"نحن كلنا أحباب الغيوان" عبارة يرددها دائما عمر السيد. ناس الغيوان مجموعة غنائية ابتدأت مغربية محلية وتحولت إلى ظاهرة شبه كونية، تخاطب الروح قبل العقل، والجسد الراقص والمحتاج إلى الجذبة التي تعشعش كلا منا بجذب صوفي هو حاجة قبل أن يكون متعة. ظاهرة ابتدأت مسرحية مع الراحل الطيب الصديقي لتصبح صوت الشعب بامتياز، لذلك يردد أحد أعمدتها وأحد مؤسسها عمر السيد: "نحن كلنا أحباب الغيوان"، ليجعلها شراكة بين الملقي والمتلقي. عمر السيد صوت لا يتكرر. 1 - همهمة. همهمات. دندنة. دندنات. يمتد الصوت الغيواني متلألئا عاليا شامخا كقامة صاحبه. قامة مسرحية تشدك من كل الجهات.. أفقيا وعموديا. صوت ضروري لتكتمل دائرة الغيوانيين المفقودين فينا. ناس الغيوان ظاهرة، وملك جماعي يخترق المرحلة في الزمان وفي المكان؛ وهي حركة عاشت من أجل الامتداد. امتداد صوتي صوفي راقص يشطح بالحركة وبالصوت. الصوت يُتمم الدائرة ببحة قصيرة ونفس قوي يدهش الرائي والمرئي.. هو ذا صوت العميد: عمر السيد. هل نتصور اكتمال دائرة المغنين المفقودين لولا صوت العميد؟ لا أظن ذلك. العميد عماد الشيء وأساسه الذي لا يكتمل بدونه، إليه نلتجئ في السراء والضراء، هو من نستشير وهو من نحكّم، ولذا هو ضروري. العميد ضرري بجسده وأفكاره، وكذا بصوته الثاقب مسام الجلد والروح. العميد هو من ينقذ الدائرة من الالتواء على ذاتها بصوته المجلجل الذي لا ينتهي. جُودِي بالرْضَا جُودِي لِي جُودِي بالرْضَا جُودِي لِى امتداد لا أحد يستطيع وقفه ولا مضاهاته لأنه من الأصوات التي لا تتكرر مرتين. صبْغِي ظْلامْ لِيلِي صبْغِي ظْلامْ لِيلِيى ضَوِّي يَا لْكَمْرَة الصوت يثقب الأذن. الصوت يتكلم ويرج الأذن ومعها أجزاء أخرى من الجسد. "من يتكلم هو صوت، ليست اللغة هي المتكلمة، فما هي إلا ظهور عارض، طاقة لا وجه لها، رنين وسيط، مكان زائغ حيث يتخذ اللفظ غير المستقر مرتكزا في استقرارية الجسد". والصوت هو سماعه، لا أهمية للصوت في ذاته، أهميته تأتي من الآخر المكمِّل المستقبل. ولا تهم الكلمات بما أن ما أتمتع به وأهتز له هو الصوت، والصوت هو السيد. الشاعر صوت، وأهميته هي في استقباله، وقد لا يهم المعنى. "تقوم اللغة باستبعاد الصوت، فإذا ما أُنشدت أعظمت سطوته، ومن هنا يكتسب اللفظ روعته...حتى ولو كان المقابل شيئا من غموض المعنى" . غموض المعنى يفسح للصوت مجالا آخر لهتك السر أو لاستغلاقه. نردد كلمات قد لا ندرك معناها، قد نحرفها ونحفظها محرفة، وما يهم هو الخروج الكبير الذي يرجنا رجا. "يلتجئ الكثير من المغنين الشعبيين إلى تمديد الصوت لتتمة المتبقي مما لا تستطيع اللغة أن تقوله، فالمعنى في قلب الشاعر، والشعر منذ لحظة اندلاعه المبدئي يتوق إلى التطهر من قيود المعنى، إلى الخروج من اللغة، بحثا عن حال امتلاء ينتفي منها كل ما ليس حضورا محضا". وقد لا يعني هذا بالنسبة للظاهرة الغيوانية ولأصوات منشديها ألا أهمية للغة والكلام والمعنى، بل المعنى يأتي في درجة أخرى أو في مقام آخر، تماما