النقابة الوطنية للإعلام والصحافة … يستنكر بشدة مخطط الإجهاز والترامي على قطاع الصحافة الرياضية    المغرب التطواني يندد ب"الإساءة" إلى اتحاد طنجة بعد مباراة الديربي    الجزائر و "الريف المغربي" خطوة استفزازية أم تكتيك دفاعي؟    "بين الحكمة" تضع الضوء على ظاهرة العنف الرقمي ضد النساء    في حلقة اليوم من برنامج "مدارات" : عبد المجيد بن جلون : رائد الأدب القصصي والسيرة الروائية في الثقافة المغربية الحديثة    العائلة الملكية المغربية في إطلالة جديدة من باريس: لحظات تجمع بين الأناقة والدفء العائلي    أساتذة اللغة الأمازيغية يضربون    رقم معاملات "مكتب الفوسفاط" يتجاوز 69 مليار درهم خلال 9 أشهر    نزاع بالمحطة الطرقية بابن جرير ينتهي باعتقال 6 أشخاص بينهم قاصر    التوفيق: قلت لوزير الداخلية الفرنسي إننا "علمانيون" والمغرب دائما مع الاعتدال والحرية    الجديدة مهرجان دكالة في دورته 16 يحتفي بالثقافة الفرنسية    اللحوم المستوردة تُحدث تراجعا طفيفا على الأسعار    توهج مغربي في منافسة كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي بأكادير    مسرح البدوي يواصل جولته بمسرحية "في انتظار القطار"    شيرين اللجمي تطلق أولى أغانيها باللهجة المغربية    اتحاد طنجة يكشف عن مداخيل مباراة "ديربي الشمال"        الأمم المتحدة.. انتخاب هلال رئيسا للمؤتمر السادس لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    تهديد أوكرانيا بتصنيع القنبلة الذرية زوبعة في فنجان لكسب مزيد من الدعم المالي للغرب    القنيطرة.. تعزيز الخدمات الشرطية بإحداث قاعة للقيادة والتنسيق من الجيل الجديد (صور)    توقيف فرنسي من أصول جزائرية بمراكش لهذا السبب    البيت الأبيض: جو بايدن سيحضر حفل تنصيب دونالد ترامب        بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    برقية شكر من الملك محمد السادس إلى رئيس بنما على إثر قرار بلاده بخصوص القضية الوطنية الأولى للمملكة    غوارديولا قبل مواجهة فينورد: "أنا لا أستسلم ولدي شعور أننا سنحقق نتيجة إيجابية"    طقس الثلاثاء: أجواء حارة نسبيا بعدد من الجهات    مواجهة مغربية بين الرجاء والجيش الملكي في دور مجموعات دوري أبطال أفريقيا    حوار مع جني : لقاء !    الدولار يرتفع بعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا والصين        مرشد إيران يطالب ب"إعدام" نتنياهو    الرباط: تقديم كتاب 'إسماع صوت إفريقيا..أعظم مقتطفات خطب صاحب الجلالة الملك محمد السادس'    المناظرة الوطنية الثانية للفنون التشكيلية والبصرية تبلور أهدافها    عبد اللطيف حموشي يبحث مع المديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية التعاون الأمني المشترك    تزايد معدلات اكتئاب ما بعد الولادة بالولايات المتحدة خلال العقد الماضي    ملتقى النقل السياحي بمراكش نحو رؤية جديدة لتعزيز التنمية المستدامة والابتكار    ترقب لقرار إسرائيلي حول وقف إطلاق النار مع حزب الله ووزير الأمن القومي يعتبره "خطأ كبيرا"    اندلاع حريق ضخم في موقع تجارب إطلاق صواريخ فضائية باليابان    تطوان: اعتداء غادر بالسلاح الأبيض على مدير مستشفى سانية الرمل    بمناسبة الحملة الأممية لمناهضة العنف ضد النساء.. ائتلاف يدعو إلى المنع التام لتزويج الطفلات    العالم يحتفل باليوم العالمي لشجرة الزيتون    إطلاق شراكة استراتيجية بين البريد بنك وGuichet.com    صقر الصحراء.. طائرة مغربية بدون طيار تعيد رسم ملامح الصناعة الدفاعية الوطنية    المحامي والمحلل السياسي الجزائري سعد جبار: الصحراء الشرقية تاريخياً مغربية والنظام الجزائري لم يشرح هوسه بالمغرب    الرباط.. انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية    تحرير محيط مدرسة للا سلمى من الاستغلال العشوائي بحي المطار    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



احتفالات رأس السّنة الأمازيغيّة والتنوّع الثقافيّ في المغرب
نشر في هسبريس يوم 13 - 01 - 2018

يتأهّبُ "مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسّلم"، كما هو دأبه، كلّ حوْل لتنظيم احتفالات السنة الأمازيغية (2968) بمكناس أيام 26-27-28 يناير 2018 بعقد ندوة تأسيسية في موضوع "حوار الثقافات وأسئلة الهوية" الغاية من هذه الندوة صياغة المبادئ العامة لإعلان خاص بدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط سيتم اعتماده في اختتام ندوة دولية أخرى ستتنظم في مطلع شهر مايو المقبل من العام الجاري 2018 بمدينة الرباط في الموضوع نفسه، على أن يتوسع الاشتغال لاحقاً على مناطق محيط دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، والتي ستكون مناسبة لتسليم "الجائزة الدولية ذاكرة من أجل الديمقراطية والسلم" في نسختها الثالثة.
