أصبح الكثيرون –في ما يبدو لي- ينعون على الكتاب الورقي طول عمره، وامتداد قرونه، وينتظرون –من ثمة- موته وتلاشيه أو في أقل مكرمة وتكريم- الإبقاء على ذكره وذكراه، وتاريخه الأثيل الذي علم الإنسانية أن تتقدم، ولقنها طرق وأساليب التطور والتعارف الثقافي، والاحتكاك الحضاري : [وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا]. نعم، للتجارة والرحلات، يد في ذلك التعارف والتثاقف، لكن للكتاب، للمصنفات والكراريس، والكنانيش، ومختلف ضروب المادة الكتابية، دورا حضاريا مشهودا، ليس في مُكْنَة أحد إنكاره ونكرانه. وهذه الجدوى، جدوى طبع ونشر الكتاب الورقي – تبقى، في ظني، حية، متواصلة الحضور، لأن الورق جزء من تاريخية الإنسان، جزء لا يبلى ولا يندثر. ففي قراءة الكتاب، والاستمرار في نشره وتسويقه، مُرادٌ غير المراد الرقمي، وبغية نفسية وإيثيكية دفينة لاتسمح بها البغية الإلكترونية، على أهمية التكنولوجيا الرقمية وضرورتها ووظيفتها الفورية الحية الدينامية، ومنجزها الراهن والمستقبلي. قد تكتسح الرقميات الفضاءات العامة، وتتغلغل داخل المؤسسات العمومية والخصوصية أيا كان دور وطبيعة هذه المؤسسات، وهو ماحصل ويحصل في الدول المتقدمة علميا وتكنولوجيا، غير أن الورق يبقى، هنا والآن، معلنا عن وجوده، وعن تلبيته لأعماق الإنسان، لنفسيته، وروحه، واستحقاق ماضيه الطباعي الموصول بحاضره الذي لا يفتأ يعطي للكتاب والمجلة والصحيفة الورقية، الأهمية تلو الأهمية، بدءا من الإبقاء عليه في المؤسسات التعليمية عبر العالم، وعبر تناسل المكتبات الورقية والإلكترونية في أوروبا وآسيا وأمريكا، ومن خلال إقامة معارض دورية للكتاب الورقي في شتى أنحاء أوروبا والعالم العربي، التي تتوج بالتواقيع والقراءات، والجوائز. زد على ذلك، أن الجوائز الأدبية ذات الصيت والمثقال، تمنح للإبداع الورقي، للرواية في أكثر الحالات، كمثل جائزة نوبل، والبوكر، والملك فيصل، والبحرين، وقطر، والكويت، ومصر، والجزائر، وتونس والمغرب، وهلم جوائز. فها نحن نرى، أن الورق لم يحترق تماما على رغم الحطب الكثير الذي أعد له وسيَّجه من لدن الأنترنت في مختلف تبدياتها وأشكالها، ووسائط التواصل الاجتماعي، لسبب بسيط هو أن الإنسان كان وراءهما معا، وهو يستخدمها معا الآن وغدا. إن الواقع الثقافي المغربي يشكو من عزلة وضمور وضآلة، مردها إلى عدم إيلائه الاهتمام الواجب من لدن من بيدهم القرار، ومن قِبَلِ مختلف المؤسسات الثقافية والتعليمية، والجمعياتية أحيانا. بل إن التردي العام، حتى لا أقول الأزمة البنيوية الشاملة، طال الواقع إياه، كنتيجة حتمية لما أصاب الواقع العام سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتعليميا، من اختناق، وتراجع وريعية، فلم يجد المتثقفون بدا من الانكفاء على ذواتهم، وجراحهم، وأناهم الذي أصيب بالعَوَر واللاَّمبالاة. ففي حركية الثقافية مُشَخْصنة في الفلسفة والفكر والإبداع والفن، يرتع هادئا وكامنا، فيروس الإشاحة والتبخيس، وصرف النظر عما يتحقق ويتبلور في المجالات