نقطة الانحراف لم يسبق للمغاربة طوال تاريخهم المديد أن عرفوا ما يسميه البعض اليوم بالسنة الأمازيغية، فقد ظهر هذا الاسم أول ما ظهر مع المستعمر الفرنسي الذي كان من مصلحته أن يقيم نوعا من الميز بين المغاربة، بهدف تحقيق مشروعه المتمثل في التفرقة من أجل السيادة على الوطن وإدامة وجوده في المغرب. ولذلك عمل المؤرخون وعلماء الاجتماع الذين كانوا يشتغلون في تعاون وثيق مع الإدارة الاستعمارية على تغيير ما كان يسميه المغاربة، وسكان شمال إفريقيا عموما، بالسنة الفلاحية وأعطوه اسما جديدا هو التقويم البربري calendrier berbère Le، وهي التسمية ذاتها التي تحولت فيما بعد لتعطينا ما يسمى اليوم كذبا "السنة الأمازيغية". وافتعال هذه التسمية وكذبها واضح، على اعتبار أننا عندما نعود لكتب التاريخ لما قبل المرحلة الاستعمارية، لا نجد أي إشارة لارتباط هذا التقويم بعرق من الأعراق، لا أمازيغي ولا عربي ولا إفريقي ولا أندلسي... بل هو تقويم فلاحي كان يعتمده كل المغاربة بدون استثناء، سواء أكانوا ناطقين بالأمازيغيات أم بالدوارج العربية أم بغيرها من اللغات الأخرى. ويكفي الرجوع لكتاب الفلاحة لمحمد ابن أحمد بن العوام الإشبيلي الذي يعتبر من أكبر الموسوعات الفلاحية للتثبت من ذلك، حيث لا نجد ذكرا ولا أي إشارة لهذه التسمية، مع أن الكتاب تحدث عن أوقات الزراعة وأدق الدقائق المتعلقة بالمجال الفلاحي. تقويم روماني السنة الأمازيغية المسماة ب "يناير" مع تشديد النون، ليست سوى التقويم اليولياني نسبة إلى الإمبراطور والقائد السياسي والكاتب الروماني يوليوس قيصر Jules César الذي اعتمده رسميا سنة 45 قبل الميلاد. وهذا التقويم اليولياني نفسه هو الذي تم إخضاعه لسلسلة من التعديلات التي قام بها كبار الفلكيين الرومان، بطلب من رجال السياسة أو رجال الدين في مرحلة تالية بعد تحول روما إلى المسيحية واتخاذها دينا رسميا للإمبراطورية. وقد اعْتُمِد تقويم يولويوس قيصر لفترة تاريخية امتدت إلى غاية القرن السادس عشر، حيث تم تعويضه بالتقويم الغريغوري الذي اشتقت تسميته من اسم البابا غريغوري الثالث عشر الذي حض الفلكيين على تعديل التقويم اليولياني لعدم دقته بالقدر اللازم. وهذا التقويم الغريغوري هو التقويم المعتمد إلى يومنا هذا، والذي أصبح عالميا انطلاقا من بداية القرن العشرين. والاسم الذي يحمله هذا التقويم في السياق المغاربي ككل، أي ينَّاير، ليس سوى اسم أول شهر في التقويم اليولياني الروماني. فيناير بتشديد النون ليس اسما أمازيغيا كما يدعي البعض ممن يعملون على تأسيس ذاكرة مزورة لجزء من المغاربة والتهييء لإدخالهم في صراع رمزي مع جزء آخر، والانتقال فيما بعد لتحويله إلى صراع فعلي. والحفريات التاريخية لهذه التسمية، تتثبت خاصية التزوير هذه بما لا يدع مجالا للشك؛ ف "ينَّاير" Yennayer ليست سوى النطق الروماني للفظة Janvier، والتسمية الإنجليزية لهذا الشهر أي January تثبت القرابة بين التسمية الرومانية والتسمية المستعملة اليوم في كل اللغات العالمية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن حرف « J » في بداية January أو Janvier لم يكن مستعملا أصلا في اللغة اللاتينية القديمة، وأنه لم يدخلها إلا في القرن السادس عشر، اتضح لنا لماذا لا نجد لهذا الحرف أي أثر في تسمية هذا الشهر باللغة العربية، حيث نسميه ب "يناير، تماما كما هو الشأن في التسمية اللاتينية والتسمية الشعبية المشتركة بين كل لغات المغرب. ولذلك فإنه من أجل فهم معنى يناير، يلزمنا الرجوع إلى اللغة اللاتينية التي كانت معتمدة من طرف الرومان، حيث تؤكد المعاجم أن Janvier الذي يقابله يناير في اللغة العربية، هي لفظة مشتقة من اسم الإله جانوس Janus إله البوابات والمداخل والإنتقالات والطرق والممرات والمخارج في الميثولوجيا الرومانية، ويُرْمَز لهذا الإله بصورة إنسان بوجهين، ينظر أحدهما جهة اليمين والآخر جهة اليسار، مثله في ذلك مثل الباب الذي له وجه ظاهر ووجه باطن.، أي أن أحد الوجهين ينظر للمستقبل والوجه الآخر ينظر للماضي، وهي نفس خاصية شهر يناير الذي "ينظر" بوجه لنهاية السنة التي توشك على الانتهاء، وبالوجه الآخر للسنة الجديدة التي توشك على البدء والانطلاق. كل رموز هذه التسمية إذن لاتينية رومانية، فكيف يصح الحديث عن التقويم بوصفه أمازيغيا. تسمية سياسية بعد هذه التوضيحات يحق لنا أن نتساءل لماذا عمل منظرو الاستعمار الفرنسي على إطلاق تسمية سنة أمازيغية على هذا التقويم، بدل السنة الفلاحية أو التقويم اليولياني. والجواب واضح، فذلك يدخل في إطار خطة شاملة كانت ترمي إلى فصل المكون السكاني الأمازيغي عن عمقه العربي، وتزويده بخلفية ثقافية ورمزية خاصة، بحيث يتم سجنه في إطار ضيق يقوم على الأساطير ذات البعد السياسي الخطير، والتي لا يتم الانتباه إليها إلا بعد فوات الأوان وبعد أن تكون قد أدت وظيفتها السياسية. ومن هذه الزاوية وبهذا التقويم الذي أصبح يحمل بعدا عرقيا، كان الهدف هو فصل الناطقين بالأمازيغية عن التقويم الهجري الذي يجعلهم مرتبطين بحدث الهجرة الذي يجد جذوره في الجغرافيا العربية، فيجعل بالتالي على مستوى المتخيل جغرافية المغرب وجغرافية المشرق جغرافية مشتركة. الهدف إذن من هذه التسمية "السنة الأمازيغية" هو تحقيق الانفصال داخليا بين مكونات البلد الواحد، لكن الخطة لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداه لتحقق الاتصال من جهة أخرى. فبما أن هذا التقويم روماني الأصل وبما أنه حُمِّل صفة الأمازيغي قسرا، وبما أن المستعمر الفرنسي يعتبر نفسه وريث روما وممثلها على أرض المغرب في العصر الحديث، فإنه بذلك يقيم نوعا من الاتصال بين الناطقين بالأمازيغية والمستعمر الفرنسي، بعد أن يكون قد كسر الجسور التي تجمعهم بالثقافة العربية ورموزها التاريخية والتي من بينها التقويم الهجري. وتبعا لذلك يتم إخراج المكون الأمازيغي من سياق الحضارة العربية الإسلامية وإدخاله في السياق الحضاري الروماني الغربي، وتحويله إلى معول لتدمير المنطقة وإفقادها لعنصر الانسجام والاستقرار على المدى البعيد. التاريخ المزور وهذا النوع من الخطة التي وقفنا عليها على مستوى التسمية، نجدها