تمر ليبيا من مرحلة حرجة طرفاها الفوضى في حالة خروج الأمور العسكرية عن السيطرة ، لسبب من الأسباب المفاجئة التي لم يحسب لها، وهو أمر مستبعد ، أو الاستقرار التام وبداية بناء الدولة المدنية ، وهو أمل كل الليبيين جميعا. هناك مخاض عسير ستأتي بعده حتما ليبيا الجديدة جوهرة شمال افريقيا . فليبيا لها كامل الإمكانات كي تطور نفسها وتصبح في مستوى البلدان المتقدمة في مدة وجيزة بعد التحرير. فشباب ليبيا يملكون الإرادة القوية لتحويل بلدهم من حالة ركود إلى قبلة اقتصادية وسياحية بما تملك من قدرات فكرية وثروات طبيعية. إنما المشكلة اليوم تكمن في التهديدات التي مازال يلوح بها نظام القذافي المتفكك بعد الضربات الموجعة التي تلقاها من ثورة 17 فبراير مدعومة بالناتو. فالقذافي في حالة فرار ، ولم يظهر له أثر منذ أشهر عدة على وسائل الإعلام المرئية، وإن كانت رسائله اللاسلكية لم تنقطع بعد . فهو مازال ينفخ في " الرماد" عساه يوقد نار الفتنة من جديد ، داعيا أتباعه ( السكارى وما هم بسكارى ) لمحاربة إخوانهم الليبيين ، وتقديم أرواحهم قرابين لثورة "الفاتح العظيم " التي لم يقطف ثمارها إلا " هو" ومحيطه . دون شك ينتظر الليبيون على أحر من الجمر نبأ القبض على القذافي أو بالأحرى قتل نفسه، وفاء لما صرح به علانية وبعظمة لسانه، أنه لا يستحق الحياة في حالة ثبوت أن الليبيين لا يحبونه . ولقد أكدت له ليبيا بالبرهان أنها تكرهه ولم تعد تتحمل " صوته" بعدما ذاقت نعمة الحرية الحقيقية بعد 42 عاما سجنا واستبدادا . لقد اتضح للقذافي أن الملايين من أتباعه لم تكن إلا أكذوبة ، وأن المسيرة المليونية لم تكن إلا خرافة ، أدى أبطالها أدوارهم وهم مكرهون لما كانوا تحت الاستبداد. أما اليوم فلهم رأي آخر ، لقد أصبحوا أحرارا . وإذا كان أول ما يجب أن يثقنه أي حاكم هو فن التمثيل أمام الجماهير ، فالقذافي تميز عن غبره بحسن أداء أدواره بثقة كبيرة ، كي يظهر دائما أنه الزعيم القوي الذي يستطيع الدفاع عن نفسه في الوغى على شاكلة " بونابرت " أو الأسكندر الأكبر" .قال مرة " عندي بندقيتي وسأقاتل إلى آخر قطرة من دمي" . والسؤال كم رصاصة أطلق القذافي منذ انطلاقة ثورة الشعب الليبي ؟ فالذين يموتون هم الليبيون (الطين يكسر الطين ) بينما القذافي وكأنه ليس من الطين ، يتفرج ويصب الزيت على النار كي يبقى له ملكه ، أليس هو ملك الملوك ؟؟ قرر القذافي فجاة لعب لعبة " الغميضة " مع الثوار، فاختفى وتركهم يبحثون عنه ، لكن الإشكالية في أتباعه الذين مازالوا يقاتلون و يغامرون بحياتهم من أجل نظامه القذافى الذي تهاوى بسرعة جنونية في طرابلس ؟ لماذا يرهنون حياتهم بالقذافي وأبنائه ، ولا يستطيعون التخلي عنه ، وكأنهم يؤمنون بأن القذافي هو " الحياة" وأن الحياة بدون القذافي " هاوية" ؟ ويا ليتهم نظروا نظرة إلى يمينهم و وأخرى إلى شمالهم ليكتشفوا أن جيرانهم لازالوا على قيد الحياة بعد رحيل مبارك وبنعلي . ويا ليتهم يتفكرون ويقرؤون قراءة متأنية أفكار ثورة 17 فبراير ليكتشفوا أن ليبيا بعد القذافي هي ليبيا الحريات وحقوق الإنسان والمساواة . حيث سيكون بإمكان كل ليبي اليوم الترشح للرئاسة أو للوزارة وغيرهما ، أي أنه بإمكان المواطن الليبي المشاركة – وبكل كرامة- في السلطة عوض أن يبقى طول حياته يُنْظَر إليه أنه من " الجرذان" يستحق العيش فقط في مجاري المياه. مشكلة القذافي أنه كذب كذبة فصدقها ، فملأ نفسه كبرياء واستعلاء عن الليبيين وعن غيرهم ، فلقد جمع بين توجهات " قارون" حيث مكنته ثروته من التعالي على غيره من