد الإحساس، يرسّخ تعلقه بالأنغام ويشتبك في نفثة واحدة مع حمامته البيضاءتطوان، سليلة الفن والأصالة وخزانة البهاء، ليحلّقا معا بالاسم والمعنى وليصير بعدها قطباً فنياً، بل والمكان وبعض تجلياته. بحومة الجامع الكبير، بدأت رحلة الطفولة صوب حروف المسيد ورائحة الصلصال، ثم المدرسة الأهلية، وفي روحه راية من الجمال تتطلّع إلى خطى المقامات والألحان وتغذي ذاكرته وذائقته بأغصان الإنشاد وحلقات الذّكر، بعدما شرب من بئر الصفاء لوالديه، أحمد شقارة والسعدية الحراق، مفردات الموسيقى الأندلسية، ثم أصول المديح والسماع والعزف بزاوية أجداده، فسحته الدائمة والأبدية. لم يكن الراحل عبد الصادق اشقارة (1931/1998)، إلا شلالات تتوقّد موسيقى، تفتح الأغنية على مخزون هائل، وتشكّل في جريانها المترامي مجرى النّهر، فكان للفنان وعلى نحو خاص عميق الأثر في النسيج الاجتماعي، حيث اختطّ لنفسه منهجا ومدرسة وهويّة فنّية. في نظرات الفنان النّافذة والهادئة، نكتشف وصلات الدّاخل التي تحفظ له مكانا أثيراً مع فرسان الفن والولوعين وتحقق انسجامه الروحي، هو الذي رأينا قلبه في كل أعماله، يعانق به الأفق الإنساني ويرتقي بفواصل الأعماق. انشغل الفنان الذي رفد موهبته بحسّ الإصغاء، وتمرّس على أيدي فنانين كبار منذ سنة 1947: العياشي الوركلي، العربي الغازي وأحمد الدريدب، فضلا عن عَلمَيْ الموسيقى الأندلسية مولاي أحمد الوكيلي وعبد الكريم الرايس، (انشغل) بانعطافات فسيحة تتكئ على الموروث، معيداً بخطواته مكانة التراث الموسيقي، إضافة إلى تأصيله لمشروعه الفني، وخاصة في جانب الأغنية الشعبية بمنطقة الشمال التي شكّلت جوهر تجربته، والذي رأى فيه نسيجاً مرهفاً وامتلك فيه انعطافاً وتفوّقاً، مقدما ذخائر لا تعدّ. فلحّن وألّف وأنشد مقطوعات، ظلّت ساكنة في أوتار القلوب تصدح بها حناجر الأجيال، بعدما أبان عن موهبة فذّة وعالية، تتكامل وتتوازن بالتّوهج والجاذبيّة. فبين مدارس: الموسيقى الأندلسية والأغنية الشعبية والقصائد الكلاسيكية التطوانية والحضرة الصوفية، تفتقت عبقرية الفنان اشقارة، بكل ما تختزنه من إيقاعات أخّاذة وقريحة واسعة وذائقة رفيعة وصوت عذب له القدرة على النفاذ والتصاعد بالمقامات هنا وهناك واستدعاء الأذن قبل العين، حيث قدّم روائع من الأغاني ضمن قالب أصيل، فتتحوّل فيها ومعها ذبذبات النّفوس إلى جمرات من العواطف والأشجان. ما زلت وما زال غيري يستحضر ألحان الفنان وطريقته الباهرة والشفّافة في العزف على الكمان التي جعلته منفرداً ينتقل بين الألحان والأنغام والطّبوع بدقة متناهية، وكأنه يقدّم لنا قطعة نفيسة وغالية منه، لأنه ببساطة كان وفياً لفنّه ولمستمعيه تجتذبه الأعالي، مما جعله جسراً متطلعاً نحو الأفق يحظى بتقدير فنانين إسبان مرموقين، فعانقت الضفتين أمطاره، واستحضرت خيمة الأندلس وسحر الثقافتين. بين أغاني: "الحبيبة وجرحتيني"، "بنت بلادي"، "يا حْبيبْ القلب"، "المولوعة"، "حبّك القمر بكمالو"، "أنا ديني دين الله"، "كلي في وجودك"، "لمّا بدا منك القبول"، "الزّين الواضح"، "الغْرام ماعندو ادْوَا"، "الشمعة"، "أمن ضامو الزمان"... وغيرها كثير من الأعمال التي أضفى عليها حيويّة وروحاً نديّة وحقّقت تراكماً بحجم الينابيع، ظل الفنان اشقارة في مقامه الذي ارتضاه لنفسه ولجمهوره، دون أن يعزل نفسه عن القيمة الإبداعية، هو الذي تنفّس الفنّ ولم يجعله مطريّة، بل قيمة وحالة ورسالة إنسانية تسعى إلى الرقي والتأثير، وبالتالي لم يستجدِ يوماً غير أوتار كمانه وقريحته، فرأى بأصابعه ينابيع الموسيقى، وكان الصّوت الذي حلّق بعيدا.. بعيدا في الأقاصي كغيمة ملوّنة.