الاحتفالات بالسنة الأمازيغية أو السنة الفلاحية الجديدة، أو يوم الأرض سيتخللها تقديم أشرطة سنيمائية، وعروض وثائقية ذات أبعاد تاريخية، وثقافية، وإبداعية، وإقامة حفلات صاخبة بمشاركة فرق موسيقية معروفة، وغالباً ما تختتم هذه الاحتفاليات بإطلاق الشّهب الاصطناعية في السّاحة الإدارية الشاسعة بالعاصمة الإسماعيلية الفيحاء.
وبمناسبة احتفالات السنة الأمازيغية الفارطة 2017 (2967) من تنظيم كلٍّ من "مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسّلم" الذي يرأسه الباحث عبد السلام بوطيّب، و"جمعية أدرار للثقافة والرياضة تيكوين" (أكادير) عرفت كلٌّ من مدينتي مكناس وأكادير تظاهرات كبرى تخلّلتها ندوات، وموائد مستديرة، وعروض سينمائية، ومعارض فنيّة، ولقاءات بين أساتذة، وكتّاب، ومثقفين، وخبراء متخصّصين، فضلاً عن ممثلين لبعض الأحزاب السياسية، حول مختلف المواضيع ذات الاهتمام المشترك تحوم معظمها حول القضيّة الأمازيغية، والهويّة الوطنية، بمشاركة العديد من الفنانين من المغرب وخارجه، كما تمّ خلال هذه الاحتفالات تكريم بعض الشخصيّات المغربية في مختلف المجالات.
وقبل هذا التاريخ أي عام 2016، سبق أن نظّم "مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسّلم" حفل السنة الأمازيغية (2966)، حيث نظمت بهذه المناسبة ندوة فكرية كبرى حول موضوع "الهوية بين الكونية والخصوصية"، وكانت هذه الندوة عبارة عن لقاء مفتوح تخلله حوار ثريّ بين صفوة من الباحثين الأكاديميين، والأساتذة الجامعيين، ونخبة من الإعلاميين والفاعلين المدنيين عرفت مداخلات متنوّعة حول المواضيع التي لها صلة من بعيد أو قريب بموضوع " الهويّة" المغربية بين الكونية والخصوصية" على امتداد التاريخ. ومن أبرز المحاور التي عالجتها هذه الندوة مكونات جذور الهوية ومعطياتها ومقوماتها، وتجلياتها، فضلاً عن العلاقات التي تربط بين هذه المكونات، وحدود التعايش أو المواجهة بين مرجعياتها القديمة والجديدة، والأدوار التي تضطلع بها مقاربات تعدد مقوّمات الهوية المغربية الحقوقية، والاجتماعية، والدينية. كما عالجت الندوة وظائف التعدد اللغوي، وصلة كل هذه المعطيات بوسائل الإعلام ومؤسسات التنشئة الاجتماعية على اختلافها، ودور المتخصّصين من الأكاديمييّن، والباحثين والفاعلين المدنيين في صياغة مقاربات، بين مختلف القضايا التي تثار حول إشكالية الهوية والذاكرة المشتركة ،وسبر آفاق المستقبل والرّؤى الاستشرافية والانفتاحية والفكرية والمنهجية لهذه الهوية، ولقد تشرّفتُ بحظوة المشاركة في هذه التظاهرات الثلاث الآنفة الذكر.
حول هذه المحاور، والمُعطيات وسواها من قضايا الهوية والتعدّد الثقافي، والتنوّع اللغوي والإثني في المغرب سيدور موضوع هذا المقال:
السّنة الأمازيغيّة
ترجّح معظمُ المصادر، والمراجع، والمظانّ أنّ كلمة "أمازيغي" تعني الرّجل الحرّ أو النبيل، ويؤكّد الحسن بن محمد الوزّان المعروف بليون الأفريقي صاحب كتاب "وصف إفريقيا"، وسواه ذات المعنى كذلك، وبذلك تكون لفظة "الأمازيغ" تعني (الرّجال الأحرار أو النبلاء)، وهم مجموعات سكنية تقطن المناطق الممتدّة بين واحة سيوة (غربي مصر) شرقاً، إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن شمال البحر الأبيض المتوسط، إلى جنوب الصّحراء الكبرى، وقد احتفل الأمازيغ يوم 13 يناير الجاري 2018، في مختلف هذه الضّيع، والأرباض، والمناطق، والنواحي، والجهات، والبقاع، والأصقاع بهذا اليوم الموافق لفاتح السنة الأمازيغية الجديدة التي تصادف هذا العام الذكرى 2968.
وحسب جلّ الرّوايات فإنّ هذا الاحتفال يُقرن بانتصار الأمازيغ، بقيادة ملكهم "شيشنق" أو "شيشونغ" على فرعون مصر عام 950 قبل الميلاد. ولطقوس ومظاهر هذه الاحتفالات صلات وثقى، وعلاقات وطيدة بخصوبة الأرض، وتطلّع الأمازيغ بأن تكون السّنة الجديدة سنة فلاحية، خصبة، خيّرة، جيّدة، معطاءة حافلة بالمنتوجات، والخيرات التي كان لها دائماً ارتباط وثيق بالأرض، ومن ثمّ ينبع حبّهم للأرض، ويتولّد تشبّثهم بها، ودفاعهم عنها، كباقي السكّان من مختلف الأجناس، والأعراق، والإثنيات في مختلف أنحاء المعمور.