المذكورة، وإنْ كان المثقفون –وهم قلة- على كل حال، يجهدون في أن يتصدروا المشهد الاجتماعي والسياسي العام، محللين ومفككين، ومنذرين بالشر المتفاقم القادم. لقد كانت الثقافة –دائما- وعبر التاريخ، نخبوية – انهمام وانشغال أقلية، فئة معدودة ومحسوبة. لكنها كانت حاسمة في تطوير المجتمعات، وتحقيق المسطور والمبرمج من خطاطات تنموية عامة، ورَجّ عقليات مسكوكة، إذ أنها أس التنمية، وبندول النكوص أو التقدم. وليست الأمية مقصورة على زمننا، بل هي تمتد إلى أزمان مختلفة، وحقب متفاوتة. فاحتكار العلم والثقافة وعلم اللاهوت، ظل حبيس فئة محدودة، سعى إليها الحظ منتشيا، أو سعت هي إليه بعدما درست وكافحت، وتدارست وسهرت، وجاعت وباعت لذائذها للمستمتعين العابرين الفانين. قد يقول قائل : إن الأمر يرتبط بأعصر تميزت بالبؤس والندرة، والفقر والهم، فلم تكن المدارس، والدكاكين الثقافية، والجمعيات التنموية، تملأ الساحة، وتنتشر في ربوع البلاد كما هي الحال اليوم. وهو كلام واعتراض لا يخلوان من وجاهة، غير أنه مردود إذا ما دققنا النظر في مفهوم الأمية، وذيولها. حيث إن الأمية تطول اليوم، أعداداً واسعة وعريضة من البشر من كل الأعمار والفئات، على رغم وجود المؤسسات، والرقميات، والوسائط الاجتماعية. فما كل من يقرأ جريدة، أو يعلم في مدرسة معينة، ولو في كلية داخل جامعة، مثقفا. يتابع ما ينشر، ويقرأ ما يسوق، وينخرط في أسئلة التنمية والتحولات المجتمعية السياسية والفكرية والحقوقية. ولهذا، قال علماء السوسيولوجيا النابهون، بأصناف الأميين: بالأمي الأبجدي، وأنصاف المثقفين والأميين الثقافيين، والأخيرون أخطر على الثقافة والمعرفة من غيرهم، لأنهم فيما يكتبون ويدعون، إنما يخلطون بين التراب والذهب، بين الحبر والماء، وبين الفهم العميق لمعضلات الأمور، والتعالم الفارغ الطنان. وما محطات الإعلام المرئي ببعيدة، فأكثر ما يستدعى لتحليل المواضيع الساخنة، وتنشيط الرأي فيها، "مثقفون" سوفسطائيون، يتحدثون في كل الشؤون دون أن يقولوا شيئا جديدا وواضحا ومقنعا. وأمام هذه الفوضى، و"فوران الفراغ"، واختلاط الحابل بالنابل، ماذا على منظمة اتحاد كتاب المغرب أن تفعل؟. هل ترغم الناس على القراءة، واقتناء الكتاب المغربي، والكتاب الأجنبي تشجيعا للثقافة، وإعلاء من شأن المثقفين؟، هذا إذا كان هناك اتحاد كتاب، يحظى بالصدقية والنجاعة، والحضور في معمعان ما يجري، وما يحدث في المجتمع المغربي؟. لم يعد " للجنرال " ما يخسره، بعد أن خسر الحرب، وانكسر في المعركة. فهو يمرر الأيام تمريرا، دَرْءاً للانفجار العصبي، واحتيالا على نوبة البكاء التي قد تداهمه بين لحظة وأخرى، والحال أن "نياشينه" البراقة اللامعة تمنعه من ذلك، وتضع أصابعها "الأخطبوطية" اللامرئية على فمه. لم يعد للمنظمة العتيدة التي كانت "تقلق" راحة الدولة، و"الأزلام"، أسنانٌ. صارت دَرْداءَ. ما جعل كوكبة مضيئة من المثقفين والمبدعين (ات)، تهجره هجرا في "الفراش" وفي "الهراش". قُصارَاها: عتادها المعرفي، واجتراحاتها، ومناشطها الإبداعية