لكل بداية نهاية،ولكل نهاية بداية بمعنى من المعاني،تُسَلم بهذه الحقيقة الديانات،وتختلف فيها الفلسفات والسياسات ،وبين التسليم والاختلاف مسافة من الزمن تعاقبت فيها دورات الحرب والسلام على البشرية،فمتى تعامل الناس فيما بينهم على أساس وحدة الخلق (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) 1،ووحدة المصير والحساب (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله،ثم توفى كل نفس بما كسبت) 2،يعيشون على أرض واحدة،وتظلهم سماء واحدة،وأيضا على أساس أخلاق المواسعة والمسامحة،أي بدون تسلط على قناعات الأفراد،ومحاكمة النوايا والضمائر (افلا شققت عن قلبه)3،شاعت وانتشرت قيم المحبة والسلام والتعايش،ومتى تعاملوا فيما بينهم على أساس المغالبة بالسعي إلى فرض خصوصية عالمية واحدة،أو دين واحد،أو إقامة محاكم تفتيش عن القناعات والاعتقادات،أو توظيف شرطة الأمن الروحي التي تتفرس في وجوه الناس لتصنفهم إلى علمانيين أو يساريين أو إخوانا أو إسلاميين،سواء باسم السلفية الوهابية السنية أو باسم الإخبارية والشبيحة الشيعية أو باسم مواجهة "المخزن الديني " "للمشاغبين" و"الخوارج" و"الشاقين لعصا الطاعة"،انتشرت عندئذ السلوكيات العدوانية والعنصرية،وسعى كل فريق أو جماعة أو حزب للتعجيل بنهاية خصمه وعدوه،إذن فجوهر المسألة يتعلق بمفهوم النهاية،ألا ترى إلىى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرشد الناس إلى العمل وهم يشهدون قيام الساعة،كي لا يجزعوا،وكي لا يشغلهم التفكير في نتيجة الحساب واختبارات الدنيا فيقول (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)4 مع العلم أن تلك الفسيلة التي ستصير نخلة فيما بعد لن تؤتي أكلها إلا بعد عشر سنين،وهي دعوة لكي يستوطن الأمل القلوب فلا يغادرها أبدا حتى في أحلك الظروف والحالات،لكن عديدا من الناس لاسيما من النخبة انطوت عقولهم وقلوبهم على تصور مشوه لمفهوم "النهاية" مما أوقعهم في مآزق على مستوى النظر وعلى مستوى الممارسة. مأزق "خطاب النهايات" شهد القرن الماضي رواج وانتشار "خطاب النهايات" ،بالموازاة مع انتشار خطاب "العولمة" الذي كانت نتائجه كارثية على الكثير من الشعوب لاسيما بعد انهيار المعسكر الشرقي،وانتشاء المعسكر الغربي بقيادة أمريكا "بالانتصار الأيديولوجي" ،مما حدا بالمفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما إلى تحويل مقالته المشهورة "نهاية التاريخ" إلى كتاب مستقل ينتصر فيه لفكرة حتمية توجه الدول والشعوب نحو الديموقراطية واللبرالية واقتصاد السوق،وقد نال الكتاب اهتمام الدارسين والباحثين بين منتقد له ومزك ومقلد ومردد،ونسج بعض المفكرين على نفس المنوال،والبعض الآخر بسبب الطفرة المعلوماتية،أو بسبب مآلات "الربيع العربي" فتحدثوا عن "نهاية المدرس" و"نهاية المثقف" و"نهاية الأيديولجيا" و"نهاية الدولة"و"نهاية العلم" و"نهاية الإنسان" و"نهاية التربية" و"نهاية اليسار" و"نهاية الإسلاميين" ...إلخ،ولقد كان الأولى والأجدى العدول عن "القطعية" و"الوثوقية" التي يستبطنها "خطابا النهايات" إلى النسبية التي يستبطنها "خطاب المابعد" نحو" ما بعد الرأسماية" و"ما بعد الحداثة" و"مابعد اليسار" و"ما بعد الإسلاميين"،لأن "خطاب النهايات" هو في الحقيقة: - خطاب منغلق - خطاب جامد ومجاف للتطور - خطاب يلجأ إليه العاجز عن الفهم وغير القادر على التحمل والاستمرارية - خطاب لا يترك مجالا للعودة والمراجعة إذا ما استجدت أمور ووقائع وأفكار - خطاب يصادر الاختلاف،وينمط المجتمعات والشعوب - خطاب يمثل وصفة سهلة لنشر الفوضى في العالم،واندلاع الحروب الأهلية والدينية،وتكريس صراع الحضارات،ف"خطاب النهاية" في الأذهان يؤدي إلى إبادة الإنسان والثقافات والحضارات في الأعيان. إن التحلي بالتواضع والصبر على مشاق البحث والتنقيب،وعدم الاستعجال،والبعد عن العمل بشعار "خالف تعرف" يمثل كل ذلك "بدايات محرقة" تفضي إلى "نهايات مشرقة" تعتبر "ميلادا جديدا" في عالم الروح والعلم والعمل. 2.