اعتدنا في هذا البلد السعيد، أن تطفو على السطح، بين الفينة والأخرى، فقاعات تستغل الرياح المواتية العابرة لأجوائنا لتنفجر في وجوهنا، مرارا وتكرارا في حلقات لا تكاد تنتهي. تتعدد المواضيع وتتنوع، لكنني أقصد هنا، تحديدا الهرج والمرج الذي أصبح يحيط بأحكام المواريث بمناسبة وبدونها. لن أكرر هنا تفاصيل النقاش الدائر حول هذه المسألة، وذلك من باب الاختصار، كما لن أدخل في نقاش علمي/ شرعي، لأن الأمر لا علاقة له لا بالعلم ولا بالشرع. وكيف يكون هناك محل للشرع والعلم، حين يكون أغلب مفتعلي الضجة إما من الذين لا يفرقون بين الجملة الفعلية والجملة الإسمية ومع ذلك يسفهون أفكار كبار العلماء، أو من أفراد الجالية الفرنسية المقيمة إقامة عابرة بالمغرب، ممن لا يشهرون جنسيتهم المغربية إلا عندما يتعلق الأمر بغنائم يريدون نصيبهم منها، أو عندما يتعلق الأمر بإشعال فتن نحن في غنى عنها في هذه الظرفية العصيبة التي تحتاج تماسكا وتلاحما لمواجهة التحديات التي تهدد المغرب في وجوده.. بل إن بعضهم تخصص في رسم صورة كاريكاتورية عن المغرب دولة ومجتمعا وشعبا ودينا وثقافة وهوية ولغة.. وينضاف إلى هؤلاء وأولئك بعض الفاشلين سياسيا وأكاديميا، وبعض هواة الإثارة الباحثون عن الشهرة السريعة، وبعض المؤلفة "جيوبهم" ممن يعتبرون حضور ندوة أو برنامج تلفزي ثمنا كافيا لبيع أخلاقيات العلم والمنطق والموضوعية.. فضلا عن جوقة من يدعون أنهم ملاحدة أو من المرتدين الذي تحولوا إلى ديانات أخرى، دون أن يشغلهم هذا التحول أو ذاك الإلحاد عن الخوض في شؤون دين يفترض أنه لم تعد تربطهم به أي رابطة.. لا أعمم طبعا، فهناك أشخاص ربما لهم قناعات معينة أوصلتهم إلى الخوض في موضوع الإرث من ضفة "أخرى"، لكن هؤلاء في كل الأحوال يظلون في حكم النادر الذي لا حكم له، والاستثناء الذي يؤكد القاعدة. قلت إنني لن أناقش الموضوع من جانبه العلمي / الديني، لأن النقاش يتطلب طرفين يحترمان القواعد المنهجية، وإلا لتحول الأمر إلى عبث.. وفي كل الأحوال، فإن المؤسسة العلمائية الرسمية مسؤولة مسؤولية تامة عن استمرار هذا "العبث"، لأن صومها عن الكلام في هذه المسألة الحساسة يمكن أن يقرأ من زاوية "تأخير البيان عن وقت الحاجة".. خاصة وأن تدخلها سيقطع قول كل "خطيب".. وهل من المجدي أصلا فتح نقاش إذا كان الطرف الآخر يرفض حتى قراءة موضوع الإرث في الإسلام بذهن صاف بعيدا عن الأحكام المسبقة؟ أنا على يقين أن الأغلبية الساحقة من هؤلاء، لم يسبق لها أن قرأت شيئا عن "أحكام الإرث في الشريعة الإسلامية"، إما بسبب عائق اللغة، أو بسبب العمى الإيديولوجي، والاستعلاء المعرفي.. بل أنا على يقين أن هؤلاء الذين يرفعون اليوم عقيرتهم للمطالبة بتعطيل نص قرآني صريح وواضح، لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء قراءة مدونة الأسرة. ربما قرأ بعضهم القسم الخامس من الكتاب السادس من المدونة، لأن المسألة بالنسبة إليه تبتدئ وتنتهي عند "التعصيب".. لكن ماذا عن باقي كتب المدونة؟ هل قرأ هؤلاء المواد التالية : - المادة 13: التي تنص على وجوب أن يتوفر في عقد الزواج الشروط التالية:.... عدم الاتفاق على إسقاط الصداق؛ - المواد من 26 إلى 33 ضمن الباب الثاني من القسم الثاني المتعلق بأحكام الصداق. - المادة 60 التي تتحدث عن أحكام الزواج الفاسد لصداقه، سواء قبل البناء أو بعده.. - المادة 80 التي تشترط إرفاق طلب الطلاق بالحجج المثبتة لوضعية الزوج المادية والتزاماته المالية.. - المادة 83 التي تعطي الزوج أجل شهر ليودع بكتابة الضبط مبلغا تحدده المحكمة لأداء مستحقات الزوجة والأطفال - المادة 