حلت سنة 2018 وودعنا سنة 2017.. سنة في حياة دولة، في حياة شعب وفي حياة فرد (إنسان)، ليست مجرد شهور وأسابيع وأيام، ليست زمنا مجردا، بل هي أحداث ووقائع faits et événements ، أصبحت في الماضي ودخلت جوف التاريخ L'histoire. التاريخ ياليونانية Historia وتعني التقرير l'enquête الذي أنجزه المؤرخ l'historien بنزاهة وموضوعية، حسب المؤرخ اليوناني هيرودوت Hérodote، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي وضع الإرهاصات الأولى للتاريخ كمعرفة علمية، بل إن المؤرخ الفرنسي Henri-Irénée Marrou يصف هيرودوت بالمؤرخ العِلْمي. "Hérodote est déjà bien un historien, au sens professionnel du mot, par son désir de reconstituer et d'atteindre la vérité des événements passés dans leur réalité vécue, par son effort pour détecter la source d'information valide, par la méfiance que cette préoccupation entraîne et un certain pessimisme sur la nature humaine", reconnaît l'historien Henri Irénée Marrou. "Qu'est-ce que l'Histoire ?". لن نُفصل القول في هذا المقال عن مفهوم التاريخ، وتطورالمعرفة التاريخية لتحقيق العِلمية la scientificité، بفضل المجهودات الشاقة للكثير من المؤرخين، والتي ستزدهر كمعرفة تحاول تحقيق العلمية مع أعمال كل من المؤرخ عبدالرحمان بن خلدون في القرن الخامس عشر حيث حاول كشف "القوانين" الخفية التي تصنع الأحداث والوقائع، مرورا بالتصورات الفلسفية للتاريخ مع كل من كانط وهيجل وماركس وهايدغر وأرندت وألتوسير وسارتر وغولدمان وريكور والجابري والعروي.. الإنسان بخلاف بقية الكائنات، هو كائن زمني لا يعيش منغلقا في لحظته الحاضرة فقط، بل يستطيع العودة إلى الماضي ليراجع ويستنطق أحداثه، أيضا التوجه الاستباقي نحو المستقبل لتخطيط الطموحات والآمال وتفادي الانتكاسات والآلام. لذلك من حقنا أن نتساءل: هل للتاريخ معنى؟ -L'histoire a-t-elle un sens ? وهل التاريخ ما يحدث للإنسان أم ما يحدث بواسطة الإنسان؟ -L'histoire est-elle ce qui arrive à l'homme ou ce qui arrive par l'homme ? وسنحاول إسقاط السؤالين على حصيلة سنة 2017 في المغرب، هل للكثير من الإحداث والوقائع معنى؟ أكد دستور 2011 على تحقيق الكثير من "الوعود" الديمقراطية والتنموية وتفعيل "الجهوية المتقدمة" من أجل تقوية الاستقلالية والعيش الكريم للمغاربة وإنجاز دولة الحق والقانون وربط المحاسبة بالمسؤولية، وتكريس النزاهة والشفافية وصيانة الحريات العامة، ولا أحد بمقدوره أن ينكر نُبل هذه الوعود الوردية، لكن ماذا تحقق منها؟؟؟ كشف المجلس الأعلى للحسابات عن الكثير من الاختلالات والأعطاب بالأسماء والأرقام، والاختلالات هي التسمية الناعمة للفساد La corruption الذي يعني "استغلال السلطة والنفوذ من أجل خدمة المصلحة الخاصة ضد على المصلحة العامة" وما يؤدي إليه من سرقة للمال العام وتبدبد موارد وثروات الدولة ومضاعفة الفقر والجريمة، وإفلاس جميع القطاعات التعليم، الصحة، الإدارة، العدل.. وتكتل الثروة عند أقيلة غير منتجة، تُراكم رساميلها المادية والرمزية بواسطة "الريع" وهو ما يفضي إلى تعميق الفوارق الطبقية والإحساس بالظلم وعدم الإيمان بالواجب لدى ضعاف الضمائر وهو ما يؤثر سلبا على المردودية وضعف الجودة في الإنتاج وانتشار قيم الاستهتار والانتهازية، جراء شيوع مختلف مظاهر الفساد "الكبير" الصفقات العملاقة التي تُمرَّرُ بطريقة غير قانونية كبيع أملاك الدولة ومنح إنجاز المشاريع الضخمة دون سند قانوني أو بالتحايل على القانون كتفويت أراضي