ويشير الأستاذ حسن إدبلقاسم، الخبير السابق لدى الأمم المتحدة حول حقوق الشعوب الأصلية، إلى "أنّ طقوس احتفالات الأمازيغ برأس السنة الأمازيغية لا يزال محتفظا بها في كلّ من المغرب، وبقيّة بلدان شمال أفريقيا وغربها، وفي موريتانيا، ومالي، والساّحل، حيث يوجد الطوارق، إضافة إلى نيجيريا". في حين يرى الأستاذ محمد حنداين، رئيس كونفدرالية الجمعيات الأمازيغية في المغرب (غير حكومية): "أنّ الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة يدخل ضمن أساليب النضال الأمازيغي من أجل إقرار الحقوق الأمازيغية، لأنّ الاحتفال بالسنة الأمازيغية هو أحد الرّموز الأساسية التي استثمرها المناضلون الأمازيغ لإبراز هويّتهم". ويشير الأستاذ سعيد أهمان ضمن تحقيق نشرته جريدة "القدس العربي" اللندنيّة مؤخّراً حول هذا الموضوع أيضاً: "أنّ معظم الباحثين يرجّحون أنّ "شيشنق" تمكّن من الوصول إلى الكرسي الفرعوني بشكل سلمي في ظروف مضطربة بمصر، حيث استعان به مصريّون قدماء ضدّ الاضطرابات التي عمّت مصرَ القديمة جرّاء تنامي سلطة العرّافين والكهنة".
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ أمازيغ المغرب ما انفكّوا بالفعل يطالبون الحكومةَ بإلحاح في مطلع كلّ سنة أمازيغية، وفى كلّ مناسبة لإقرار يوم فاتح السنة الأمازيغية من كلّ حَوْل يومَ عطلة رسمية مُؤدّى عنها وذلك تماشياً، وانسجاماً مع اعتراف الدستور المغربي (2011) باللّغة الأمازيغيّة كلغةٍ رسميّةٍ للبلاد إلى جانب اللغة العربيّة، وكانت الفيدرالية الوطنية للجمعيات الأمازيغية بالمغرب قد طالبت رئيس الحكومة سعد الدين العثماني ب"القطع مع التردّد وإصدار مرسوم يقرّ برأس السنة الأمازيغية عيداً وطنياً". في مقابل ذلك دعا التجمع العالمي الأمازيغي الأحزاب السياسية والجمعيات إلى مقاطعة العمل والدراسة في الثالث عشر من يناير، احتجاجاً على عدم الإقرار الرّسمي برأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية مؤدّى عنها، على غرار السنتين الميلادية والهجرية، معتبراً أنّ الخطوة تأتي "عملاً بمبدأ الترسيم الشعبي، ومن أجل انتزاع الترسيم الرّسمي لرأس السنة الأمازيغية كعيد بعطلة، "إلاّ أنّ رئيس الحكومة خلال انعقاد المجلس الحكومي، يوم الجمعة 12 يناير 2018 تجاهل المطالب التي عبّرت عنها العديد من الفعاليات الجمعوية والسياسية، الداعية إلى إقرار رأس السنة الأمازيغية عيداً وطنياً وعطلة مدفوعة الأجر، ومعروف أن الجزائر الشقيقة اعتمدت مؤخراً رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية مدفوعة الأجر على غرار عطل السنتين الميلادية والهجرية وباقي المناسبات الأخرى، وهي سابقة أولى من نوعها في شمال إفريقيا.