84 التي تحدد المستحقات المادية للزوجة : مؤخر الصداق إن وجد، نفقة العدة، المتعة.. والتي تلزم الزوج أيضا بتحمل تكاليف السكن لإقامة الزوجة خلال العدة.. - المادة 85 التي تحدد مستحقات نفقة الأطفال بعد الطلاق - المادة 86 التي تعتبر عدم إيداع الزوج للمبالغ المشار إليها أعلاه تراجعا منه عن طلب الطلاق - المادة 87 التي تربط تلقائيا بين إيداع المبالغ المفروضة والإذن بتوثيق الطلاق - المادة 88 خاصة منها الفقرة التي تتحدث عن تحديد المستحقات وأجرة الحضانة - المادة 97 التي تحدد بعض شكليات التطليق للشقاق - المادة 98 التي تحدد الأسباب المجيزة لطلب التطليق، ومنها عدم الإنفاق - المادة 102 المخصصة لتفصيل أحكام طلب التطليق بسبب إخلال الزوج بالنفقة الحالة الواجبة عليه - المادة 103 وتتطرق لحالة الزوج الغائب المطالَب بالنفقة - المادة 109 التي تنص على أنه لا صداق في حالة التطليق للعيب عن طريق القضاء قبل البناء، وعن حق الزوج في الرجوع بقدر الصداق على من غرر به أو كتم عنه العيب قصدا - المادة 119 التي تمنع الخلع بشيء تعلق به حق الأطفال أو بنفقتهم إذا كانت الأم معسرة.. وإذا أعسرت الأم المختلعة بنفقة أطفالها، وجبت النفقة على أبيهم، دون مساس بحقه في الرجوع عليها. - المادة 167 التي تتحدث عن أجرة الحضانة ومصاريفها - المادة 168 التي تتحدث عن تكاليف سكنى المحضون - المادة 171 التي أعطت الأسبقية للأم في الحضانة على الأب - المادة 178 التي تتحدث عن انتقال الحاضنة أو النائب الشرعي للإقامة في مكان آخر داخل المغرب - المادة 187 التي تحدد "الزوجية" من بين أسباب النفقة - المادة 190 التي تتحدث عن كيفية تقدير النفقة - المواد 194، 195 و196 التي تتحدث عن نفقة الزوجة - المادة 198 الخاصة بنفقة الأب على أولاده إلى حين بلوغهم سن الرشد، أو إتمام 25 سنة بالنسبة لمن يتابع دراسته، بينما لا تسقط نفقة البنت إلا بتوفرها على الكسب أو بوجوب نفقتها على زوجها.. إضافة إلى حالة الأولاد من ذوي الاحتياجات الخاصة.. - المادة 199 التي تتحدث عن عجز الأب كليا أو جزئيا على الإنفاق على أولاده. - المادة 200 التي تتحدث عن الحكم بنفقة الأولاد من تاريخ التوقف عن الأداء.. - المادة 201 التي تنص على أن أجرة رضاع الولد على المكلف بنفقته. - المادة 202 التي تتحدث على اعتبار كل توقف عن نفقة الأولاد لمدة شهر داخلا تحت أحكام "إهمال الأسرة" .. وهناك مواد أخرى لابد من مراجعتها جذريا أو إلغائها بالمرة، حتى تتحقق "المساواة" المفترى عليها كما حددتها جماعة "المائة".. نريد أن نفهم: هل سيتم إلغاء "التعصيب" فقط في المدونة، والإبقاء على أحكام الصداق والنفقة والمتعة وغيرها من المستحقات المالية الناجمة عن انحلال ميثاق الزواج، فضلا عن أحكام الحضانة؟ أم أن كل هذا ستتم مراجعته، بحيث لا تعود هناك حاجة للصداق، ولا تستحق الزوجة النفقة حال قيام الزوجية، بل تصبح مطالبة بأداء 50 في المائة من مصاريف البيت والأولاد...، ويسقط حقها في السكن وفي المتعة ونفقة العدة، وحق أولويتها في الحضانة، بل وإلزامها بأداء نصيبها من نفقات المحضون.. وتسقط نفقة البنت بمجرد بلوغها سن الرشد.. أتمنى ألا يشهر أحد هنا إحصاءات مندوبية التخطيط حول "المرأة المعيلة".. وحول "الأم العازبة".. وما إلى ذلك من العبارات المبهمة الموهمة.. وأتمنى قبل ذلك أن يتطوع أحد ما ليفيدنا بما تقترحه "المائة المبشِّرة"، بالنسبة للمواد المشار إليها أعلاه.. لأن القاعدة الشرعية تقول : "الغنم بالغرم".. والتي يشرحها البعض بقوله :"من يحصل على نفع شيء يجب أن يتحمل ضررَه". *خريج جامعة القرويين