بعد سبع سنوات من الاحتجاجات الشعبية وتعبير الشارع العربي عن الرغبة في التغيير السياسي والاجتماعي وإحداث الطفرة النوعية المنتظرة لإخراج الشعوب من عباءة الأنظمة الوصية في المنطقة العربية وتغيير الأنظمة الأوثوقراطية التي طالما احتكرت المشهد السياسي والعسكري والأمني، حان الوقت لنطرح سؤال الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي وماذا تحقق من كل هذه المشاريع البديلة عن الأنظمة المنتهية صلاحيتها بفعل الضغط الشعبي وتشابك النظام العولمي وتقاطع الأجندات الداخلية والخارجية، وماذا جنت أبرز النماذج العربية من إسقاط النظام السياسي وإحلال بدائل ما زالت تختط لنفسها مسارات جديدة وتجتاز حقول الغام قابلة للانفجار في ممارستها للسلطة السياسية. إن تونس، التي تعدّ مهد وملهم للحراك السياسي في الوطن العربي، أدركت أن التحول السياسي نحو التعددية السياسية الحقيقية وزرع واحة الديمقراطية في منطقة تعيش على إيقاع الفوضى والاضطراب ليس بالأمر اليسير، لوجود تيارات وجيوب المقاومة وانحسار الظاهرة الإسلامية التي اعتبرت نفسها البديل وركوبها موجة الصراعات السياسية للوصول إلى السلطة؛ في حين ظلت فلول النظام القديم تمارس كعادتها مقاومة شديدة للتغيير في جسم سياسي معتل، بل وتعيد إنتاج الأنماط السلطوية نفسها التي أثثت المشهد السياسي العربي منذ استقلال هذه الأقطار عن المشاريع الاستعمارية. إن معادلة الديمقراطية والتنمية من أعقد الشفرات التي يلزم حلها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما أن انعدام الأمن واندلاع الصراعات المسلحة في أكثر من وطن عربي أبرزها في سوريا وليبيا واليمن يعقد من مرور المجتمعات العربية السلس الى توافقات سياسية هادئة، مع التأرجح بين الحلول الاستئصالية الراغبة في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عبر خلخلة التوازنات المجتمعية والانتصار للنزعات الهوياتية والدينية والطائفية، سواء تعلق الأمر بتدخلات دول إقليمية لعبت ورقة الطائفية أو بالقضاء على تيارات إيديولوجية مختلفة الرؤى والمشارب، وما يعقب ذلك من خطر تغيير الخرائط والتوازنات الجيوسياسية في منطقة تتجاذبها العديد من الصراعات الإقليمية والدولية. تعثر نماذج التغيير السياسي من المسلمات في علم السياسة أن الصراع السلمي على السلطة هو الآلية الحضارية التي يلجأ إليها الفرقاء السياسيون لتنزيل البرامج الانتخابية بعد الظفر بثقة الناخبين في انتخابات حرة ونزيهة؛ لكن تدجين آلية الانتخاب في الوطن العربي واختصارها في انتخابات موجهة على المقاس أسهم في تراكم أزمات الأنظمة المغلقة المتجاوبة فقط مع نخب موالية للسلطة السياسية؛ وهو ما أسهم في تحريك المياه الراكدة للأغلبية الصامتة التي ما عادت تستسيغ سيطرة الأنظمة الأبوبة بما يصاحبها من تحالف بين المال والسلطة وسيطرة الأعيان والنخب المالكة واحتكارها لمقدرات هذه البلدان. غير أن تغيير الأنظمة من الناحية الشكلية في تونس وفي مصر وليبيا واليمن قابله انتشار الفوضى والمليشيات في العالم العربي، وظهور التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم الدولة الإسلامية وعودة المؤسسة العسكرية في مصر وحروب أهلية دولية في سوريا واليمن وغياب الحكومة المركزية في ليبيا واستفحال أزمة اللاجئين وتجارة الأسلحة والبشر. وفق التقديرات الدولية، تحولت العديد من الدول العربية إلى دول فاشلة غير قادرة على إدارة دواليب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية، ومخترقة بواسطة التدخلات الأجنبية والجماعات الإرهابية التي تلتقي كلها في نقطة تحويل المنطقة الى واقع ما قبل اتفاقية سايس بيكو 1916. منطق ما بعد الثورات في الحقيقة من يعتقد أن التخلص من الديكتاتورية والأنظمة الفاسدة في الوطن العربي يعتبر الهدف