بعد فاجعة الصويرة وسابقاتها من الفواجع والنائبات، يتصدع العقل ويثور قلقه في غليان رهيب ليعيد النظر في أمور عِدّة، كان يأخذها من قبل مأخذ الاعتيادية والمسلمات التي لا تناقش، وتمتلكك الدهشة ويستفزك الغضب حين تشاهد مسلسلات الجوع، وتوالي حلقات اللاَّ أمن الغذائي واللاَّ استقرار، لِتَلْتَمِسَ أن يكون غضبك المستشيط غضبا صِحيّاً يجلب وراءه الإفاقة واليقظة ولو بأبسط الوسائل، كقلم يأبى إلا أن يشارك الإنسانية أزماتها و ويلاتها، قلمٌ ينطلق من العدم فاضحا ستائر الظلم والاستبداد، وينبلج من وحي المكنونات، ومن كُنه الذّوات لِيُفجّر فيك الصمت الذي يلتوي على حبال الأصوات جاعلا منها همسات شاحبة لا صدى لها ولا حياة فيها لسنوات عجاف... هذا النوع من الكتابة يفك قيودنا ولو لبُرهة قصيرة، نستشعر فيها حقيقة ضيق الحرية التي تُترجم ضعف الأنفس في الإعراب عن السيل الجارف من معاناتنا ومآسينا المترامية الأطراف...إنها كتابة غير موجهة لأغنياء العالم حتى يتعظون ولا إلى سواد العالم من الفقراء والجائعين، لينهضون من سباتهم ويستيقظون، بل تخص النخبة المثقفة من المفكرين الذين ما برحوا في مدينة أفلاطون يحلمون، تاركين أشقياء العالم البائس الذين ما لبثوا بكرامة وخبز يعلّقون الأفئدة والعيون... عندما يتعلق الأمر بأكثر الموضوعات مساسا بحياة "الإنسان"، موضوع صناعة الجوع والبحث عن الخبز، تتهاوى وتتلاشى مَقولة " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" ويصبح الإيمان جليا بأنه " بغير الخبز لن يعيش الإنسان"، فمن لا يتحكم في قوت يومه كيف له أن يتحكم في فكره وفي قدرته على ممارسة كل ما هو رفيع من ملكاته وقدراته، كيف له أن يحيا حياة تطبعها الكرامة والشعور بالانتماء؛ فالفقر سمة شمولية تلقي بظلالها على أطراف العالم وتهدد استقراره، وتؤكد على حتمية التغيير والقيام بثورة "عالمة" تضمن توزيعا عادلا للحقوق والمستحقات، وتماشيا مع ذلك تم عقد قمة عالمية لمعالجة هذه الظاهرة في مطلع الألفية الثالثة، سُميت "قمة الفقر"، من أجل القضاء على ظواهر الفقر والجوع والمرض... لكن أفقها المسدود وتفعيلها المحدود لم يُؤتي أكله، ولعل مَرَدُّ ذلك قوة وبطش مالكي السلطة والتي فاقت كل القرارات الدولية، فأضحت فلما كاريكاتوريا يثير السخرية والاشمئزاز. الغذاء سلاح سياسي يستخدم ببراعة وبلا ضمير في تذويب مقاومة الشعوب المُفَقَّرة وإخضاعها لمن يملك المفاتيح ويسهر على تفقير البلاد والعباد، والإبداع في خلق الجهل والهشاشة والتبعية والتخلف، والتلاعب بمصائر بؤساء الأرض، وسَتْرَجَة العالم إلى شكلين يضم الأول منه أغنياء مُعَوْلَمِين يسكنون الكرة الأرضية يَعْبُرون الحدود ويتلذذون بملذات الأرض وخصبها، وفقراء مُأَمْكَنين يُقيّدهم المكان وما يجود به من حِرمانات وضعف الإمكانات، فالتنافس على احتكار الثروات سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول، إضافة إلى القوانين والأنظمة والتشريعات التي تمنح المستغلين والمحتكرين وأصحاب رؤوس الأموال كل الفرص لزيادة أموالهم واستغلال ذوي الدخل المحدود ودهس من لا دخل له، ثم تنامي ظاهرة المُلاك والإقطاعيين وأصحاب النفوذ والسلطة والتجار، سيما في دول العالم "الرابع والأخير"، التي تُحتكر ثروات بلادها لمصالح ذاتية ومآرب شخصية، هو ما يُحوّل البلاد إلى حظائر ومحميات تعيش شعوبها على فتات خيراتها، لصالح من يسطو على الأحلام والآمال ويسحق آدمية الإنسان. هناك شكل آخر من أشكال التفقير والتحقير والإذلال، والحكم على القيمة الاجتماعية لبعض الأفراد وعلى حياتهم بالسلبية والانتقاص من مكانتهم، هذا الشكل من الازدراء يتم على المستوى التعميمي والمعياري وله علاقة مباشرة بوضع الغير و تقديره الاجتماعي داخل الأفق الثقافي للمجتمع، ويعد هذا النوع من الاحتقار انتهاكا للكرامة الشخصية أو الجماعية، الذي يمنع الشعور بتقدير الذات وفقدان الإحساس بالحياة الكريمة والشريفة، ويؤدي إلى نتيجة متعددة التمظهرات، هي "الإماتة" la mortification، وهي تعبير عن مرض من الأمراض الاجتماعية، هذه الإماتة الاجتماعية تتم من خلال الإقصاء والتهميش وحرمان الأفراد حقوقهم ومتطلباتهم. ومنه فإن الفقر يقوم على معايير متعددة لها ارتباط وثيق بالتغيرات السكانية وعدم المساواة بين الأفراد في كافة الخدمات، وغياب سياسات مالية ملائمة تغطي العجز والهشاشة، ومن أجل الحد منه لابد من تضافر عنصرين مترابطين هما النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، ولن يتأتّى ذلك إلا بإشراك "الفقراء" نفسهم في هذه العملية، ولا حل في الأفق إلا بضخ أكسجين جديد ومتجدد في رئتي هذا البلد ومسح آثام ما فعله غيرنا، وذلك باستيعاب الدروس والاتعاظ بالتجارب الأليمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، من أجلنا وأجل الأبناء والأحفاد، والوجود والمصير، ومن أجل الابتعاد عن شرور الحروب وقهر الشعوب... وزرع الطاقة الإيجابية وروح المحبة والتضامن... آن للمغرب أن يتصالح مع مواطنيه وإنهاء الوجع الذي يشق الصدور، بتنمية الأشكال البَيْنْذَاتِيَة الثلاثة من حب وحق وتضامن، والمتناسبة مع النماذج الثلاثة لتحقيق الذات وهي: السبيل من أجل تحقيق الثقة في النفس، تحقيق احترام الذات، ثم تحقيق التقدير الاجتماعي بُغية الوصول إلى عيش مشترك بين أفراد المجتمع الواحد الذي تذوب فيه التفاوتات الطبقية، ويسعى إلى الاندماج الاجتماعي وتجاوز حالة العوز والعجز الاقتصادي.