زراعية خصبة تحقق الأمن الغذائي والبيئي للمغاربة بأثمنة رمزية للمنهشين العقاريين واجتثاث آلاف الأشجار المثمرة منها كشجر الزيتون والحوامض، ثم الضحك على الذقون بإحداث شرطة البيئة والاحتفال في المدارس بغرس بضع شجيرات.. وهذه مجرد صورة صغيرة لمظاهر الفساد "الكبير" الذي يمتد إلى الإعفاء الضريبي لأصحاب المشاريع لتشجيعهم على الاستثمار غير أن وقائع 2017 لوحدها فضحت عدم نجاعة هذا الاختيار الذي لم يحقق النتائج المرجوة منه كتوفير مناصب شغل، على النقيض يتم التحايل على القانون، والتهديد بإغلاق الشركات وتشريد المئات من العمال والأمثلة أكثر من أن تذكر. أيضا مسألة الخصخصة والصفقات التي يعقدها مسؤولون لاستيراد منتجات غذائية أو أدوية أو لوجستيك وغيرها والتي تعقد مع شركات دون أخرى مقابل رشاوى أو امتيازات والنتيجة لهذا الفساد كلفة مرتفعة مع شراء منتجات لا تتسم بالجودة أو أن صلاحيتها قريبة الانتهاء، وهذا سيدفعنا للحديث عن الفساد "الصغير" مقابل تنفيذه والخطير في نتائجة على الوطن والمواطنين، طيلة هذه السنة أمطرتنا وسائل الإعلام الرسمية والمستقلة بضبط السلطات لأدوية وأغذية ومنتجات مختلفة بكميات كبيرة مهربة أغلبها منتهية الصلاحية، كيف دخلت هذه البضائع الى المغرب؟ هل تساقطت مع الأمطار؟ هناك موظفون غضوا أعينهم عن هذه السلع وسمحوا بدخولها بعدما أخذوا "الهدايا المسمومة" دون أن يعرفوا هي أغذية أم أسلحة قد تستخدم في عمليات إرهابية. وهلم جرا بباقي المجالس العليا؟ هل لوجودها "معنى" المجلس الأعلى للحسابات، والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، والمجلس الأعلى للقضاء والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي...؟؟؟ والجواب يوجد ضمنيا في وضعية هذه القطاعات، وبالتالي فإن هذه المجالس تستنزف الوطن بمواردها المادية والبشرية دون أي أثر إيجابي يمنح وجودها الشرعية والمشروعية، نفس المسألة تخص "الجهوية المتقدمة" التي بشر بتنزيلها دستور 2011، وما واكبها من تطبيل ورمي للورود على خاتمها السحري لكل المعضلات الوطنية، وتحقيقها لتنمية، في حين أن التنظير القانوني لها اتسم بالارتجالية والطوباوية، والرغبة في محاكاة التجارب الغربية دون مراعاة الخصوصية المغربية، وبدل أن يتم مضاعفة عدد الجهات من سِتِّ عشرة جهة إلى إثنين وثلاثين جهة، تم تخفيض عدد الجهات إلى إثني عشرة جهة، وتفاقم مشاكل الجهات وسأعطي مثالا: الانتقال من جهة تازةالحسيمةتاونات إلى جهة طنجةتطوانالحسيمة، وبدل أن يسهم التقسيم الجديد في اللاتمركز والرفع من التنمية والقدرة على التنظيم والضبط، أدى إلى أضدادها من بدءا من الهدر المالي وارتباك واضح في تصريف الموارد البشرية غير المؤهلة وصعوبة المراقبة ومواصلة سياسة الزبونية والعلاقات عوض المواطنة والاستحقاقات. وتعثر المشاريع التنموية هو إحدى إفرازات التقسيم الجهوي الجديد، واستمرار تأزم الوضع الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي، هو ما ميز سنة 2017، فهل لاسترار اعتقال مناضلي حراك الريف معنى، بعد إعفاء الملك لوزراء ومسؤولين أخلوا بمهامهم، واكتشاف منجم الفساد في الكثير من المشاريع المشلولة، وهل لموت الشقيقين الحسين وجدوان الدعيوي غرقا في منجم الفحم بجرادة مقابل كيس "دقيق أسود\الخبز الأسود" هل لهذا التهميش والتفقير لحياة المواطنين "معنى" سوى "الفساد"؟؟ هل لموت شهيدات سيدي بوعلام بالصويرة ليست تحت نوبات شطحات "موسيقى كناوة" ولكن تحت أقدام التفقير والتهميش والإذلال للحصول على كيس دقيق "الخبز الأسود" بالمرارة والمواجع والفواجع، طبعا ليس له "معنى" سوى هيمنة "الفساد". هل لسجن مناضلي "ثورة العطش" من معنى، ثم الإعلان عن شرطة المياه، سوى التمادي في سياسة الفساد، فبدل وضع الدواء على الجرح النازف، وتسريع أوراش إمداد المواطنين بشبكة الماء الصالح للشرب (الملك الحسن الثاني وسياسة بناء السدود)، الآن يتم وضع الدواء على "العكاز".. الصورة أقرب إلى كاريكاتور تغريم الراجلين مع ندرة ممرات الراجلين، علما أن معظم الراجلين من أبناء الشعب الكادحين، في الوقت الذي تتساهل الدولة مع ناهبي الملايير، تريد أن تقنع البسطاء من المواطنين بضرورة احترام القوانين. الحق والواجب وجهان لعملة واحدة، والفساد يُضر بوجهي العملة معا، إِذْ يُلحِق الفساد ضررا بحقوق المواطنين، ويدفع ضعاف النفوس إلى الإخلال بواجباتهم، وهم يرون إفلات ناهبي المال العام من المحاسبة، وإعفاؤوهم في أسوأ الأحوال من مهامهم، لينصرفوا سالمين غانمين، ويباشروا مشاريعهم بوقاحة تستفز المواطنين، وهم يجسدون أبشع مشاهد الاغتناء عبر الانقضاض على عنق المصلحة العامة للوطن والمواطنين. يقول الفيلسوف الألماني هيجل Hegel, : « un Etat est bien ordonné et fort en lui-même quand l'intérêt privé des citoyens est uni à la fin générale de l'Etat ». عندما تتحد المصلحة الخاصة للمواطنين مع المصلحة العامة للدولة، تكون الدولة منظمة جدا وقوية، وعندما تطغى المصلحة الخاصة، فإن الدولة تكون ضعيفة تنزلق في الفوضى، و"الفساد" كما قال الملك محمد السادس ليس قدرا حتميا لا يمكن محاربته، كلا، إن السيطرة على الفساد جد ممكنة والدراسات والأبحاث المقترحة لتطويق الفساد، كثيرة نذكر منها على سبيل المثال كتاب "السيطرة على الفساد" للمفكر روبير كيلتجارد Robert Kiltgaard، وغيرها من الاستراتيجيات والأوراش الدولية لطرق مكافحة الفساد بالطرق السلمية والتدخل المدني Intervention civile مع وجود استمارات لأمثلة مناهضة الفساد اللاعنفية Exemples de luttes nonviolentes. مناهضة الفساد هي مسؤولية الجميع، حتى يكون لحياة المغاربة "معنى" وحتى يكون للمواطن المغربي فاعلية ودور في بناء تاريخ المغرب المعاصر، وحتى لا يكون الشعب المغربي مجرد أداة في يد المفسدين، ومن أجل تاريخ مزهر يليق بالمغرب ويوفر العيش الكريم للمغاربة، تاريخ تفتخر به الأجيال المقبلة، ولكل هذه الاعتبارات يجب وضع حد للفساد الذي حول تاريخ المغرب إلى نسيج من المآسي في التعليم في الصحة في القضاء، جيوش من اليائسين والعاطلين ومدمني المخدرات والانزلاق نحو الهاوية. طبعا سيكون حفدة الصينيين مستقبلا جد مزهويين بالتاريخ الذي يفعله ويكتبه الصينيون اليوم، وعنوان السعي الجدي نحو النقدم، ماذا عنا نحن المغاربة خصوصا وأن الكفاءات في المغرب كثيرة ومهمشة. ختاما يقول الملك محمد السادس في خطاب الذكرى 17 لعيد العرش "الفساد ليس قدرا محتوما، ولم يكن يوما من طبع المغاربة،غير أنه تم تمييع استعمال مفهوم الفساد، حتى أصبح وكأنه شيء عادي في المجتمع، والواقع أنه لا يوجد أي أحد معصوم منه، سوى الأنبياء والرسل والملائكة، وهنا يجب التأكيد أن محاربة الفساد لا ينبغي أن تكون موضوع مزايدات، ولا أحد يستطيع ذلك بمفرده، سواء كان شخصا أو حزبا، أو منظمة جمعوية، بل أكثر من ذلك ليس من حق أي أحد تغيير الفساد أو المنكر بيده، خارج إطار القانون، فمحاربة الفساد هي قضية الدولة والمجتمع: الدولة بمؤسساتها، من خلال تفعيل الآليات القانونية لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة، وتجريم كل مظاهرها، والضرب بقوة على أيدي المفسدين". سنة سعيدة لكل الشرفاء الغيورين على المغرب