كذلك في قراءة التاريخ. فقد عمل أصحاب الدعوة إلى السنة الأمازيغية، من نشطاء الأمازيغية في صيغتها الكولونيالية، على تزوير التاريخ لينسجم مع توجهاتهم الانفصالية، سواء على المستوى الوطني القطري أو على المستوى الإقليمي. وقد تمثل ذلك في "ابتكار" هؤلاء لحدث تاريخي يقوم في تفصيلاته على الكذب، فاعتبروا أن السنة الأمازيغية تعود إلى حدث انتصار الملك شيشنق أو شيشونغ على فرعون مصر عام 950 قبل الميلاد، وربطوا هذا الانتصار الموهوم بهذا التقويم واعتبروه منطلقا للاحتفال بهذه السنة. وكل ذلك عبارة عن أكاذيب وقراءة ناتجة عن الدراسات الفرعونية الفرنسية والأمازيغية النزوعية، التي أعطت لهذه المناسبة تسمية عرقية لتحقيق أهداف جيوستراتيجية، على عكس المغاربة وغيرهم من سكان شمال إفريقيا، الذين لم يربطوا هذا التقويم بهذه الشخصية التي لا تمت لتاريخهم بصلة، بل سموه بالتقويم الفلاحي الذي يحمل بعدا طبيعيا بيئيا نفعيا بريئا. وشيشنق هذا الذي يتم الحديث عنه بوصفه أمازيغيا هو مصري خالص، ولا علاقة له بالأمازيغية إلا بوصف أصول جده الخامس التي ترجع لإحدى واحات الصحراء الليبية، وهذا هو كل ما في الأمر، وإلا فهو مصري بلغته ومصاهراته ولباسه ورموزه وعاداته وسحنته وملامحه، كما يتجلى ذلك مما نقله التاريخ ومما يمكن ملاحظته في النقوش التي وصلتنا. هذا بالإضافة إلى تكوينه، إذ أنه ورث وظيفة الكهانة عن أسرته التي انخرطت في السلك الديني الفرعوني لما يفوق خمسة أجيال. فما يقال عنه من كونه أمازيغيا هزم المصريين واستولى على الحكم هو مجرد كذب، لأن المؤرخين يتحدثون عنه بوصفه مصريا بكل معنى الكلمة، بل إن أسلافه كانوا يحظون بعدة مناصب سياسية وعسكرية ودينية في فترة حكم السلالة السابقة على حكم سلالته. وقد أمكنه أن يتصاهر مع الأسرة الفرعونية المالكة الواحدة والعشرين بتزويج ابنه بابنة آخر ملوك هذه الأسرة، وبموت هذا الأخير فرض نفسه كفرعون للأسرة الثانية والعشرين. هذا هو التاريخ كما يورده أهل التخصص، وهو ما ينسجم مع قوة الفراعنة وسعة سلطتهم وحضارتهم التي استطاعت أن تدمج داخلها مختلف الأجناس وتُمَصِّرَها بشكل كامل. أما الحديث عن هجوم شيشونغ على مصر وانتصاره على الفراعنة، فهو عبارة عن أسطورة سياسية هدفها خلق نوع من العداء التاريخي الوهمي الموغل في القدم بين مصر ودول المغرب العربي ككل. والعداء يتوجه إلى مصر بالذات لأنها تعتبر داعمة للعمق العربي في المنطقة المغاربية التي يراد لها أن تسجن في عرق أمازيغي نزوعي ضيق، يقوم على العداء لكل ما له علاقة بالعربية وثقافتها ورموزها وتاريخها. وبهذا "المونطاج" التاريخي القائم على الكذب، يصبح الاحتفال بالسنة الأمازيغية احتفالا بالعداء بين مصر العربية والأمازيغ الذين يمثلهم شيشونغ، والذي تبين لنا أنه مصري فرعوني ولا علاقة له بالثقافة الأمازيغية لا من قريب ولا من بعيد. الانفصال الرمزي والملاحظ على الداعين لاعتماد هذا التقويم القائم على تزوير التاريخ، ممن ينسبون أنفسهم إلى الحركة الأمازيغية، هو إعلاؤهم من شأن شيشنيق حسب تصورهم