كما هو شأن السماع الصوفي. المعنى هو حالة الوجد التي يخلفها صوت المنشد، الشاعر المغني. يلجأ الكثير من المنشدين إلى إتمام المتبقي من كلامهم بألفاظ قد لا تحمل معنى محددا في ذاتها، لالا، ترالا، تيرالا، أ وآهيا وين أو ين وين، أو آيا يا يا في الحالة الغيوانية. يؤجل المنشد المعنى من أجل الصوت، وحين يفعل الصوت فعله يأتي المعنى، وكل متلق ومعناه، ومن هنا قوة صوت العميد التي تكمل الدائرة. 2 - الصوت والمعنى وبينهما البات والمتلقي، تستدير الدائرة ويقع التفاعل خلال هذه الدائرة الغامضة أحيانا، والتي يصعب شرحها علميا.. تفاعل وكفى. كيف يحدث ولم يحدث مع منشد ولا يحدث مع آخر؟ الصوت هبة ونعمة طبيعية يتم استغلالها بالعمل، تشغيل الصوت يرتبط بالصائت ومدى قدرته على الاختراق، اختراق الذات قبل الصفات. اخترق حجبات جسدي وحركني رغما عني يقول مستقبِل الصوت المرقص والمرعش بنشوة ضرورية. يتم ذلك بشكل فردي، وقد يتعداه إلى شكل جمعي يشكل طقسا روحيا ضروريا، صوت أم كلثوم، صباح فخري، إيديت بياف، صوت فيروز...أصوات ارتبطت بالأذن الجمعية لمتلقين معينين تفعل فعلها في الذاكرة بمجرد ذكر الاسم. حين توقف جسد، لا صوت، المغني الإيطالي بفاريتي بكاه العالم وأبنه رؤساء دول وحكومات.. الجسد توارى في التراب ولكن الصوت ظل وسيظل مجلجلا. 3 – "مكان الصوت هو فجوة الرحم، عند الحد بين الصمت المطلق وضوضاء العالم...ويتولى الصوت في الشعر مسؤولية الخطاب الإيروسي الصريح، على نحو أعرض مما تفعله الكتابة. في كافة السياقات الثقافية، الشكل الشعري الوحيد الذي يناسب هذا الخطاب على نحو عريض سهل الوصول مباشرة إلى الجماعة هو "أغنية الحب" بتنوع بلاغاتها، متكلسة كانت أو مجددة أعيد إبداعها، لفظ خارج الزمان، خارج المكان، توقع إلى ما لا نهاية بصيغ مطمئنة محورها الجامع هو نداء الرغبة الذي لا يجوز الإفصاح عنه". كل أغنية شعبية في الأساس هي أغنية حب متجددة رغم استنادها إلى ماض جمعي شعبي (أغنية الصينية)، والصوت المجدد والمتجدد هو من يرفع "أغنية الشعب" إلى مرتبة العالمية. الصوت عودة ورجع صدى إلى عمق الذات، وإلى رحمها الأول، وفي البدء كانت الكلمة والكلمة صوت. عشق الشعر هو عشق صوت الشاعر، والعشق هو ملء الفراغ الضروري الحاصل بين الصوت والصمت. ما الحد الفاصل بين الصوت والصمت في اللغة العربية؟ إنه تبادل الأدوار بين حرف الواو في الصوت وخرف الميم في الصمت. الواو في لغة الصوفية (الأغنية الغيوانية هي نشيد صوفي بامتياز) هو أول الحروف وخاتمها إذا أضيف للهاء، وهو أول الحروف عندهم التي أحدثت رجة العودة إلى البدء والأصل، أي إلى الكلمة، والكلمة رحم صوتي يأتي من ظلمات الصمت، أما الميم ف.. يترقرق الصوت في الصمت، ولحظات الموسيقى هي ضبط المسافة بين الصوت والصمت، بين البياض والسواد، بين الظلمة والنص. صوت العميد عمر السيد من الأصوات الضرورية التي لا تتكرر، صوت صوفي يرتبط بأحباب الغيوان، أي أحباب الله الذين يفرجون الغمة برقص ممتد إلى ما لا نهاية.