يعيش العالم العربي بعد اهتزازات فوضى "الربيع العربي" حالة غموض غير مسبوقة، مدفوعة بتأويلات تاريخية قمينة بالتأمل والتفكير. هذا الالتباس المفاهيمي يطرح أكثر من نظرية، على مستويات عدة، في اقتفاء نموذجية التغيير النهضوي الغربي، الذي تتفاعل منجزاته العلمية والتاريخية مع السياقات العامة الحضارية والبشرية، ومحاولات تشكيل خطوط استباقية للعقل العربي الناشئ الذي اندغرت فجواته على المحيط الجديد للثورات العربية الأخيرة، المنبثقة عن أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية عميقة. في واقع كهذا لا ينفك العالم العربي ينجرف للخلف وهو يجر خيبات أمل مخيفة، بعد صراعات مريرة مع مختبرات تجريب، وتجريف لأنظمة حكم تقف على الهامش من مطامح شعوب مقهورة، تعاني قصورا فظيعا في رؤيتها للعالم ولحجم مخاطر النفوذ القوي للصورة والتكنولوجيات المعلوماتية المعاصرة، وانتقال السباق من طفرة العسكرة والسلاح إلى المسخ الهوياتي والاستعمار الطاقي والاقتصاد والمال والأعمال. وتنعدم أحيانا الرؤية الناجعة لاستشراف واقع مهترئ منكوس، يعيش حالات إحباط وقهرية متواترة؛ واقع يرفض التواجد في باراديجم العولمة والآلات الكبرى لتلغيم العالم، ولا يطمح إلى القابليات الثقافية والكونية، ومتماه مع الاستبداد، بالحفاظ على الماضي الراسب النمطي التقليداني، بمنظومات لا تتجدد ولا تواكب تحديات السيرورات السيبرانية المتلاحقة. في ضوء ذلك، وعلى أكثر من واجهة يجد العقل العربي نفسه محاطا بسياجات وتوهمات ناكصة، تحجب رؤيته للماهية الأممية وللمحيط العربي والإقليمي والقاري، وكذا للثقافات والتعددية الهوياتية والحضارية والديمغرافية. ولكي لا يختفي تيار النقد الذاتي في موضوع مستقبلي قابل للتشكيل وليس شيئا معدا سلفا، لا بد من وضع تصورات عامة حول الوضعية الراهنية للعالم العربي، قبل استشفاف مدخلاتها ومخرجاتها، وتمكين الفجوة الخائلية من صياغة علامات لاستشراف مستقبل، أقل ما يمكن القول عنه إنه غير متحرك، ينطوي على أبعاد تعوزها إزالة اللبس والغموض قبل اقتحامها ومناولتها. أولا العالم العربي مشتت جغرافيا وسياسيا واقتصاديا. ففي وقت يشهد العالم نشوء اقتصاديات مترابطة بشكل عميق، تتفاعل مع مفهوم الكيان الكلياني المتكامل، له علاقات وتأثيرات جديدة منخرطة بشكل كبير مع التدفقات للرأسمالية المفتوحة والأسواق الاستهلاكية والحكومات الديمقراطية، تتعمق الخلافات السياسية والتاريخية والاقتصادية والحدود الاستعمارية بين بلدان العالم العربي. ثانيا ما أحدثته ثورة الاتصالات وبزوغ عصر الكيانات الاستشعارية المزروعة، من الأجهزة فائقة الذكاء والروبوتات وآلات التفكير عكس حجم التمزق الهوياتي واللغوي والثقافي في البلدان العربية؛ وأضحى هامش الوجود القيمي والحضاري لأمة الضاد مدفوعا بإكراهات جديرة بالتفكيك والقراءة الهادئة. ثالثا التحولات الجديدة التي يعرفها العالم مشدودة بقوة للتوازنات الجيوسياسية والعسكرية وثقافة السوق الليبرالي المتوحش؛ وهو أمر يضع العالم العربي في مواجهة مباشرة مع مراكز القوى الناشئة، والتحول القومي العالمي المتسارع إلى الأنظمة السياسية القائمة على اقتصاد السوق. رابعا ضعف القابلية الديمقراطية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية؛ وهو أمر بنيوي يرتبط ارتباطا مباشرا بالجذرية التاريخية والثقافية والهوياتية للشعوب العربية؛ بل إنها تشكل نموذجا أفقيا لسلطة موروثة، تنتسب لرحم البداوة وثقافة القبيلة والعرق، وهو ما يستحيل معه ضبط علاقة تدبير الشأن العمومي في السياسات الحديثة، مع جملة أنساق سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تمتح من قاموس علم السياسة والدولة الحديثة. خامسا تجذر مظاهر الفساد في كل مؤسسات دول العالم العربي، وانعكاس