روافد وينابيع الهوية المغربية
يؤكّد الدّارسون تمشياً مع هذا السياق أنّ تاريخ المغرب، وتراثه العريق مستوحيان من هويّة وينابيع مغربية أصيلة، وروافد وافدة متداخلة متعدّدة، وإن اختلفت مصادرها، وأصولها، وتباينت لغاتها وألسنتها، فقد انبثقت مقوّمات الهويّة المغربيّة الموحّدة التي تلاحمت وانصهرت في بوثقةٍ فريدةٍ مميّزة متماسكة بكلّ مكوّناتها، الأمازيغيّة، والعربيّة، والصّحراوية، والحسّانية الإسلاميّة، الغنيّة بروافدها الإفريقية، والأندلسيّة، والعبريّة، والمتوسطيّة وما فتئت العديد من النصوص، والوثائق، والمظانّ، وأمّهات الكتب والمخطوطات، والأشعار، والآداب، والفنون، والعلوم التي أبدعها كتّاب، وفلاسفة، وعلماء، وشعراء، ومؤلفون مغاربة أقاموا واستقرّوا، أو ولدوا وترعرعوا، في هذا الرّبع القصيّ الجميل الكائن في الشمال الغربي الإفريقي، إلى جانب المعالم التاريخية، والمآثر العمرانية، والقلاع الحصينة، والدّور، والقصور، والجوامع والصوامع، والبساتين الفسيحة، والحدائق الغنّاء التي تبهر الناظرين، فضلاً عن العادات والتقاليد المغربية الحميدة التي تأصّلت في أعراف وذاكرة الشعب المغربي في مختلف مناحي الحياة، كلّ ذلك ما زال شاهداً إلى اليوم على مدى الأوج الذي أدركه الإشعاع الحضاري في هذا البلد. فهذا الغيث الفيّاض المنهمر والمتنوّع من الإبداعات الرفيعة في مختلف الميادين لا يمكنه أن يحيا وينمو ويزدهر من لا شيء، أو داخل حدود ضيّقة أو منغلقة، بل إنّه ظهر وترعرع وازدهر ووقف مشرئبّاً اعتماداً على نبعه الأصيل، واغترافاً من معينه الأوّل وهو تاريخ المغرب التليد، وتراثه العريق، وموروثاته الحضارية ذات الّرّوافد الثقافية المتعدّدة والمتنوّعة الثريّة التي تكوّن فى آخر المطاف هويّة وطنيّة "مغربية" موحّدة متماسكة بتفاعلها فيما بينها تاريخاً، وثقافة، وتراثاً، ولغة، وتجانساً، وتمازجاً، بحيث لا نستطيع فصل جانب منها عن الآخر، أو تجاهل مكوّن منها عن باقي مكوّناتها الأخرى التي تفاعلت فيما بينها على امتداد الحقب التاريخية المتفاوتة والمتعاقبة.
هذه الأعراق، والإثنيات، والجذور البشرية عاشت، وتعايشت، وتمازجت، وتفاعلت فيما بينها في تكامل وإسجام بعد أن عرفت مزجاً، وتلاحماً فيما بينها في الوجد والوجدان، واللغة والبيان، والقلب واللسان، الشيء الذي يكوّن الصّورة الأكمل، والوجه الأمثل للهوية الوطنية في هذا الشقّ من العالم، التي تقوم على التوازن الروحي والفكري والنفسي والثقافي والسياسي في آن واحد، وكلّ تجزيئ أو تفتيت أو انتقاص من هذه الهوية هو تشويه، أو اختزال واختلال لها، قد يزجّ بها في خطل أو شطط التباهي بالعرقية، والعنصرية، والانتقائية التي لا تفضي سوى إلى التجزيئ، والانفصال، والانفصام، والضعف، والوَهن، والتجنّي، والتيه، والضّياع ممّا يفضي إلى الارتماء والتمرّغ في غمر ما أصبح أمسى يطلق عليه البعض جزافاً ب"أزمة هوية" أو "إشكالية هويّة" تجعل أصحابها وذويها يتغنّون بعيداً عن سرب الجماعة بنغمة أحادية وانعزالية متفرّدة ومتمرّدة نشاز.
مُلتقى الحضارات
بحكم موقعه الجيوستراتيجي المتميّز كحلقة وصل، وآصرة وثقى، وملتقى الحضارات بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب يعتبر المغرب من البلدان التي حباها الله موقعاً ممتازاً على الصعيد الجغرافي، ممّا خوّل لها أن تقوم بدور تاريخي وحضاري وثقافي مرموق في الشمال الغربي الإفريقي، الشيء الذي هيّأ له التميّز بهويّة يطبعها التعدّد والتنوّع والغنى والثراء.
تميّز المغرب منذ أقدم العهود السحيقة بتعدّد حضاري وتنوّع ثقافي ثريّ، حيث تعاقبت عليه، وظهرت على أديمه - مثله مثل سائر جاراته البلدان المغاربية الأخرى- دول، وحضارات، وثقافات قديمة على امتداد التاريخ، منها الحضارات الفينيقية، والبونيقية، والموريطانية، والرّومانية، وصولاً إلى الفترة الإسلامية التي تميّزت باعتناق ساكنة هذه البلدان للإسلام. ويشير العلاّمة الكبير المؤرّخ المرحوم عبد العزيز بنعبد الله - في حالة المغرب على وجه الخصوص- استناداً إلى مؤرخين ثقات من أمثال ابن خلدون، وابن الخطيب، والبكري، وسواهم: "أنّ الحِمْيرييّن بقيادة صالح بن منصور الحِمْيَري هم الذين نشروا الإسلامَ بين الأمازيغ في منطقة الرّيف المغربي وأقاموا إمارة نكور أو إمارة بني صالح، وكانت بالتالي هي أوّل إمارة إسلامية ظهرت في المغرب سنة 710م ببلاد الرّيف" . ثم أسّست بعد ذلك أيّ بعد انصرام 78 سنة من هذا التاريخ دولة الأدارسة سنة 788م. وكان مؤسّس هذه الدّولة - كما هو معروف- هو المولى إدريس الأوّل ابن عبد الله، الذي حلّ بالمغرب الأقصى واستقرّ بمدينة وليلي الرّومانية المعروفة باللاّتينية: ب(Volubilis) والتي (تقع بالقرب من مكناس بين فاس والرباط) حيث احتضنته قبيلة أوربة الأمازيغية، ودعمته حتى أنشأ دولته. ومعروف كذلك أنّ دولاً أخرى تأسّست قبل وصول الإسلام إلى هذه الرّبوع من أمثال (نوميديا، موريتانيا، تنجيس)، وتعاقبت على المغرب بعد كلٍّ من إمارة بني صالح بالنكور، بالريف، والأدارسة بوليلي بالتوالي دولُ المُرابطين، والمُوحّدين، والمَرينييّن، والسّعديين، وصولاً إلى الدولة العلوية الحالية.
