هم لاعبون، بصيغة الجمع، وليس لاعبًا واحدا.. ومن أبرزِهم مؤسساتُ الدولة، وبداخلِها أفرادٌ فيهم غثٌّ وسمين.. ومن أبرزهم أيضًا، نخبةٌ سياسية واقتصادية.. وطبعًا، لاعبان رئيسيان أيضًا، هما: الشارع، والسجن... وفي صنفِ اللاعبين بمَكاتبِهم: أغبياءُ وحكماء.. ومصالح، وضمائر.. ووطنية ولاَوَطنية.. هذه المواصفات لا تستثني مؤسسات الدولة، بما فيها السلطةُ المخزنية، والمجالسُ الرسمية وغير الرسمية، وفيها حقوقُ الإنسان، والاقتصاد، والتعليم، والمجلس الديني، والأحزاب، والنقابات، وغيرها... كلُّها تَعتبرُ أن مصلحتَها لا تُعاكس مصالحَ الوطن، وأنها هي لصالح الوطن.. وتعتبرُ أن البعضَ يُحاولون جرَّ مَصالحِ الوطن باتجاهِ خدمة مصالحِ أشخاص.. وهذا تصوُّرٌ شائع، يُفرّقُ بين المؤسسةِ والسلوكاتِ الفَردية.. المؤسسةُ وطنية، والأفرادُ فيهم من قد يَستغلون المؤسسةَ لقضاءِ مآربَ شخصية.. وبهذا التصوُّر، يُقحمون المؤسسةَ في خلطٍ مُتعمَّد بين المؤسسة والأفراد.. هذا التصور ينتشرُ عبر تصريحاتٍ وتحليلاتٍ هنا وهناك.. ولكن المشكل يَكمُن في كون أشخاص هم يتحدثون باسم المؤسسة، ويُورّطونها في مُواجهة المواطنين.. والناسُ يعتبرون أن المؤسسةَ أيضا مسؤولةٌ عن كل ما يحدث من اهتزازاتٍ في البلد، ومن فبركةٍ لملفاتِ أبناء الحراك.. فما العمل؟ هل تتمكن مؤسساتُنا من تحريرِ نفسِها من أفرادٍ يُسيؤون استخدامَ السلطة.. وهنا، يتوجبُ على المؤسسة أن تُحرر نفسَها من مسؤولين لا يُسيؤون لأنفُسِهم فقط، بل أيضا للدولة، والمجتمع، ومن ثمةَ لكل البلد.. هؤلاء لاعبون في واجهة الصراع الرسمي ضدّ الحراك.. وفي مُجملهم، هم لاعبون لا يُفرقون بين مصالحهم الذاتية ومسؤوليتهم المؤسّساتية.. لاعبون من أرْدَإِ وأنذلِ ما خَلق.. يضرّون بمصالح البلد.. وتجدهم في مواجهة مفتوحةٍ مع الشعب.. ولا يُخفون تخوّفَهم من انتصارِ الشارع.. يحسبون أن المقاربةَ الأمنية يجب أن تكون قمعية، وأن الزجرَ ضرورة لفرض الاستقرار بالشكل الذي كان عليه منذ بداية الاستقلال إلى الآن، أي استقرار موقت، جاثم على بركان.. ولحسن الحظ، ليست هذه الفئة مطلقةَ اليدين.. عندنا فئة أخرى، عاقلة حكيمة، ترى أنه يتوجب السير في اتجاه التهدئة، والاستجابة للمطالب الاجتماعية، وإخراج البلاد من النفق، وإعادة القطار إلى السكة الوطنية بشكل يخدم الاستقرارَ الإيجابي الذي يقود إلى السلم الاجتماعي.. وهذا التوجه معقول، ولكن يجب أن تُرافقه باقةُ حلول اجتماعية.. - ولا تسوية بدون حل جذري.. الكلام لا يجدي.. لا بد من حل اجتماعي.. ومن حوار مع قادة الحراك، وعلى رأسهم مُعتقلو سجن عكاشة.. إن مؤسساتنا، بحُكمائها ومَن فيها من أفراد لا يفكرون إلا في مَصالحهم، توجد أمام شارع وطني متحرك، وفي حالة غليان.. الشارع لاعب أساسي في الميدان.. ويجب أن يكون شريكا في البحث عن تسوية.. وهذا الشارع ما زال على حاله من الصراخ والوضوح والسلمية والوطنية.. لا يرتكب أخطاءا حادة تَسللت في السابق إلى صفوف حركة 20 فبراير.. حراك 20 فبراير تسللت إليه أحزاب، وفيها تجار الدين، فباعت مطالبَه المشروعة، ووصلت إلى الحُكم، وهي نفسُها تسببت في تخريبِ الاقتصادِ الوطني، وتعمل حاليا على إجهاضِ الحقوق