الحركية السياسية الكبيرة التي يعيشها العالم العربي تتجه نحو إفراز ثقافة سياسية جديدة تستند على مناهضة الاستبداد وترسيخ جذور الممانعة ضد أي شكل من أشكال التعايش مع مفرداته وتعبيراته، هذه الثقافة لم تترسخ بعد عند الجميع ولا زال البعض يحن إلى بعض النقاشات العقيمة التي لن تسهم في نهاية المطاف إلا إلى إعادة إنتاج الأنظمة السلطوية في أشكال جديدة، ومن المفيد أن نذكر في هذا السياق أن الربيع العربي للديموقراطية لم يكتمل بعد ومن الصعب الحديث عن إنجاز تحول ديموقراطي حقيقي في ظل نخب سلطوية حاكمة غير ديموقراطية وأخرى متشبعة حتى النخاع بمرض الطائفية والعقلية الحزبية المقيتة ولا تمتلك من التحرر الفكري ما يؤهلها لإنتاج ثقافة سياسية بديلة قائمة على ثلاثية الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. نحن مع استثمار اللحظة التاريخية الراهنة لإطلاق مبادرات متعددة للحوار ولبلورة عناصر للتفاهم المشترك بين النخب الوطنية المختلفة، لكن مع ضرورة التمييز بين هذه اللحظة "التأسيسية" وما تستلزمه من قواعد، وبين اللحظة "التنافسية" التي لم تتبلور معالمها بعد إلا في ظل النظام الديموقراطي الحقيقي، وهو الهدف الذي لم يتحقق بعد. ولذلك هناك حاجة ماسة لضرورة التفكير في تطوير أدوات التواصل السياسي بين التيارات الفكرية والسياسية المختلفة لمواجهة التحديات المشتركة وأهمها على الإطلاق مناهضة الاستبداد في مختلف تجلياته وتعبيراته. في المغرب لا يشكل الإسلاميون كتلة متجانسة كما أن اليسار ليس كتلة متجانسة، فهناك اختلافات حقيقية بين الإسلاميين على المستوى الفكري والسياسي، كما أن اليسار المغربي تفرعت عنه مسلكيات سياسية وفكرية متباينة تصل إلى درجة التعارض فيما بينها في العديد من القضايا والمواقف. ومن تم فإن طبيعة العلاقة بين الاتجاهات المحسوبة على اليسار والاتجاهات المحسوبة على الإسلاميين هي علاقة متشابكة ومتداخلة وليس من السليم تناولها على سبيل التعميم أو إصدار أحكام قطعية بصددها، بل إن الكثير من المقولات تحتاج إلى إعادة تقليب النظر فيها من زوايا مختلفة: فمقولة اليسار ارتبطت تاريخيا بموقع سياسي ينحاز إلى الدفاع عن القضايا الاجتماعية وعن دور الدولة في المجال الاقتصادي والاجتماعي وعن دعم حركات التحرر الوطني، ثم تطورت رسالته فيما بعد للنضال من أجل الديموقراطية وحقوق الإنسان والنضال من أجل الحريات ومن أجل البيئة والتنمية. في زمن الإيديولوجيات ارتبطت نشأة اليسار بالاشتراكية والحلم الشيوعي، لكن لا ينبغي اعتبار الإيديولوجية الماركسية جزءا من هوية اليسار، بحيث يمكن للإسلامي أن يكون يساريا (بالمعنى المذكور) إذا تبنى المقولات السابقة التي لا تتعارض في شيء مع القيم الإسلامية الداعية إلى الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية ومناهضة الاستبداد ورفض الظلم...كما تبدو مقولة الإسلاميين بدورها في حاجة إلى مراجعة فالإسلاميون الذين يمارسون السياسة من خلال تنظيمات سياسية معينة، هم في الواقع عبارة عن أحزاب سياسية عادية، ما يميزها عن باقي الأحزاب هو طبيعة نشأتها المرتبطة بالحركات الإسلامية التي ظهرت مع بداية التسعينات وتطورت مع مرور الوقت من تنظيمات شمولية تهتم بالدعوة والعمل الاجتماعي إلى أحزاب سياسية تحمل برامج سياسية تلتقي في الكثير من مضامينها مع الأفكار التي كان يطرحها بعض اليسار في مرحلة معينة، ربما بحمولة إسلامية واضحة لكنها في الجوهر تخدم نفس المقاصد والغايات.... هناك اليوم على العموم تعايش في ظل اختلافات واضحة بين أغلب الاتجاهات اليسارية والاتجاهات الإسلامية، يتطور في بعض الأحيان إلى التنسيق المشترك في بعض قضايا النضال الميداني الحقوقية والسياسية ثم يتراجع على أرضية بعض القضايا المرتبطة بالهوية وموقع الدين في الحياة العامة....