البشر، وبين توجهات " فرعون" الذي طغى . القذافي إذن ، جمع بين الكبرياء والعظمة اللذان ينتهيان بصاحبها إلى الذل والهوان ، إلى أن يجد نفسه يوما تحت أقدام قومه آخر أيامه . فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قال عز وجل : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما عذبته ). ومن بين علامات الذل الذي لحق بالقذافي وزمرته ، اقتناع الليبيين بأنه فارس من ورق لا يستطيع الدفاع عن نفسه ببندقيته كما زعم ، وبذلك يكون أبو الطيب المتنبي أصدق منه قولا وفعلا ، وهو القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني ** والسهم والرمح والقرطاس والقلم.كما أن الهوان لحق به كذلك، لما رُصِدَ لرأسه حيا أو ميتا 1.7 مليون دولار ، وهو الذي راكم ثروة بالملايير. حتما لن تنفعه (ثروته) لشراء نفسه أمام الله من كثرة ما أساء للناس. فمن المستملحات ، أن القذافي اختفى – عوض الاستسلام - ليعرف سعر رأسه والمكافأة التي ستخصص لمن يأتي برأسه ، فلما سمع أن المجلس الوطني خصص 1.7 مليون دولار فقط كمكافأة للقبض عليه ، بينما خصصت أمريكا 25 مليون دولار لصدام، و50 مليون دولار لابن لادن سأل عبد الجليل : "ليه كذا يا عبد الجليل" ؟ فأجابه عبد الجليل : "لأن رأسك فيه طزطزات و حريم وشعوذة بس !" . سيكتب تاريخ ليبيا بمداد من ذهب ، ثورة ربيع ليبيا 17 فبراير، رغم الخسائر .ومهما يكن ، يمكن القول :" رب ضارة نافعة...ورب محنة فيها منحة" . فالثورة حررت الليبيين من قيد عبودية طال أمدها ، وتشهد فصولها بأن الأعز في ليبيا كان الأذل بسبب جبروت المتكبرين (القذافي وأبنائه)حسب شهادة علي زيدان( الأمين المساعد للرابطة الليبية لحقوق الإنسان) حين يقول: "[...]فكل ابن من(أبناء القذافي) له نفوذه ،وإذا اعترض طريقه أحد يرد عليه كما رد المعتصم على موسى كوسا، وهو أن يصفعه أو يشتمه، وهذا ما حدث أكثر من مرة، ليس مع موسى كوسا فقط، وسبب ذلك الطريقة التي ربى بها العقيد القذافي أبناءه، وتفكير أبناء العقيد ومزاجهم، فهم دائما يعتقدون أنه لا يستطيع أحد أن يقول لهم كلمة لا". لا يستطيع أحد أن يقول لهم "لا" ، معناه عبودية على طول ، و"موت يا احمار" على قول الإخوان المصريين . ومعناه أنه سيكون لكل ولد من أولاد القذافي سلطته ، وسيكون الليبيون وقتها أمام حكم مماليك ، وليبيا مقسمة عن آخرها . من أجل ذلك يمكن النظر إلى إلى ثورة 17 فبراير على أنها الثورة التي أنقذت ليبيا من التقسيم وأنها هي الضارة النافعة والمحنة التي فيها منحة . فمستقبل ليبيا كان سيكون أقبح من فترة القذافي في عهد أبنائه الذين تجمعهم الأسرة وتفرقهم الثروة والسلطة . دون شك كانت ليبيا ستصبح الأندلس في عهد ملوك الطوائف حيث كان التناحر بينهم يهدم كل ما بناه الفاتحون . ربيع ليبيا جنب بحق ليبيا والليبيين تاريخا أسود كانوا سيعرفونه في فترة حكم أبناء القذافي ، بناء على ما رشح من خلافات بين الأبناء والقذافي وهوعلى قيد الحياة. إن من بين نعم الله على الشعب الليبي أن الله هداهم لمحاربة القذافي الذي كان لا يرى في الليبيين سوى مستعملي الحبوب ، والجرذان ، والقط والوسخين .فمن يتحمل المسؤولية لو افترضنا تجاوزا أن هناك جرذانا بليبيا ؟ أهم الليبيون أم القذافي الذي كان يملك مفاتح خزائن الثروات ولكنه كان مبذرا وبخيلا في نفس الوقت؟؟ كان القذافي مبذرا يبعث بالمنح لمن لا يستحق ، وبخيلا متقشفا على أهله وسكان دياره . وكأنه لم يسمع قط بالحديث الشريف " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".