الاجتماعية المشروعة.. والشارعُ ما زال واقفًا، كما كان.. ما زال مسالما، يدعو إلى مطالبَ اجتماعيةٍ مشروعة.. وبهذه السلمية تمكَّن من إيصال صوتِه إلى الداخل والخارج.. وفي السلمية تَكمُن قوةُ الحراك الاجتماعي.. وبالسلمية واجهَ ويواجه عنفَ المقاربةِ الأمنية.. وهذه المقاربة لم تزده، بفضل سلميته، إلا إصرارا على المطالبة بكل الحقوق الاجتماعية المشروعة: مجانيةُ التعليم والصحة.. حقوق المرأة والطفل.. الرفضُ لدفع الشباب إلى البطالة.. لا للفساد.. لا للاستيلاء على أراضي الخواص.. لا لتهريب ثرواتِ البلد إلى الخارج... - لاءاتٌ واضحة.. ومَطالب اجتماعية أخرى... حكماء المؤسسات يستوعبون أن في هذه المطالب يَكمن الحلُّ الاجتماعي.. يستوعبون أن ليست في العالم دولةٌ واحدة لم تنهزم أمام شعب مُصرّ على انتزاع حقوقه الاجتماعية المشروعة.. الحكماء التقطوا من أعلى سلطة في البلاد إشاراتٍ انفتاحية، منها وضعُ حد لفيروس الرشوة... وإشاراتٌ أخرى منها السماح لشخصيات من الريف، على رأسها والدُ الزفزافي، نجمِ حراك الريف، وأيضا محامي الحراك، بالسفر إلى أوربا والحديثِ إلى البرلمان الأوربي عن المطالبِ الاجتماعية، وعن معتقلي الحراك.. ومعتقلو الحراك هم أيضا يتّسمون بحِكمة التفاعل.. ولم نعد نسمع إضرابا عن الطعام حتى الموت.. وهذه إشارةٌ مُهمة.. وزعيم الحراك، ناصر الزفزافي، هنّأ الملك على سلامته من العملية الجراحية التي أجراها بفرنسا.. وهذه أيضا إشارةٌ مُهمة.. ووالدُ الزفزافي، يتعامل مع قضية المعتقلين بأسلوب مرِن، وتعقُّل، وحكمة.. ويعلن في مختلف تصريحاته الإعلامية، ومنها التي أدلى بها أمامَ البرلمان الأوربي، بما معناه أنه يتحركُ في إطار دبلوماسية الحراك، لتحقيق الحرية لكل معتقلي المطالبِ الاجتماعية المشروعة.. وهذه أيضا إشارةٌ إيجابية.. والمعتقَلون من جانبِهم يُحسنون اللعب في معادلةٍ ممخزَنةٍ معقدة.. ويُحققون الإقناعَ من خلال تدخلاتِ بعضهم، ومنهم الإعلامي حميد المهداوي، في جلساتِ محاكمتهم.. إشاراتٌ تعني أن كفتّيْن في بلدنا هما راجحتان: كفةُ مطالب الحراك، وكفةُ حُكماءِ البلد الذين لا نراهم، ولكن نشعر بآثارِهم.. حكماءُ يتأكد يوما بعد يوم، أنهم يتحركون في الخفاءِ لنزع الفتيل.. إن البلادَ ليست فيها فقط ثلةٌ من الأغبياء.. فيها من يبذلون، وعلى كل المستويات، مجهوداتٍ من أجلِ أن يكون الانتصارُ الأكبر، للحِكمةِ في بلدنا، وأن نتمكن معا، يدًا في يد، من إخراج واقعِنا من مأزق اجتماعي تسببت فيه مصالحُ أفرادٍ فاسِدين.. وفي بلدنا، وإداراتِنا، يوجد أيضا مسؤولون في مستوى المسؤولية.. لا يجوز التعميم.. فعلا، عندنا الغثُّ والسمين.. العاقلُ والغبيّ.. والعقلُ أيضا لاعبٌ واضح.. والحراكُ نفسُه يُصححُ نفسَه بنفسِه.. لا يقعُ في أخطاء سابقة: ومعتقَلوه تخلوا عن لغة الحدة، ولا يعمّمون في تصريحاتِهم داخلَ المحاكمة، يُركّزون على الملفّات المطروحة، وعلى المطالبِ المشروعة، وعلى أي خلل، أو تناقضات، في ملفات المحاكمة. ويتأكد، بطريقة وأخرى، أن حراكَنا الوطني قد تجاوزَ الارتباكَ الكلامي، والانفعالَ السلوكي.. وهذا أيضا من الإشاراتِ الإيجابية، في ملف الحراك.. ويبدو أن جسورًا تواصليةً ربما ما