وطبعا داخل كل اتجاه هناك غلاة ومتطرفون يوجدون في الهامش، إما في أقصى اليسار أو في أقصى الإسلاميين.. هناك اليوم إمكانيات للفعل المشترك بين بعض التنظيمات "الإسلامية" وبعض التنظيمات "اليسارية" إذا تم التخلص من بعض الأحكام المسبقة بين الطرفين ومن عقلية التعالي، وتأجيل النقاش حول بعض القضايا ذات الطبيعة الفكرية من أجل ترسيخ قواعد الفعل الديمقراطي وبناء دولة القانون ... وهنا لابد من التأكيد مرة أخرى على أن الإسلاميين لا يقفون على مسافة واحدة من مفهوم الديمقراطية، كما أن اليسار المغربي ليس متجانسا بصدد مقولة العلمانية التي يتخوف منها الإسلاميون، كما أن الفصائل اليسارية بدورها تتوفر على تيارات ديمقراطية وأخرى تصدر عن نزعة براغماتية غير ديموقراطية تعبر عن نفسها في بعض المحطات كما حصل بعد أحداث 16 ماي بالنسبة لبعض الأصوات "اليسارية" التي حاولت تصفية حساباتها مع خصمها السياسي(العدالة والتنمية) بطريقة غير ديمقراطية وغير أخلاقية. كما أنه إذا تأملنا في أدبيات الأحزاب "اليسارية" سنلاحظ أن بينها شبه إجماع على تجاهل مصطلح العلمانية، وتشير في وثائقها بشكل أو بآخر إلى انتمائها الحضاري الإسلامي، بل إن مذكرات الكتلة للإصلاحات الدستورية في بداية التسعينات كانت تنص على ضرورة ضمان عدم التعارض بين القوانين والتشريعات مع تعاليم الدين الإسلامي، ولذلك فإنه من الناحية النظرية لا توجد لدينا أحزاب علمانية بالمعنى الفلسفي للكلمة..ولكن لدينا –في الاتجاه الآخر- اتجاهات سياسية أكثر قدرة على استلهام القيم الإسلامية في برامجها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الوقت الذي تراجع فيه الخطاب "الإسلامي" في برامج الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية وخاصة الأحزاب اليسارية.. في اعتقادي، المستقبل هو للاتجاهات التي تستطيع داخل كلا الطرفين بلورة برامج واقعية لها عمق إسلامي وطني ديمقراطي، وتستطيع رسم خطاطة واضحة للتمييز بين مجال الدين ومجال السياسة وتتجاوز فكرة الارتهان بثنائية الخلط المطلق بين الدين والسياسة أو الفصل الحدي بينهما(العلمانية المتطرفة). إنجاح العلاقة بين الطرفين مرتبط بتجاوز بعض القيم السلبية ، ومنها أسلوب الإقصاء، فالإقصاء مرتبط بالثقافة السياسية التي أفرزتها البيئة السياسية المغربية منذ السنوات الأولى للاستقلال، بل وقبل أن يتبلور اليسار أو الإسلاميين في أطروحات سياسية متباينة، فقد كانت هناك محاولات لإقرار مبدأ الحزب الوحيد في المغرب، وشهدت السنوات الأولى للاستقلال صراعا عنيفا بين الفرقاء السياسيين وصل إلى حد القيام بتصفيات جسدية متبادلة بين بعض الأحزاب السياسية كما تأخرت بعض التشكيلات اليسارية كثيرا في القبول بمبدإ الديمقراطية، ولازالت بعض امتداداتها موجودة إلى اليوم، كما أن بعض الاتجاهات الإسلامية لا زالت مترددة بخصوص موضوع الديموقراطية ولم تستطع الحسم فيه بشكل واضح... ولكن مع ذلك يمكن القول بأن ثقافة الإقصاء بدأت بالتراجع مادام كل طرف مقتنع بمشروعية تواجد الطرف الآخر ويؤمن بضرورة الاعتراف بمشروعية تواجده خصوصا في ظل هذه الظرفية الدقيقة التي لا صوت فيها ينبغي أن يعلو فوق مناهضة الاستبداد وتفكيك السلطوية المتجددة التي كشرت عن أنيابها من جديد...