التي تصرفها داخل جمعيات محلية نشيطة نشاطا نَحْليّاً، أو بين أكناف كليات الآداب والعلوم الإنسانية، أو في رحاب المكتبات المنتشرة في المدن، وبعض "البلدات". لقد أفاقت المنظمة المذكورة مؤخرا بعد سُباتٍ وبَيَات، وصراع، وسِبابٍ، وتنابز، مُهْتَبلِةً سانحة تباشير الربيع الطلق، فأطلقت كلمة في اليوم العالمي للشعر، لتدير الوجوه المشيحة عنها، إليها، والرؤوس (العقول) الغاضبة نحوها، كأنها تفتح في ركام العجز، وجليد الغياب، نهرا صغيرا "يُخَرْخِر"، لكنه لم يُخَرْخِرْ" إلا في أذن "فاتحيه"، وصانعيه. كأنه النهر الذي عَنَاه الشاعر المجاطي عندما قال : (... حين رَقْرَقَ ماءً، بكى دماً، وَشَقَّ في الصحراءِ، صحراءَ). لقد نَمَا إلى علمي، أن عدد المجاميع الشعرية المنشورة العام 2017، يزيد على الثلاثمئة، وعدد الروايات والقصص القصيرة، يماثلها أو يفيض عنها. وهو أمر جديرٌ بالاهتمام، وقمينٌ بالنظر والمتابعة، يدفع الإنسان إلى أن يستبشر خيرا بهذا الفيض الإبداعي الذي هو –في الأول والأخير- علامة صحة وعافية، وعنفوان. فالعدد الذي نما إلى علمي، قليل بالقياس إلى عدد ساكنة الوطن، وقياسا بعدد المثقفين، والمتعلمين، والمتعلمات. لقد استكثر البعضُ العددَ، فاعتبروه مُسيئا لمعنى الإبداع الذي لا يسلس القياد إلا لقلة قليلة، تطوقها "عناية السماء"، ويزورها ملائكة الوحي والإلهام، سوى أني أقول: دَعْ "ألف زهرة تتفتح". فالإبداع ليس مقصورا على جماعة دون أخرى، وأفراد بأعيانهم من غير آخرين. إن الكتاب المعرفي والفكري، والفلسفي، والإبداعي، مُشاعٌ، وأصبح رهن الإشارة، وطوع اليد والبنان، سواء أكان الكتاب إلكترونيا رقميا، أو ورقيا رطبا ويابسا ذا رائحة مخصوصة يعرفها المدمنون. ومن ثم، فليس بغريب أن يتكاثر المبدعون والمبدعات في وطن تعداده أربعون مليون نسمة، لا يشكلون فيه إلا قطرة، ورقة في شجرة في غابة كثيفة. كَثيباً في صحراء مترامية. لكن وجه الحيرة في الأمر، أن "جل" ما يكتب وينشر باسم الإبداع، إنما هو "تُرّهاتٌ"، و"مزاعم" لغوية، ورداءة أسلوبية. أي: أن ما ينشر باسم الإبداع، ليس من الإبداع في شيء. فالعَوَرُ الذي أصاب هذه "الكتابات" مُتَأتٍّ من الحرية اللامحدودة التي أتاحتها الوسائط الاجتماعية ك "الأنترنت" و"الفايس بوك"، وما إلى ذلك. وليس الغموض بعيب في الإبداع، بل هو حاصل بناء لغوي، وتركيب مجازي، وتخييل وتصوير حاذق. فما تعانيه هذه الكتابات، جملةً، هو يبوسة النسغ، والفقر الدموي، والاجتفاف. هو الرداءة المرفرفة بِعَمَاها القاتم. ويعسر، بل يستحيل : أمام هذا الركام، على النقد قول كلمته القاطعة. وحتى إذا قال كلمته : فهل من سامع أو "متعظ"؟.، وكيف بمُكْنَته تطويق هذا الرمل؟. ولقد قالها من قبل ومن بعد. لكن لا سلطة له على ما يكتب، ولا "قوة رادعة"، فهل تردع "الحريات"، والإبداع جزء لا يتجزأ من الحريات. لنتأمل ما قاله الروائي الذائع والمفكرالإيطالي أمبرتو إيكو في أمر ما نخوض فيه : ( إن وسائل التواصل أتاحت لجحافل الأغبياء أن يتحدثوا وكأنهم علماء ).