زالت قائمةً بين قادة الحراك وجهاتٍ مسؤولة داخل سجن عكاشة.. - ربما... ومنطقيًّا لا مكانَ للحوار، أفضل من سجن عكاشة! عكاشة يبدو الأنسبَ للحوار.. وإذا كانت هذه المعطياتُ بالدقة المطلوبة، فإن لاعبًا آخر هو أيضا يتحرك.. - إنه الأفُق! وفي هذا السياق، يبدو أن ملفَّ الحراك يتّجه برُمته صوبَ الانفراج الشامل.. وقد لا يتحقق، بهذه الشمولية، إلا بعد أن تُحقق كلُّ الأطراف - اللاعبة - نصيبَها من الانتصار.. وعندئذ تكونُ كلُّ الأطراف تتقاسمُ الانتصار، على أن يكون الانتصارُ الأكبر لهيْبةِ الدولة، مع سلامةِ البلد.. أجل! هَيْبةُ الدولة، من سلامةِ البلد! وربما يحدث الانفراجُ في مستقبل قريب.. ربما يتم الإفراج - قريبا - عن معتقَلي الحراك.. وفي الأفق السياسي، نجد لاعبا آخر سيَلتمسُ تنصيبَه من كعكةِ الحراك.. وهذا اللاعب اسمُه: الحزب! كل حزبٍ لا يُفكر إلا في نفسه.. وكل الأحزاب لا يهمُّها لا انفراجٌ ولا إفراج.. تهمُّها الانتخابات.. وها هي نقاشاتٌ انتخابية تعود إلى الواجهة، في محاولةٍ للتغطية على غابةِ الحراك.. وعندما تظهر الأحزاب، تحضر العقليةُ الانتهازية.. وهنا يَتكرر المشكل.. الأحزابُ لا حديث لها، إلا عن الكعكةِ الانتخابيةِ الكبرى: كيف تتقاسمُها؟ ومن يجلسُ على كرسي رئاسةِ الحكومة؟ الأنظار السياسية تُوجِّه العدساتِ صوبَ شخصيةٍ مليارديرية.. ولا تفسيرَ لهذا إلا احتمال تحركِ جهاتٍ مسؤولة، من وراءِ الكواليس، لفرض قوةِ المال حاكمةً للبلد.. وفي هذه الحالة، يعودُ المالُ ليحكم الشأنَ المحلي والعمومي في البلد، ويتمكنَ من جلبِ استثمارات، وحلِّ بعض المشاكل الاجتماعية، ولكن بطريقتِه الانتفاعية، لا بطريقة الشارع، ذاتِ البُعدِ الحقوقي.. وسيعيد التاريخُ نفسَه في المسألة الديمقراطية: نفسُ العقلية الموجودةِ في مراكز القرار.. رؤوسُ الأموال لا تفكر إلا في مصالحها.. ومن خلال مصالحها ستَحتفظ بمُكتسباتِها، مع تقديم بعضِ الفُتات لتهدئةِ الشوارع.. وتعودُ سياسةُ العصا والجزرة في التعامل مع أية هزةٍ محتملة.. وفي هذه الحالة أيضا، وسواء تمت تهدئةُ الشارع أو لم تتم، تكون الجهاتُ المتحركة وراء الكواليس قد نجَحت في الدفع، بالغضب الاجتماعي، سنواتٍ أخرى إلى المستقبل.. وإذا كان هذا نجاحًا، فسيكون نجاحا موقتا، لتهدئة غير دائمة.. وسيكون كلُّ اللاعبين مُقتنِعين بأن عليهم أن يستعدوا لجولاتٍ قادمة من حراك آخر.. والأهم، في مَنطق من أفسدوا البلد، هو القفزُ على الحواجز الآنية، الشديدةِ الحرارة، والقذفُ بالكرة الاجتماعية الساخنة إلى غدٍ لا أحدَ يدري متى يكُون، وكيف يكُون.. وهذا يعني نقلَ الملف برُمته من الحاضر إلى مستقبلٍ مجهول.. ويبقى كلُّ اللاعبين يُرددون نفسَ لغة الشارع، ومَضمُونُها: محاربة الفساد، العدالة الاجتماعية... ولكلٍّ من الأطراف تفسيره الخاص لمفهوم الفساد، ومعنى محاربةِ الفساد.. وهنا أيضا قد يبحثُ الفاسدون الحقيقيون ببعضِ مؤسساتنا، عن أكباشٍ جديدة، وعن حصانِ طروادة، لكي يتمَّ بها إلصاقُ مسؤوليةِ كل الفساد.. وستختلطُ الأوراقُ من جديد.. - والحلُّ يَكمن في تطهيرِ مؤسساتنا.. ما زال فيها فاسدُون يحاربون العقل.. ولا يريدون للحِكمةِ أن تسُود.. [email protected]