الأسمى للثورات المزعومة، يكون بالفعل قد أخطأ التقدير والفهم الجيد لطبيعة الميثاق الأخلاقي والتنموي الذي يؤسس للدينامية الاجتماعية من منظور تدريجي وإصلاحي. إن بناء المؤسسات الديمقراطية وجسور الثقة بين الحاكمين والمحكومين وبناء الدولة القوية على أسس صلبة ومتوازنة هي من المطالب الصعبة والرهانات الحية التي ما زالت الشعوب العربية تطمح إليها. كما أن التغيير الفكري الحقيقي في منطق التحولات السياسية يجب أن يؤسس لمستقبل الصراعات المجتمعية وتغيير واقع الشعوب ما بعد المرحلة الانتقالية دون السقوط في مغبة الفوضى وتكبيد الأوطان خسائر جسيمة ترتهن مستقبل البلدان لعديد من السنوات ويصبح لسان حال العديد من الفئات المهمشة في الوطن العربي يتوق إلى ديكتاتورية متوافق بشأنها مع الحد الأدنى من العيش والاستقرار والأمن، بدل ديمقراطية شكلية وهشة تحكم بنفس العقليات ويصعب معها وضع آليات الرقابة والحكامة الجيدة والشفافية وتطبيق أجود الممارسات السياسية على أرض الواقع. ما من شك أن التجربة التونسية ألهبت جماهير الشعوب العربية للتغيير السياسي؛ لكنها ما زالت تتخبط في معضلات سياسية واقتصادية واجتماعية؛ ذلك أن سقوط نظام بنعلي لم يطوِ صفحة نظام ديكتاتوري وفاسد إلى الأبد، بل شكل مجرد بداية لمرحلة شاقة وعسيرة لوضع نظام دستوري قوي. وهذا الرهان استغرق أزيد من سنتين لتحقيقه مع وجود حد أدنى من التوافق بين عناصر الصراع السياسي. من بين أهم العوامل التي أسهمت في سلمية الحراك في تونس هي حيادية الجيش التونسي من الصراع والتقارب والتشابه الثقافي لأهم فئات النخب التونسية من أوروبا، ويمكن إضافة عنصر آخر يكمن في دور حزب النهضة الإسلامي في إدارة الاختلاف السياسي في تونس. بالمقابل، افتقدت الدول العربية الأخرى إلى مقومات نجاح التغيير وآليات التداول على السلطة وانزلاقها نحو العنف كما هو الحال في ليبيا واليمن بعدما تسبب القذافي والرئيس المقتول علي عبد الله صالح في ترسيخ البنية الانقسامية القبلية في مجتمعاتهما التي لم تألف ممارسة الديمقراطية والاختلاف والتعايش مع معارضة سياسية قوية. كما شهدت مصر صراعا بين تيارات علمانية مختلفة تتقدمها المؤسسة العسكرية من جهة وجماعة الإخوان المسلمين من جهة ثانية، انتهت بعودة النظام العسكري إلى السلطة في 2013 بعد تجربة بسيطة لحكم الإسلاميين الذين ركبوا موجة ثورة يناير الشبابية دون أن يسهموا في صنعها، وفشلوا في إحداث قطيعة مع النظام السابق الذي ظل متحكما في كل خيوط اللعبة السياسية. الإصلاح والتنمية.. مداخل التغيير بالتأكيد أن جنة الديمقراطية الغربية لم تتحقق في العالم العربي بمجرد إسقاط الأنظمة وبالسهولة التي كان تتصورها الجماهير الغاضبة أو ما سمي في حينه بثورة الجياع والناقمين على فساد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لأن الاضطرابات الاجتماعية قفزت دون وعي عن حقيقة الواقع الاقتصادي لبلدانها والمترابط دوليا والخاضع للإملاءات الغربية وصندوق النقد الدولي، مع انهيار تأثير الإيديولوجيا في المرحلة النيوليبرالية التي استوعبت كل الاقتصادات في الدول النامية والفقيرة وأخضعتها للمراقبة والتوجيه والتدبير الدولي، بمعنى أن موجة الإسلاميين التي ظهرت بعد ما سمي بالربيع العربي لم يكن لديها برنامج اقتصادي يستطيع تحقيق المعجزة والطفرة الاقتصادية المنشودة خارج سياق الاقتصاد العولمي ومفهوم الاعتماد المتبادل واتفاقيات التجارة العالمية. إن نهج السياسات الواقعية من قبل الحكومات الغربية أسهم في الارتقاء بالممارسات الديمقراطية وارتفاع منسوب الشفافية والمحاسبة، بغض النظر عن الانتماء الحزبي والسياسي، حيث تخضع كل المكونات السياسية لذات المنطق، كما تحاسب على برامجها الناجزة ومدى قدرتها على تطوير مجتمعاتها دون السقوط في شرك الانتماء