ذلك على بنية الحكم ومؤسسات الدولة، ما يؤثر في الإصلاح والتنمية والاستثمار، ويبدد مشاريع النهضة في كل مجالات الحياة وتشغيل الشباب والارتقاء بمكانة المرأة. وفي ذلك يعلل صموئيل هينغتنتون هذا التغول، في كتابه عن التطور السياسي، بأن ثمة ظروفا وحالات ينتعش فيها الفساد الحكومي مثل النمو السريع والتحديث الذي تتعرض له بعض الدول، وذلك بسبب تغير القيم ومصادر الدخل والقوة والتوسع الحكومي. ويزيد الفساد أيضا في الدول التي تغلب فيها المصالح التجارية الأجنبية. سادسا البحث العلمي والتطور الجامعي والأكاديمي للدول العربية يستمر في الارتكاس والتدهور، وتشهد على ذلك الأرقام والإحصائيات المؤسفة التي تسجل جملة من التراجعات والاختلالات البنيوية، إن على مستوى الميزانيات المرصودة، أو السياسات المتبعة. فعندما نعلم أن حجم إنفاق الدول العربية مجتمعة على البحث العلمي والتطوير يبلغ بالتقريب نصف ما تنفقه إسرائيل، على الرغم من أن الناتج القومي العربي يبلغ 11 ضعفا للناتج القومي في إسرائيل والمساحة هي 649 ضعفا، فقل على أمتنا السلام. مع العلم أن إسرائيل توجد على رأس دول العالم من حيث نصيب الفرد من الإنفاق على البحث العلمي، متبوعة الولاياتالمتحدةالأمريكية ثم اليابان. أما الدول العربية، إذا ما قورنت في هذا المجال، فإنها تساوي أقل من إسرائيل مائة مرة. ويؤكد تقرير اليونسكو (المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم) للعام 2010 أنه على الرغم من الثروة التي تتمتع بها الدول العربية، فإن هذه البلدان تفتقر إلى قاعدة متينة في مجال العلوم والتكنولوجيا، كما أن كفاءة نظمها وأدائها الخاصة بالتعليم العالي لازالت ضعيفة في ما يتعلق بشكل خاص بتوليد المعرفة. هذه باختصار الوضعية الراهنة لعالم عربي يعيش بين دورتين زمنيتين؛ دورة إعادة الحلم والعيش خارج التاريخ، حيث يصعب الانتقال والتغيير ضمن قطيعة إبستمولوجية تحاكي نهضة أوروبا والشرق الآسيوي، لوجود تباينات جوهرية في العقليات والتحرر من تبعات الزمن وأنماط تشكيله للطفرات، ودورة استعادة الجذوة وتحقيق البديل، بالشكل الذي يحافظ على مقومات النهضة وسبل تدبيرها، على المستويات التاريخية والثقافية والبشرية. إن حقيقة تأخر المسلمين، ومنهم العرب طبعا، وتقدم غيرهم، ليست للأسباب نفسها التي تساق ضمن قاموس الاستبداد والتسلط والتخلف، كما هو معلوم لدى العديد من مفكري تجديد الفكري الديني؛ إنها أكبر من ذلك وأعظم، إنها مساءلة للعقل العربي، وأدوائه السيكولوجية والتحكمية. ولعل ذلك من ضمن مشاريع يمكن قراءة كل منها، كل من منطلق تأسيساته؛ وهي المشاريع التي يمكن تسميتها نقد العقلانية العربية بفروعها الثلاثة: "نقد العقل الإسلامي" لمحمد أركون، و"نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري، و"نقد العقل الغربي" لمطاع صفدي، حيث يمكن استجماع جملة أنساق ضمن باراديغم التفكير العقلاني الناهض، ومواءمته مع الواقعية العربية المنتجة لحالات الإفلاس والتردي. عموما نحن إزاء ذلك، وبالرغم من تداعيات هذه المظاهر ووقعها على تاريخ وحضارة أمة كانت إلى عهد قريب حاملة لمشعل العلم والنهضة في العديد من الميادين والمجالات، نتوق إلى تجاوز المعضلات والاستفادة من أخطاء الماضي والحاضر؛ ولن نتمكن من فعل ذلك دون تقديم وصفة لعلاجات تحتاج الصبر والجلد والنفس الطويل. وأعتقد أن مستقبل العرب مرهون بتجسيد وحدتهم واتحادهم وتذويب خلافاتهم وتغليب المصلحة العليا عوض الدسائس والاختباء خلف الأحقاد والكراهية وسوء التقدير. ولا يسعني هنا إلا أن أنسج خيالاتي في ارتقاء هذه الأمنيات، التي تحجب عنا أمل المصالحة والتصالح واقتضاء المصير الواحد وتحقيق النهضة. [email protected] https://www.facebook.com/ghalmane.mustapha