أضحى الرأسمال الروحي، في ظل التحديات المعاصرة التي يواجهها العالم، مفتاحا رئيسيا لترسيخ ونشر القيم الأخلاقية الفاضلة في النفوس والمجتمعات، بما يعود على الإنسانية جمعاء بانتشار الخير والفضيلة والسلم، ويؤدي إلى استتباب الهدوء والسكينة والأمان. ولعل الداعي إلى هذا الكلام هو بروز الحاجة الملحة إلى وسائل وجسور للتواصل بين الشعوب والثقافات، فبالرغم مما راكمته البشرية، في العقود الأخيرة، من معارف وخبرات وعلوم وتجارب ووسائل تكنولوجية، لم تستطع أن تحد من مظاهر النزاع والحروب، أو توقف أشكال سوء التفاهم وانعدام التواصل والحوار، إذ ما تزال الصراعات الدامية، والتفاوتات الاجتماعية الصارخة متقدة في أكثر من ميدان، وعلى أكثر من صعيد وجبهة، سواء داخل المجموعة الأممية الواحدة، أو بين أمم من أطياف شتى دينيا وعرقيا وطائفيا وإيديولوجيا. وإذا كانت العديد من النزاعات والشقاقات مطبوعة بحسابات دينية، مدعومة بعوامل اقتصادية وثقافية مختلفة أدت إلى إشاعة أشكال الكراهية والعنف والتطرف، فإن الدين قد ساهم أيضا، عبر مراحل التاريخ المختلفة، في إحلال أشكال التعايش والأمن والسلام. والإسلام، كدين عالمي حضاري يزخر في تشريعاته ومقاصده، بأسس الرحمة والسلام والتعارف بما فيه خير الجميع. وقد استطاع المغاربة، منذ اعتناقهم هذا الدين أن يأخذوا منه جوانب المحبة والتعاطف والأخلاق الحميدة، ويصوغوا منها معالم نظريات وحركات روحية صوفية أثمرت العديد من الأشكال الاجتماعية من رباطات وزوايا، نتج عنها انتشار الإسلام الوسطي المعتدل، الذي يتلاقى، في خطوطه العامة، مع السياسة الدينية الرشيدة للمملكة المغربية من خلال بعدها الروحي، المتمثل في مركزية إمارة المؤمنين، والتي حرصت على ترسيخ وتفعيل هذا التوجه السلمي الوسطي للإسلام المغربي. منذ مراحل تاريخية متقدمة، وجد الإسلام المغربي، بسماته المطبوعة بالاعتدال والوسطية والمسالمة، تربة خصبة في أرض إفريقيا ليتجذر وينمو ويزدهر في ظل مجتمعات افريقية اعتنقت الإسلام، في غالبيتها، طواعية وحبا، وتبنت منهجا إسلاميا متسامحا في سلوكها الفردي والاجتماعي العام. وقد ساهم التصوف المغربي، باعتباره قوة روحية، وحركة إصلاحية، في تعميق الترابط والتفاعل المغربي- الإفريقي، وخلق وحدة نفسية وثقافية بين الجانبين. وقامت حركة الصلحاء والصوفية ذات الأصول المغربية بدور فاعل في نشر الإسلام، وَرَعَت النشاط العلمي والنهوض بالثقافة العربية الإسلامية في هذه الأنحاء كما أثرت في توجهات الإسلام الإفريقي، بإضفاء الطابع السني عليه، وربطه بالمذهب المالكي، وأضفت عليه الحيوية والفعالية، وأكسبته البعد السلوكي العملي، المتسم بالتسامح والانفتاح، وهذا ما مكنه من التغلغل في الحياة السودانية، والتفاعل مع النظم والحياة الإفريقية. ومن بين الطرق الصوفية ذات المشرب المغربي، والمؤثرة بعمق في الإسلام الإفريقي، نجد الطريقة التيجانية، التي تعد من أكبر وأكثر الطرق الصوفية انتشارا في عموم إفريقيا، وأهمها أتباعا وفروعا وشهرة، لما لها من مكانة ونفوذ في مختلف دول غرب إفريقيا (السنغال، مالي، الكوت ديفوار، غينيا، بوركينا فاصو، النيجر، نيجيريا، توغو، غانا، البنين..). ولقد وجدت التيجانية، منذ استقرار شيخها سيدي أحمد التيجاني بمدينة فاس سنة 1213ه/ 1798م، الطريق سالكا للانتشار بمناطق إفريقيا جنوب الصحراء، ومعه تحولت فاس إلى قطب ومركز إشعاع روحي في القارة الإفريقية حيث احتضنت مقر الزاوية التيجانية الأم وضريح الشيخ المؤسس. وفي الوقت الحاضر، فإن الطريقة التيجانية في غرب إفريقيا مؤهلة لاستثمار رصيدها الروحي والتاريخي لمعالجة المشكلات الخطيرة التي تمر بها المنطقة الإفريقية في مواجهة تنامي الإيديولوجيات المتطرفة والجماعات الإرهابية، وانتشار الصراعات العرقية والسياسية والدينية، وتزايد الخلافات بين دول المنطقة؛ مما يحول دون قيام تعاون مثمر من أجل بناء المشروع الإفريقي المشترك. كما أن التيجانية في غرب إفريقيا تعد محورا هاما للديبلوماسية الروحية والثقافية المغربية، بالنظر إلى ارتباطها الروحي والمرجعي بمؤسسة إمارة المؤمنين في المغرب، حيث يمتلك جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، في أوساط التيجانيين، سلطة رمزية، وصيتا روحيا كبيرا؛ باعتباره مرشدا روحيا، وقائدا دينيا مُلْهما وموحّدا. بهذه الخصائص والسمات يمكن أن تساهم الطريقة التيجانية في إرساء دعائم السلم الاجتماعي بالغرب الإفريقي، والتمكين له؛ وذلك بناء على المكانة والهيبة التي يحوزها سادة التيجانية في نفوس وعقول الشعوب الإفريقية، وبما لهم من سلطة رمزية وروحية على أتباعهم ومجتمعاتهم يعززونها بتمسكهم بمرجعية إمارة المؤمنين المغربية، وارتباطهم الروحي والمرجعي بها. وهكذا، فمن خلال استثمار هذا الولاء العام المتعاظم، ستعمل الطريقة التيجانية على ترسيخ معاني وقيم السلوك السلمي المتصالح، والتمكين له اجتماعيا وثقافيا في مواجهة تيارات العنف والتطرف والكراهية.