والمحاباة والتماهي مع كل التلوينات السياسية، وحتى من يعتقد أن النموذج التركي هو جدير بالاتباع وأن ما حققه من النجاحات الاقتصادية يستند إلى نظرية إسلامية في الاقتصاد، أو على نموذج الدولة الدينية ذات الشعارات الإيديولوجية، فهو يخالف الواقع؛ فعلى العكس، راهنت تركيا على الاقتصاد الليبرالي واقتصاد السوق واتبعت نفس قواعد الاقتصاد العالمية، كما تشبعت بالممارسة العقلانية لتطوير منظور التنمية القائم على محاربة الفساد والنخب السياسة الفاسدة وتكريس التنافسية الاقتصادية واقتسام الفرص الاستثمارية المتاحة واستغلال الشراكات مع البلدان الغربية وحتى إسرائيل التي كثيرا ما يهاجمها أردوغان في خطاباته واستبعاد المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي، مع تركيز السلطات الدستورية في يد رئيس الجمهورية، والتشبث بعلمانية ممارسة السلطة واستغلال ورقة الاسلام السياسي. يبدو أن مدخل الإصلاح والتنمية في الكثير من البلدان التي تجاوزت مأزق الاحتجاجات الاجتماعية أو تعاملت معها بنوع من المرونة والاستيعاب الجيد لمطالب شعوبها الاجتماعية العادلة، هو المدخل الحقيقي الذي يبدأ أساسا بتكريس البناء الدستوري والمؤسساتي والممارسة السياسة السليمة ولحكامة الجيدة والانفتاح على التغيير الإيجابي في العقليات والسلوكيات والبحث عن تطوير استراتيجيات التنمية، وفهم حقيقة البنيات السياسية للدول العربية غير المتشابهة مع المنظومة الفكرية الغربية. إن نجاح التنمية يمر عبر بوابة الإصلاح السياسي الحقيقي والتعاطي مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية بعقلية جديدة تجعل الإنسان في صلب اهتمام الأنظمة السياسية واعتباره المحرك الحقيقي للتنمية وتطوير المجتمع والارتقاء به إلى مراتب متقدمة. انتقال ديمقراطي أم فوضى من جهة أخرى، أسهمت استدامة الأزمات المزمنة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والاضطرابات المركبة وغموض ميكانيزمات التحول الديمقراطي واستفحال الأزمات الاقتصادية وارتفاع منسوب الهجرات القسرية نحو بلدان الجوار وإلى الدول الغربية وتنافس القوى الإقليمية المتصارعة والرؤى المتناقضة للقوى الكبرى في انتشار الفوضى وتراجع بناء المجتمعات العربية على اساس متلازمة الحرية والعدالة الاجتماعية، لتنتقل العديد من هذه الدول كسوريا وليبيا إلى مرحلة الصراعات المسلحة بين كل المكونات السياسية والمعارضة والفواعل الإقليمية التي تبحث عن موطئ قدم لها في المنطقة بحثا عن امتيازات استراتيجية اقتصادية وسياسية طويلة المدى. ما يميز هذه الدينامية المدمرة هو الانتقال من الاحتجاج الاجتماعي إلى رفع الشعارات السياسية المطالبة بإسقاط النظام لتنتهي بالمواجهات المسلحة وحروب غير متناهية وضياع فرص التوافق السياسي على أساس الحوار البناء والتعايش بين مكونات المجتمع القبلية والطائفية والدينية وحل أزمة الهوية المركبة ودعم بناء الدولة الأمة بالمفهوم الوستفالي، مع انتشار المليشيات والجماعات الإرهابية التي تسهم في تحقيق نفس المسعى الانقسامي. لا يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطي سلمي للسلطة دون وجود بيئة آمنة ومجتمعات تنعم بالاستقرار والأمن، مما يفيد أن نظرية الفوضى الخلاقة التي روجت لها كثيرا الادارة الأمريكية والتي مؤداها أن الصراعات والخلافات العقدية والمسلحة قد تفضي في النهاية إلى توافقات سياسية وإلى انتقال حقيقي نحو الديمقراطية، كانت دعاية ونظرية خاطئة؛ وهو الأمر الذي لم يحدث وباتت المنطقة العربية مهددة بتمزيق أوصالها وخلق واقع جيوسياسي جديد على الأرض خلافا لواقع ما قبل 2011 بتضافر وتنافس القوى الإقليمية كإيران وتركيا وتنسيق وأحيانا تقاطع مصالح واشنطن وموسكو. *أستاذ العلاقات الدولية، خبير في الدراسات الاستراتيجية والأمنية