تسير في شوارع مدينة تارودانت الضيقة آلاف الدراجات الهوائية؛ فهي إحدى وسائل التنقل الرئيسية في أقدم وأعرق منطقة بسوس باتت كل منازلها تحتضن ثلاث دراجات على الأقل، وأصبحت تُلقب بأمستردام المغرب. في هذه المدينة الصغيرة، يتفاجأ الزائر لأول مرة باعتياد سكانها، رجالا ونساء، شبابا وأطفالا، على انسيابية حركة التنقل فيها. فرغم ضيق أزقتها، إلا أنها تسع للدراجات الهوائية والنارية والسيارات والراجلين. وبما أنها مدينة مُحاطة بسور يبلغ طوله أكثر من سبعة كيلومترات، كان من المستحيل توسيع شوارعها وأزقتها مع التطور العمراني والديمغرافي؛ ما جعل تعدد وسائل النقل في مسارات ضيقة يؤرق بال المسؤولين المحليين ويدفعهم إلى التفكير في إيجاد حلول للمستقبل. نسبة كبيرة من المدينة توجد داخل السور الذي بُني على شاكلة الأسوار المغربية الأندلسية الوسيطية، وهو جدار من طين يدعمه 130 برجاً مستطيلاً وتسعة حصون، وتتخلله خمسة أبواب، هي باب القصبة وباب الزركان وباب تاغونت وباب أولاد بونونة وباب الخميس. يلقبها البعض بأمستردام المغرب، وقد نتج عن تطور الحياة داخل المدينة القديمة عدد من المشاكل المرتبطة بالسير والجولان. فبحسب رشيد ربيب، عضو المجلس الجماعي لتارودانت، إذا كان هذا الموضوع له طابع وطني، فإنه في مدينة تارودانت يحضر بشكل أكبر، خصوصاً مع بروز ظاهرة احتلال الملك العمومي. وأضاف المسؤول الجماعي، في حديث لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن خصوصية المدينة تتجلى في أن النسبة الأكبر من سكانها توجد في المدينة العتيقة المحاطة بالسور التاريخي، فيما خارج السور بالكاد أصبحت تتشكل معالم المدينةالجديدة. وقد حضرت إشكالية السير والجولان في دورات المجلس الجماعي بالمدينة منذ سنوات وكان موضوع نقاشات مستفيضة، كما نُظمت أيام دراسية حول الموضوع بمشاركة المعنيين بالأمر من مهنيين بمختلف أشكال النقل وتجار ونقابات مهنية. وبعد التشاور في إطار لجنة تنظيم السير والجولان، التي تجمع مصالح الأمن الوطني والوقاية المدنية والتجهيز والنقل والسلطات المحلية والمجالس المنتخبة، جرى الاتفاق على إعداد دراسة تضع خارطة طريق لمواجهة الإشكاليات المتفرعة عن إشكالات التنقل في المدينة. من الإجراءات التي اتخذها المجلس الجماعي منع ركن السيارات في بعض الأماكن داخل المدينة العتيقة خلال وقت الذروة، خصوصاً في فترة خروج التلاميذ من المؤسسات التعليمية حيث تعج في الفترة المسائية طرقات المدينة بمئات الدراجات في الاتجاهين معاً. كما منعت السلطات المحلية، عبر مقرر للسير والجولان، مرور السيارات في بعض المسارات وتخصيصها فقط للدراجات النارية والهوائية. وقال رشيد ربيب إن "طبيعة المدينة تعطي الأولوية للدراجات الهوائية، ومنع السيارات في بعض الأماكن كان إجراءً ضرورياً لخفض نسبة الضغط الحركي". تنتشر داخل المدينة محلات عدة لبيع الدراجات الهوائية، تبدأ أثمنتها من 500 درهم وتصل إلى 3000 درهم، لكن نسبة كبيرة من الرودانيين والرودانيات يُفضلون الحصول على "ماركات" جيدة يستقدمها أبناء الجالية من الخارج. ورغم انتشار الدراجات الهوائية بنسبة كبيرة في المدينة، إلا أن هناك "تعايشاً"، كما يصفه المسؤول الجماعي رشيد ربيب، قائلا إن "تارودانت لا تسجل نسباً مرتفعة من حوادث النقل رغم ما تعيشه الأزقة من اكتظاظ في أوقات الذروة". في المقابل، يلاحظ أن مدينة تارودانت لا تتوفر على مواقف كافية لركن الدراجات الهوائية التي يستعملها التلاميذ بالدرجة الأولى، باستثناء تلك المتواجدة أمام المؤسسات التعليمية، إضافة إلى ظاهرة احتلال الملك العمومي داخل المدينة؛ الشيء الذي يُضيق المسارات أكثر. كما أن المدينة لا تتوفر على إشارات مرور خاصة بالدراجات. فبالنسبة للزائر لأول مرة، سيكون التأقلم مع هذا الوسط صعباً بعض الشيء، خصوصاً إذا كان صاحب سيارة ورغب في الولوج إلى داخل المدينة، فسيجد نفسه في بعض الأوقات عالقاً وسط عشرات الدراجات. موضوع السير والجولان يثير اهتمام شباب المدينة، خصوصاً النشيطين في جمعيات المجتمع المدني. وفي هذا الإطار، قال الفاعل الجمعوي رشيد آيت نعيم، رئيس جمعية أمودو أوراش بلا حدود، إن "التطور العمراني والديمغرافي للمدينة أدى إلى مشاكل في السير والجولان"، معتبراً أن هناك ضرورة للتفكير الجماعي في إيجاد حلول لهذه الإشكالية. وأضاف آيت نعيم في حديث لجريدة هسبريس الإلكترونية قائلاً: "إذا كان هذا التغيير الحاصل في تارودانت حتمياً إلى حد ما، فالتفكير في سياسات ناجعة مُمكن أيضاً، وأرى أنه يجب تثمين وتشجيع استعمال الدراجات العادية باعتبار أن ذلك يُخفض من التلوث ومن إشكاليات التنقل". ويتماشى هذا الأمر مع التزامات المغرب، بعد احتضانه لمؤتمر المناخ "كوب 22" في مدينة مراكش قبل سنوات، بالمساهمة في خفض الانبعاثات لمواجهة التغير المناخي، وتحتل مسألة استعمال وسائل نقل نظيفة مكانة مهمة في سلم التدابير المطلوبة عبر العالم. كما يرى آيت نعيم أن هناك ضرورة لاستثمار هذه الخاصية لتسويق صورة تارودانت كمدينة ذات جودة بيئية في مجال السياحة، واستلهام نماذج مدن عالمية معروفة بالدراجات الهوائية، مثل أمستردام، لتحسين المرافق والبنيات التحتية الخاصة، والاستفادة من قربها من مدينة مراكش لاستقطاب سياح كثر. في أمستردام، عدد الدراجات الهوائية أكثر من عدد السكان، لكنها مدينة مهيأة بشكل جيد لاستقبال مئات الآلاف من الدراجين يومياً، فهي تتوفر على شبكة طرق خاصة ومنفصلة على حركات المرور الأخرى تمتد على آلاف الكيلومترات، كما تتوفر على مواقف منتظمة على طول الأرصفة ومبان تتخذ كمواقف لركن السيارات بطاقة استيعابية كبيرة.