الهويّة وتعدّد الإثنيات
المغرب بلد متعدّد الأعراق والإثنيات، ولكنه صاحب (هويّة) موحّدة، وهو يزخر بثقافة متنوّعة، وحضارة ثريّة. تمتدّ جذورها في عمق تاريخه الطويل، بالإضافة إلى سكّانه الأصليين من الأمازيغ، فقد توافدت عليه العديد من الهجرات المتوالية القادمة من المشرق، ومن جنوب صحراء إفريقيا، ومن الشّمال، وكان لكلّ هذه المجموعات والفئات البشرية أثر كبير على التركيبة الاجتماعية للمغرب التي عرفت معتقدات سماوية منذ أقدم العهود، كاليهودية، والمسيحية، وأخيراً الإسلام. ولكلّ منطقة من المناطق المغربية خصوصيّاتها التي تتميّز بها عن سواها من المناطق الأخرى، وقد أسهمت هذه الخصوصيّات في صنع فسيفساء الثقافة المغربية، ووضع الإطار المتميّز والمتنوّع للإرث الحضاري المغربي، الذي أصبح ذا طابع معروف في العالم أجمع.
للتنوّع الثقافي والحضاري المغربي خصوصيّات، وعناصر متعدّدة مكوّنة لنسيجه الاجتماعي على اختلاف مناطقه وجهاته، ومن أبرز هذه المكوّنات والعناصر التي تطبع هذه الأنسجة الحضارية الثريّة ذات الألوان الفسيفسائية المتنوّعة العنصر البشري، واللغوي، والثقافي، حيث تنطوي تحت هذه العناصر برمّتها مكوّنات في العديد من المظاهر الثقافية والحضارية التي تطبع المغرب بطابع خاص ومميّز.
ويرى البعض أنّ المغرب يُعتبر دولة أمازيغية- عربية. ويصرّ آخرون بإلحاح على الهويّة الأمازيغية - الإفريقية للمملكة المغربية، وهم محقّون في ذلك، ويعترف المغاربة بالهويّة الأمازيغية للبلاد، باعتبارهم السكّان الأصليّون في بلدان الشمال الإفريقي بما فيه المغرب، انطلاقاً وتأسيساً على التاريخ، والثقافة، واللغة، والعرق، والجنس، والعادات، والتقاليد، والموروثات المتعاقبة في مختلف المجالات، كلّ أولئك يكوّنون الهويّة التي تميّز كلّ منطقة عن أخرى. فعلى الرّغم من أنّ الأمازيغ قد اعتنقوا الإسلام، وتعلّموا اللغة العربية وأجادوا وألّفوا وأبدعوا فيها إبداعاً عظيماً، إلاّ أنهم متشبثون بهويّتهم، ومتمسّكون بتاريخهم الزّاخر، وذاكرتهم الجماعية المتواترة، وفخورون بإرثهم الثقافي المتنوّع، ومحافظون على تقاليدهم، ولغتهم وعاداتهم، وأمثالهم، وأشعارهم، وأغانيهم، وحِكَمهم، وفنونهم، وعوائدهم التي يتباهون بها، ويتغنّون فيها بالحياة الكريمة، والحريّة، والكرامة. ولذلك يُعتبر الأمازيغ عنصراً أساسيّاً، ومكوّناً رئيسيّاً للبلاد على امتداد القرون، ويعترف الدستور المغربي في الوقت الرّاهن بالعربية والأمازيغية كلغتين رسميتين للمغرب، ولقد استعملت لغة الضّاد بدون انقطاع في مختلف مناطق المغرب وأرجائه في الفقه، والتشريع، والأحوال الشخصية، والتدريس، والتأليف، والتدوين، والتصنيف، وفى مختلف فروع وحقول العلوم على تباينها، فضلاً عن استعمالها في الإدارات، والبلاطات على امتداد العهود التي تعاقبت على تاريخ المغرب منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم.
العربيّة واللغات الأخرى
الدّفاع عن اللغة العربية التي أصبحت من مكوّنات هويّات البلدان العربية، لا ينبغي أن يثنينا أو يبعدنا عن العناية، والاهتمام، والنّهوض، والدّفاع كذلك بشكلٍ متوازٍ عن عناصر هامّة، وأساسيّة أخرى في المكوّنات الأساسية للهويّة الوطنية في هذا البلد وهي اللغة الأمازيغية، وفى حالة البلدان المغاربية على سبيل المثال، فإنّ اللغات الأمازيغية الأصليّة فيها قد تعايشت مع لغة الضّاد منذ وصول أو دخول الإسلام إلى هذه الرّبوع والأصقاع، في مجتمعات تتّسم بالعدّد، والتنوّع، والانفتاح، ليس بين لغاتها ولهجاتها الأصلية المتوارثة، بل وحتى على اللغات الأجنبية الأخرى كالفرنسية، والإسبانية، والإنجليزية، والبرتغالية، والإيطالية وسواها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وحسبي أن أشير في هذا الصّدد إلى التعايش المتناغم الذي كان قائماً بين هذه اللغات برمّتها، والذي لم يمنع أبداً في أن يكون هناك علماء أجلاّء في هذه اللغة أو تلك من مختلف جهات ومناطق هذه البلدان، وكان "العربيّ" في هذا السياق يفتخر، ويتباهى بإخوانه من البربر الأمازيغ، والعكس صحيح، قال قائلهم:
(وأصْبَحَ البِرّ مِنْ تِكْرَارِهِ عَلَماً / عَلىَ الخَيْرِ وَالنُّبْلِ والمَكْرُمَات). فالبِرّ(بكسر الباء) الذي يعني الخيرَ والإحسان إذا كُرّر أصبح (برّبرّ). ولم يتورّع شيخ علماء الاجتماع والتاريخ في العالم ابن خلدون من أن يدبّج بهذه الكلمة كتابَه الذي ضربت شهرته الأطناب وهو المعروف ب"المقدمة" فأسماه "كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر".
