كان من المُفترض أن يخرج هذا المقال في ذكرى ارتحال ابي الحبيب محمد حسن الجندي الأولى يوم الخامس والعشرين من فبراير الماضي، ولكنني لم أجد فِيَ ساعتها لا لُغَةً تُطيعُ، ولاقلما يُطيقُ الكِتابة أو يستطيع إليها سبيلا. أبْكَمَنِي شعورٌ لا يفهمه إلاَ من انْسَحَقَ حُزنا لا يخبو بِتعاقب الأيام ولا يَهْدَنْ لِفقدان عزيز، وَمَن أعزُ بعد الله على الولد من الوالد؟. أتجرأ على القلم اليوم في ذكرى الرحيل الأولى لمحمد حسن الجندي لا راثيةً ولا باكية، ولكن راضيةً بأمر الله، مُحْتفية بأبٍ عظيمٍ ورجلٍ صالح وأديبٍ فذ، بالكتابة بدأ وإليها انتهى، وبين النص الأول: مسرحية "عدو المجتمع"، التي ألفها وهو لم يُجاوز العشرين، والنصِ الأخير: رواية السيرة "ولد القصور"، التي انكبَ على إخراجها بحماس وأمانةٍ مُلهِمَين خلال السنوات الخمس الأخيرة من حياتهِ الزَاخرة، بينهُما نصوصٌ ونصوص، كفصول الحياةِ تتعاقبُ تارةً هادئةً وحينًا هَادِرة. أنصف محمد حسن الجندي جميعَ أعماله بالنقاش والتحليل والتقديم إلا "ولد القصور"، الذي أزعم أنه أعزُ مشاريعه إليه، وأبلغها أثرا في نفسه: "مِسكُ الختام" كما كان يحلو له أن يُردد في شَجَن، لأقاطعهُ أنا كل مرة ممتعضةً من "تَطَيُّرِه"، ومعترضة: "بل تلي الكتاب كُتبٌ إن شاء الله"، في نبرة واثقة تُخفي خلفها توسلا ودعاء، ليأتيني جوابه ابتسامةَ مُواساةٍ من أبٍ لابنته على فراق لا بد آت. صدر الجزء الأول من "ولد القصور" يوم السبت 18 فبراير. كان والدي يومها في قمة سعادته، ممتنا لفضل الله الذي مد في العمر وبارك في الصحة حتى حمل وثيقته التي نُشرت على شكل مقالات أسبوعية على امتداد سنوات، وقد ضمها كتابٌ ينوي توقيعه ومناقشته في لقاءات بالرباط ومراكش وطنجة في الأسابيع والشهور اللاحقة، لولا أن أمر الله نفذ بعد سبعة أيام بالتمام، ولله الأمر. في ذكرى رحيل أبي محمد حسن الجندي، لا أجد أبلغ من الحديث عن مِسْكِ ختامه "ولد القصور"، لتكريم قامته الفنية والأدبية العالية، خاصة وقد شرفت بمواكبة هذا الإصدار منذ أن كان فكرة تختمر، وإلى أن رأى النور مقالاتٍ على جريدة الأسبوع الصحفي أولا، ثم نصًا روائيا من أدب السيرة لاحقا. وأعلم يقينا مقدارارتباط الأديب واعتزازه بمُؤَلَفِه الذي أراده نص تأريخ وتوثيق، "فتاريخنا الذي غربلته لنا الأهواء محتاج إلى تدقيق متحرر من كل الأهواء"، كما أشار في خاتمة الفصل الأول. وثق محمد حسن الجندي في نصه الأدبي الحي "ولد القصور" تفاصيل زمانه ومدينته بفضائيها العام والخاص، وقاطنيهما، بدقة متناهية وحرصٍ كبير قد لا يُدرك مداهما إلا من عايشها و"جايله"، كما جاء في وصف الأستاذ امحمد الخليفة في مقدمة الكتاب. إن أبرز ما يميز نص "ولد القصور" هو تأريخه الشعبي لنضالات البسطاء من المقاومين، هؤلاء الذين لن تجدوا أسماءهم على يافطات الشوارع أو المدارس: العمالُ والتجارُ وأربابُ الحرفِ ممن كان يحلو له أن يلقبهم ب"عْزَاوَا" (من العِزوة) مُراكش وفرسانها. وكما كُلِ النصوصِ الأدبية المهمة، فإن "ولد القصور" يفيضُ بمواقف الضعف الإنساني، يسردها الأديب بشجاعةِ المتصالح مع تاريخه وذاته، وبشاعريةِ المتمكن من ناصية لغةٍ بسيطة غير متكلفة، كما هو دأبه دائما، ومن أدوات الحكي التي تَمَرَسَ في صياغتها وإعادة صياغتها بتفردٍ خلال سنوات عمله الطويلة بالإذاعة، أيامَ كانتِ الإذاعةُ تنتج فنا وخيالا وجمالا. ولأن النص كُتب متفرقا في سلسلة مقالات أسبوعية بين 2012 و2017، فقد كان النص يتفاعل مع الأحداث المعاصرة التي كثيرا ما تُحرك دفة السرد. فكلما احتدم النقاش حول إشكاليات الهوية أو اللغة أو غيرهما، إلا واختار المؤلف التطرق لمحطة بعينها كالنفحة. ومن هذا المذهب نَحَتَ عنوان عموده القار بجريدة الأسبوع الصحفي: "نفحات من سيرة الذات"، فنص "ولد القصور" إذن راهني وإن روى عن زمن فات. من عجائب الاتفاق أن يكون ميلاد "ولد القصور" الكتاب، ورحيل "ولد القصور" الكاتب، في الأسبوع ذاته، لا يفصل بين الاثنين، الميلادُ والموت، إلا مقدارٌ من الزمن يسير. لا أملك في ذكرى الارتحال إلا أن أدعو الله أن يجود على روح "ولد القصور" بالسلام والرحمة وحسن الثواب، وأن يكتُب ل"ولد القصور" الخلود.