كتب بنكيران في مطلع القرن 21 عن الحركة الاسلامية وسؤال المنهج ليعرض أطروحة مناقضة للعقل الراديكالي بشقيه الاسلامي واليساري، وليرفع شبهة الخيانة التي تلف المشاركة السياسية للاسلاميين، وليفند الادعاءات القائلة بأن المشاركة في ظل الفساد لا تعدو أن تكون مشاركة بمقدار اضفاء الشرعية على الفساد، وترويض المشاركين وتشويههم ثم لفظهم في النهاية. ونحن نعيش أطوار العقد الثاني من القرن21م، أي الادعاءات كانت صادقة؟ وهل تحققت نبوءات الجذريين؟ أم تهافت كل تشخيص اعتمدوه؟ إن المتابع لمآلات الأمور يدرك أن بنكيران ورفاقه كانوا حينها يضعون أهدافا ممكنة التحقيق، إذ تجاوز حضورهم البرلماني بعد تشريعيات 2002، رغم التضييق، الأربعين برلمانيا. ولا شك في أن ذلك لم يأت من فراغ، إذ بدأت الحياة السياسية تشهد جيلا جديدا من البرلمانيين الفقراء الذين تجاوز نشاط مراقبتهم للحكومة كل التوقعات، وكانت مكاتبهم أحيانا ملجأ يهرع إليه بعض الاسلاميين الراديكاليين. ثم بدأ حديث التوجهات الجذرية عن كون هذه التجربة مهما حققت من مكاسب وراكمت من خبرات وأحرزت من أصوات فلن يكون بمقدورها الوصول إلى الوزارة الأولى، مستسلمة إلى ما يشبه عقيدة تكفر بأبرز ثوابت علم السياسة المتمثلة بالحركة والتحول والممكن. لكن ما الذي جرى بعد ذلك؟ وصل الربيع إلى المغرب(2011)، وأطلق دينامية سياسية غيرت الدستور وأجرت انتخابات قبل أوانها. ولم ينزل بنكيران والكثير من رفاقه إلى الشارع دعما لحركة 20 فبراير، واعتقدنا حينها بنهاية بنكيران وحزب اسمه العدالة والتنمية. ولم يمض من الوقت إلا القليل حتى أدركنا أن تشخيصنا للوضع كان مجانبا للصواب. وقبل انطلاق الحملة الانتخابية تنبأ الراديكاليون والكثير من أنصار بنكيران، بنتيجة الانتخابات المبكرة، واعتقدوا أن رئاسة الحكومة ستأول إلى أحد أحزاب تحالف الثمانية. لكن ستخيب ظنونهم ككل مرة، لأنهم ينطلقون في كل مرة من قاموس تحيل مفرداته إلى الاحباط والشك والجمود. وعين الملك بنكيران رئيسا للحكومة مكرسا قراءة ديمقراطية للدستور، ثم بدأ النقاش ينصب على مدى قدرة حكومة بنكيران على إحداث التغيير المنشود، وجنحت آراء الراديكاليين وغيرهم إلى التشكيك في قدرتها على الانجاز وتجاوز الدولة العميقة، لا بل اعتبروها أداة في يد المخزن يمكن أن يخنقها متى شاء وكيف شاء ! ترى هل سيصدق ظنهم هذه المرة؟ كان خروج شباط من الحكومة(يوليوز 2013) محطة فاصلة من عمر حكومة بنكيران، حيث ظن أغلبهم أن بنكيران سيرضخ لشباط ومن وراءه، لكن الحكومة استمرت بضم حزب الأحرار، وفي الوقت الذي كان يجذر بالنخبة الانتباه إلى تفكك تحالف الثمانية، صارت تستغرب التقارب الذي نشأ بين بنكيران وزير المالية السابق صلاح الدين مزوار. لكن الأغرب من ذلك هو ذاك التطابق الذي بدأ يتبلور بين مواقف القوى الراديكالية بمختلف أطيافها ومواقف الأحزاب التي أمسى يسكنها عفريت الدولة العميقة. كيف ينشأ مثل هذا التطابق بين قوى الطهرانية وجحافل الإفساد؟ ! ربما قد يكون بنكيران وحزبه الأكثر ظلما وإفسادا، لكن مثل هذا الافتراض لا يصمد أمام سيرته وأخلاقيات حزبه الحميدة. والراجح أن اجتماع الطرفين ضد بنكيران يكمن في الرهانات السياسية لكل طرف، فأما الطهرانيون/ الجذريون وَجِلون من نجاح بنكيران لكونه سيلحق البوار بمنهجهم العقيم، وأما الطغاة و المفسدون فيزعجهم نهج الإصلاح لكونه يجهز تلقائيا على "ماكينات" السلطوية والاستنفاع الفئوي. وبعد اختيار المجلس الوطني لحزبه إبعاده لبعض الوقت، انتصرت كل الاطياف لبنكيران، غير أن الرجل انتصر لوحدة الحزب وسلامة المنهح. كل تلك الانجازات راكمها بنكيران الشخص والمنهج؛ قد يظن بعض المناصرين أن نهاية بنكيران باتت وشيكة، وعلى كل حال فإن بنكيران الشخص سينتهي في يوم من الايام، غير أن بنكيران المنهج باق إلى الأبد. [email protected]