الفنون المعمارية.. عطاء وابتكار
يعتبر فنّ العمارة في المغرب من الفنون الإسلامية التقليدية العريقة، التي كانت ولا يزال لها أبرز الأثر في كثير من المظاهر الحضارية، والمآثر والإبداعات العمرانية منذ مئات السنين وإلى عصرنا الحاضر، وتقف هذه المآثر في مختلف ربوع البلاد شامخةً بكل ألون الإبداع والفن والابتكار، ومن أبرز تلك المعالم الإبداعات المغربية الخلاقة فنون العمارة التي تنتشر في مختلف مدنه، وحواضره الألفية، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر صومعتي الكتبية بمراكش، وحسّان بالرباط إلى جانب أختهما التّوأم الثالثة "لاخيرالدا" الكائنة بمدينة إشبيلية بإسبانيا. والتي هي من بناء الموحّدين كذلك، وما فتئت هذه الصّوامع الثلاث تستقطب اهتمام السياح من كل صوب وحدب، ومن مختلف أرجاء المعمور، وتحظى بإعجابهم، وانبهارهم إلى يومنا هذا سواء في المغرب أو في إسبانيا، بالإضافة إلى العديد من المعالم المعمارية والمآثر الحضارية الأخرى نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر كذلك المدرسة البوعنانية بفاس، ومقابر السّعديين بمراكش، وسواهما من المعالم والمآثر، والمباني والقصور والقلاع، والحصون، والأبواب الشامخة، والأضرحة والمساجد الكبرى التاريخية منها والحديثة الكثيرة التي تملأ مختلف ربوع البلاد . وتتميّز هذه المباني المعمارية، والمآثر العمرانية وسواها بطابعها المغربي الخاص الأصيل والمتميّز ذي الأسقف الخشبية المنقوشة، كما يتجلّى هذا الطراز المغربي المعماري بشكل جليّ في الأثاث، والأسقف، والأعمدة الرخامية، والزلّيج الملوّن أو الأبواب، واستعمال الموزاييك ذي الرسوم والألوان والخطوط البديعة الزاهية، التي تقدم تنوّعا رائعا من الأشكال التي قد توحي للناظر إليها بأبهى صور الطبيعة، وروعة جمالها. ومن المثير أن كلّ هذه القطع تجمع واحدة، واحدة، وتثبّت بالإسمنت والجير لتكوّن لوحات من الفسيفساء التي غالباً ما تزيّن جدران القصور، والدّور، والمساجد، والحدائق، والجوامع، والصوامع، والأعمدة والأحواض والنافورات. ولا تزال تحتفظ مختلف هذه البناءات بهذه الخاصّيات المميّزة في فنّ النقش على الجبس في المغرب إلى يومنا هذا. وتشترك أو تتقاسم هذه المعالم العمرانية في الرّوعة، والبهاء والحسن الفنون المعمارية الأندلسية التي ازدهرت، وتألّقت هي الأخرى بشكل مثير للإعجاب على امتداد الأحقاب خلال الوجود العربي والأمازيغي الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية في إسبانيا بشكل خاص.
المطبخ المغربي.. تنوّع وإبداع
من المظاهر الحضارية الرّاقية التي تميّز التعدّد الثقافي المغربي فنّ الطبخ الذي يعتبر منذ القدم من أكثر المطابخ تنوّعا وشهرة في العالم. ويرجع الفضل في ذلك إلى تفاعل المغاربة على امتداد التاريخ مع العالم الخارجي منذ قرون بعيدة خلت. ويتميّز المطبخ المغربي بثرائه، وتنوّعه، وابتكاراته وإبداعه، وتعدّد مصادر تكوينه فهو مزيج من المطبخ الأمازيغي الأصيل، والأندلسي، والعربي، والمطبخ التركي العثماني والمغاربي، والشّرق أوسطي، والأفريقي. وهو يستقي أصوله وتأثيراته كذلك ولا شكّ من مختلف الحضارات المتباينة التي نشأت، وترعرعت، وسادت في حوض البحر الأبيض المتوسّط، والتي تعاقبت على المغرب منذ أقدم العصور، والدهور. واشتهرت العديد من المدن المغربية الكبرى منها والصّغرى على اختلافها بفنون الطبخ، وإعداد أشهى الأطعمة، والحلويّات التي بوّأت المغرب منزلةً سامقة، ومرتبةً مرموقة، ومكانةً عليا بين الأمم، وشهرةً عالمية في هذا القبيل.