له، وهو شخصية، كما رأينا، لا تربطها أي علاقة بالمغرب، ولم يسبق للمغاربة أن عرفوا اسمه، ولم يرد في كتبهم ولا في ذاكرتهم ولا في تراثهم الشفهي أي إشارة إليه لا من بعيد ولا من قريب. وإعلاء النزوعيين من شأن هذه الشخصية، يركز بالخصوص على غزوه لمصر، وهو ما يكشف عن جوع قاتل إلى الانفصال عن المحيط العربي وإلى الرغبة في التشبع بالأمجاد ولو كانت وهمية. وسبب ذلك هو تنكر هؤلاء النزوعيين العنصريين لكل ما له علاقة بتاريخ الأمازيغ في إطار الثقافة والحضارة العربية الإسلامية، حيث يجدون أنفسهم فقراء خارج هذا الإطار، فيسعون للتشبث بأي عنصر من عناصر الثقافات الأخرى وادعائها لأنفسهم لسد جوعتهم الحضارية. إن الهدف النهائي لتركيب الأحداث بهذا الشكل، هو إلقاء بذور الطائفية في المغرب وبث الانفصال الرمزي بين مكونات صهرتها مختلف الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، وبذلك يصبح ل"الأمازيغ" رموزهم الخاصة ول"العرب" رموزهم التي لا يشاركهم فيها أحد، للعرب تقويمهم الهجري الذي يرتبط برسول "عربي" تُضفى عليه دلالات عرقية، وللامازيغ تقويمهم الذي يرتبط بشيشنيق المصري الثقافة والذي يسجن هو الآخر في انتماء أمازيغي لا وجود له في التاريخ. وفي مقابل الإعلاء من شأن هذا الأخير واعتبار دخوله مصر بطولة وانتصارا، يتم التقليل من شأن الفتوح العربية التي تصبح على لسان هؤلاء العنصريين غزوا وهمجية، يجب إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف لفصل مكونات المغرب التي عملت هذه الفتوح على وصلها. صناعة الصراع ننتهي إذن إلى أن الدعوة إلى اعتماد هذا التقويم بهذا الفهم وبهذه القراءة السياسية العنصرية النزوعية، ليست مجرد دعوة إلى الاحتفال بمناسبة طبيعية كما كان عليه الشأن فيما مضى، بل هي مشروع لخلق الطائفية في المغرب وخطوة أساسية لإعادة قراءة تاريخ المغرب والمنطقة المغاربية ككل، من زاوية عرقية انفصالية تعمل على كسر جسور تاريخية أصيلة، وتعويضها بجسور اصطناعية ترمي إلى تحقيق مصالح جهات "مجهولة" لا تظهر في الصورة في هذه المرحلة بعد أن أسندت مهمة تنفيذ خطتها لوكلاء يرفعون شعار الأمازيغية ويعملون جاهدين على فصل كل ما وصله التاريخ، إذ بعد ابتكارهم للغة أمازيغية (ممعيرة) مصطنعة تقف في وجه اللغة العربية وتشوش عليها، وبعد استيرادهم لحرف فينيقي (تيفيناغ) وتلويث أذهان النشء بأحرفه الغريبة، وبعد فرض كتابة هذه الأحرف من اليسار إلى اليمين، لتتصادم مع الحرف العربي المكتوب من اليمين إلى اليسار ، وبعد وبعد ...جاء الدور على التاريخ من باب التقويم، وجاء الدور على أحداث هذا التاريخ لتعاد قراءتها من زاوية الصراع الذي يُختلق في حالة عدم وجوده ويُضَخَّم إن وجد، لكي يساهم في إطلاق شرارة الصراع في وقتنا الراهن. لذلك نقول عن السنة الأمازيغية بأنها أداة احتفالية في الحاضر، وهذا ما يراد إقناعنا به، لكنها أداة لصناعة المأساة في المستقبل، وهذا ما يراد إخفاؤه عنا. *أستاذ بجامعة الحسن الثاني/ كلية الآداب بنمسيك/ الدارالبيضاء – المغرب [email protected]