الفنون الشّعبيّة والفلكلور
ويحفل المغرب بثراء واسع بمختلف الفنون الشعبية، والعديد من المهرجانات الفلكلورية على امتداد رقعته الجغرافية المترامية الأطراف، حيث تقدّم عشرات الفرق داخل الوطن المغربي وخارجه لوحات رائعة، وتعكس هذه الفنون الإبداعية الفطرية والفنية على اختلافها، وتنوّعها، وتعدّدها بشكل جليّ غنى وتنوّع هذا التراث الزّاخر، ومدى عراقة الشعب المغربي وتعدّد إثنيياته وثراء فنونه، والفلكلور المغربي زاخر بالمواهب، حافل بالأصالة وهو يعتمد في الغالب على النغمات والإيقاعات الرّخيمة والمتناغمة، التي تستقي مادتها الأولى، وعناصرها الأساسية من الفن الشعبي المرتبط بالبيئة، والأوساط القروية، والبوادي، والمداشر، والضيع، والأرباض، والمجتمع كيفما كانت أنواعه وأنماطه. الشيء الذي يزيد من أهميته وغناه من حيث الكمية والنوعية، وهكذا نجد رقصات ولوحات فنية مثل: طرب الآلة، والطرب الأندلسي، والغرناطي، والأمداح، والفنون الأمازيغية على اختلاف المناطق، وتباين الجهات، مثل للاّ بويا، ورقصة، وغناء اكناوة ورقصات أحيدوس، والركّادة، وغيرها من الفنون والرقصات الشعبية الأخرى المعروفة التي لا حصر لها.
المتاحف.. خزائن لذاكرة الشّعوب
وتختزن العديد من المتاحف المغربية المنتشرة في العديد من المدن المغربية مختلف المظاهر الحضارية والثقافية التي تعاقبت على البلاد منذ أقدم العصور حفاظا على الذاكرة الجماعية لمختلف جهات ومناطق المغرب، وتضطلع هذه المتاحف بدور حيوي في حماية التراث الثقافي وحفظه، وصونه والتعريف به، إلى الجانب دورها الترفيهي والسياحي، وقد أنشئت في البلاد العديد من المتاحف في مختلف حقول المعرفة، وفروع العلم والإبداع. والصناعات التقليدية. وتتعدّد المتاحف من أركيولوجية، وإثنوغرافية، إلى متاحف متخصّصة وهي تقدم برمّتها على تنوّعها لزوّارها، وروّادها وللطلبة والدارسين والمتعطشين للعلم والمعرفة صوراً، وأشكالاً، ولمحات تسلسلية عن تاريخ المغرب، وتطور فنون الإبداع، وتواتر العادات، وتوارد التقاليد فيه عبر العصور.
إلاّ أنه ما زالت العديد من المدن المغربية تفتقد إلى هذه المتاحف إلى اليوم، منها مدينتنا السّاحلية الجميلة جوهرة البحر الأبيض المتوسط الحسيمة، وسواها من المدن والحواضر المغربية الأخرى. ولقد أمست الحاجة ماسّة وضروريّة إلى سدّ هذه الثغرة أو بالأحرى هذه الفجوة التي باتت وصمةَ عارٍ في جبين المسؤولين والقائمين على الشأن الثقافي ببلادنا.
والمغرب، بعناصره التعددية والمتنوّعة يتوفّر على أرضية ثريّة شاسعة أسهم في رسمها تاريخ البلاد الحافل بالأمجاد؛ وهو ما جعل للبلاد شخصية خاصة ومتميّزة ذات كيان قائم الذات منذ قرون عديدة خلت، ومركزَا مهمّا من مراكز الإشعاع الحضاري الذي يسهم بقسط وافر في التطوّر الإنساني على مستويات الفكر والإبداع، الثقافة، والعلم والعرفان، والأخلاق، والعمران، في تكامل وتناغم متكاملين بين مختلف العناصر والمقوّمات والمكوّنات التي تجعل منه بلدا ذا شخصيّة متميّزة متفرّدة رائدة في المنطقة المغاربية والعالم العربي وإفريقيا.
التاريخ لا يُقرأ في هنيهة
الحديث عن الهوية الوطنية والتعدّد الثقافي والتوّع الحضاري في المغرب يحلو و يطول، والتاريخ لا يقرأ في هنيهة، إنّ الزّائر الذي يأتي لبلادنا يلمس التاريخ حيّا نابضا قائما في كل مظهر من مظاهر الحياة، دراسة هذا التاريخ، والتعمّق فيه واستخراج العناصر الصالحة منه أمر لا مندوحة لنا عنه، وهو أمر ينبغي أن يولى أهميّة قصوى، وعناية فائقة، وتتبّعا متواصلا من طرف الدّولة والخواصّ، ومن لدن مختلف الجهات العلمية والتاريخية التي تُعنى بهذه المواضيع للتعريف بهذه الذخائر، ونشر الوعي وتأصيله بشأنها لدى أبناء جلدتهم ليكون المستقبل الذي يتوقون إليه مستقبل رقيّ وأوجٍ، وإشراقٍ وتلاقٍ بين ماض عريق، وحاضر واعد، ولعمري إنّ لفي ذلك تجسيدا وتجسيما للعهود الزاهرة التي عاشها أجدادنا على امتداد العصور الحافلة بالعطاء الثرّ، والتعايش والتسامح، والإشعاع الثقافي والعلمي الباهر الذي شكّل وما يزال جسرا حضاريا متواصلا بين الشرق والغرب، وبين مختلف الأجناس، والإثنيات، والملل، والنحل، والديانات في هذا الصّقع القصيّ الجميل من العالم الذي نطلق عليه "المغرب".
ومن العلامات المضيئة لهذا الانفتاح والتنوّع الحضاري، والتبادل الثقافي والتثاقفي العديد من العلماء والمفكرين والفلاسفة والشعراء والفنانين والموسيقيّين الذين عاشوا في الأندلس ثم انتقلوا إلى المغرب و العكس صحيح، والأمثلة كثيرة وافرة، والأسماء لا حصر لها في هذا القبيل، وحسبنا أن نشير في هذا المقام إلى اسمين بارزين في التاريخ المشترك للمغرب والأندلس، وهما الفيلسوف الجهبذ، الفقيه العلاّمة ابن طفيل صاحب "حيّ ابن يقظان"، وتلميذه النجيب قاضي إشبيلية، وعالمها، وطبيبها، وفيلسوفها الذائع الصّيت أبو الوليد محمّد بن رشد اللذان استقبلتهما مراكش بحفاوة منقطعة النظير، وبوّأتهما أعلى الأرائك، وأرقى المراتب، وملكتهما من أعنتها وقيادتها فاستطاب لهما العيش فيها واسترغداه، وأصبحا صاحب الأمر في البلاد، ولقد وافتهما المنية في هذه المدينة الحمراء .
والخلاصة، فإنّه في بلدٍ مثل المغرب لا يمكن تقوية الحوار، واحترام التنوّع الثقافي، والتعدّد الإثني، كما لا يمكن لهما أن يصبحا واقعاً حقيقياً ملموساً على الصعيدين المحلّي، والعالمي إلاّ إذا أمكن تبنّي مبدئيهما، وترسيخهما، وفسح المجال لتحقيق أهدافهما، ومراميهما النبيلة من طرف كلّ مواطن، ومواطنة، انطلاقاً من الموروثات التاريخية المتعدّدة العريقة والأصيلة فيه، وَصَوْن هويّته العريقة القائمة على تواصل التفاعل الإيجابي، وتجدّده بين مقوّمات الوحدة والتنوّع، والمزج والتآلف بين روافد، ومنابع، ومناهل هذه الهويّة، والتشبّث بالقيم الإنسانية والكونية، وترسيخ ميثاق حقيقي لضمان وتأكيد الحقوق، وتبيان الواجبات، وتأصيل الحريّات الأساسية، والتشبّث بقيم، ومبادئ الانفتاح، والاعتدال، والتسامح، وتأصيل الاحترام المتبادل بين الأفراد والجماعات، ونشر الحوار، والتفاهم المتبادل بين مختلف الثقافات، والحضارات الإنسانية، فضلاّ عن تلاحم وتنوّع مقوّمات الهويّة الوطنية الموحّدة، وانصهار، وتمازج كلّ مكوّناتها، الإسلامية الغربية، والأمازيغية الأصيلة، والصّحراوية الحسّانية، الثريّة بروافدها، ومنابعها الأفريقية، والأندلسية، ومن فيض مختلف روافد، وينابيع حضارات، وثقافات حوض البحر الأبيض المتوسّط.
يحتّم علينا واقعنا المُعاش في الوقت الرّاهن المزيد من التعارف، والتآلف، والتقارب، والتداني، والتصالح، والتصافح، والتكتّل والاندماج، وإقصاء، ونبذ، وتجاوز كلّ منظور فكري ضّيق، ومعتم يعتبر المجتمعات مجرّد دول، وشعوب، وجماعات، وأجناس، وإثنيات، متفرّقة، مشتّتة، متباعدة، متنابذة، تتعايش، وتتبارى، وتتنافس فيما بينها، والتّوْق إلى تبنّي، وإقرار، وتأصيل، وتأثيل، وترسيخ، وتأكيد مفهوم أوسع فضاءً، وأنجع ثراءً، وأفسح معنىً، وأكثر شمولية، وأجدى إيجابية يجعل من هذه الشعوب، والمجتمعات، والجماعات، لبناتٍ ثابتة، وجذوراً راسخةً، ومتنوّعة لكيانٍ واحدٍ مشتركٍ، ومتماسكٍ، قائمِ الذّات، تتجلّى، وتتبلور، وتتجسّم فيه أحلى، وأجلى، وأرقى، وأنقى، وأبهى، وأروع معاني الإنسانية، والتوحّد، والشمول، دون التهميش، أو التناسي، أو التفريط قيد أنملة في الحقوق المُصانة،، والمطالب المشروعة لأيِّ مكوّنٍ من هذه المكوّنات الأساسيّة برمّتها التي بدونها، ولولاها لأنفرط العِقدُ، وتناثرتْ عقيانه وحبّاتُه، ولتهاوىَ الصَّرْحُ، وانشرخت جدرانه ولبناتُه.
*عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- (كولومبيا)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.