مثال مغربي ويدخل في خانة "خطاب النهايات" الحماسي الكتاب الذي صدر مؤخرا عن دار الوطن لرشيد أيلال بعنوان" صحيح البخاري:نهاية أسطورة" 5،ولا يصح عقلا وطبعا تعقب أفكار الكتاب المذكور بأي نقد أو تعليق ما لم يقم المعلق والناقد بقراءة متأنية له،تقرب القارئ من مضامينه الأساسية،لاسيما وأنها ترتبط "باختصاص صناعي" هو علم الحديث،ولنتبين مدى إتقان الكاتب لذلك الاختصاص،أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تطاولا وقفزا في الهواء،وهل ثمة جديدا فيما كتب،أو ترديدا لآراء سابقة بلغة جديدة. يستهل الكاتب بحثه بالتعرض لمسألة على درجة كبيرة من الخطر والأهمية وهي مسألة "تدوين الحديث" ،فساق مجموعة من الأحاديث والآثار التي اعتبرها تدل "دلالة قطعية على منع الرسول لأصحابه من تدوين كلامه"6،واعتبر الأحاديث التي تجيز كتابة الصحابة للحديث مصنوعة ومختلقة 7،وقال بتأخر تدوين الحديث النبوي إلى ما بعد المائة سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم8،وانتقل إلى الحكم على "علم الرجال"،فزعم أنه "انصب على دراسة رجال الحديث دون النظر في المتن وهو الأهم"9،وبعد كلام خلص إلى القول إن "علم الرجال أكذوبة تاريخية تم التهويل بشأنها"10،و"إن أعظم جناية جناها الحديث هي التسبب في هجر كتاب الله ليحل محله على مستوى التشريع،وعلى مستوى العقيدة،وعلى مستوى العبادات"11،ثم التفت إلى شخصية الإمام البخاري،فاعتبر الروايات الواردة في سياق ذكر سيرته ترفعه إلى سماء التقديس ليسهل بذلك تقديس "جامعه الصحيح"،فلما شهدت تلك الروايات للبخاري بقوة حفظه عد ذلك الحفظ "أسطوريا"12،وعد اختبار قلب المائة حديث لقياس درجة ضبط البخاري "اختبارا خرافيا"13،وعقب على نقد هذه الروايات بالقول :"إني أكاد أجزم أن شخصية البخاري لدينا نحن معظم المسلمين توازي شخصية بولس الرسول لدى المسيحيين"14،ثم سفه القول باستغراق البخاري في تأليفه للجامع ستة عشرة سنة "وكأن صحيح البخاري هذا بحث في علم البيولوجيا ،أو علم الأنتروبولوجيا أو غيره من العلوم الحقة التي التي جاءت بنظريات قلبت مفهوم الكون"15 ويضيف:"وكل دارس للكتاب سيعلم بطريقة سهلة (كذا) أن هذا الكتاب من الغريب أن يقال عنه أن البخاري استغرق ستة عشر سنة في تأليفه"16. وراح الكاتب يستعين بالقدرات الحسابية لآخرين ليقوم بعملية إحصاء تمكنه من تكذيب مجموعة من الروايات الأخرى: - منها الروايات التي تشير إلى قيام البخاري بصلاة الاستخارة عند إرادة البخاري إدخال حديث ما في جامعه،يقول رشيد أيلال:"ولكم أن تتخيلوا كم مرة قام البخاري بصلاة الاستخارة ليكون الجواب هو 600 ألف مرة أي مليون ومائتي ألف ركعة خلا ست عشرة سنة"17، - وذهب الكاتب يحصي معدل الاستجابة الإلهية ومعدل الرحلة البشرية في سياق تعليقه على رحلات البخاري شرقا وغربا لجمع الأحاديث،ومعدل الحفظ اليومي ومعدل الأحاديث التي تلقاها البخاري عن شيوخه،ثم يعلق قائلا :"الأرقام لا تكذب ولا تترك مجالا للشك ،إن علم الحديث الذي يدعيه الشيوخ ما هو إلا علم الكذب وسلق البيض"18 وجعل الكاتب من انتفاء الإجماع حول شخص البخاري،وعدم وجود النسخة الأصلية للجامع سببا في الحكم عليه (الجامع) بالخرافة والأسطورة "نحن نريد المخطوطة الأصلية لصحيح البخاري كما خطتها يمين الشيخ البخاري"19،وتأكد له :"أن صحيح البخاري الذي بين أيدينا الآن ليس هو صحيح البخاري الذي ألفه محمد بن إسماعيل البخاري"20،وهو "كتاب عادي جدا"21 و"مؤلفه مجهول"22،ويختم بالنتيجة الكبرى "من حقنا إذن أن نقول إن صحيح البخاري كتاب مجهول المؤلف،لا أصول له،ولا حقيقة لوجوده،فهو كتاب لقيط،جمع بين طياته أهواء أناس،وضعوا فيه ما أرادوا ليبرروا أفعالهم،ويؤسسوا عليها كهنوتهم،ونحن نعلم أن هؤلاء سيضيعون بضياع هذه المرويات،فلا وجود حقيقي لهم إلا بها،ولا عيش لهم بدونها،فهي قوتهم الذي عليه يعيشون،لذلك فهم يستميتون في الدفاع عنها أيما استماتة،لأن إسلامهم إسلام هاته المرويات،لا إسلام القرآن"23. بعد هذا العرض لأهم أفكار الكتاب،تقتضي مناقشتها رسم عدة أمور تتعلق بثلاث مسائل رئيسة: المسألة الأولى:قصة تدوين الحديث النبوي أول ما نزل من الوحي (إقرأ باسم ربك الذي خلق)24،ثم تتالى نزول السور والآيات القرآنية،فكان أمر ترتيبها توقيفيا من الرسول صلى الله عليه وسلم ،وكانت تكتب سطورا على اللخاف والسعف وجريد النخل،وتحفظ في الصدور،فتوفر للقرآن الكريم بذلك ضبطان ضبط صدر وضبط كتاب،استغرق النزول ثلاث وعشرين سنة،وتولت الأجيال المتعاقبة مهمة التنزيل،وتولى الرسول صلى الله عليه وسلم بيان ما نزل إلى الناس،من هنا برز الحديث النبوي يفصل القول في شتى مناحي الحياة،يعالج النفوس بالتربية،وينور العقول بالعلم،ويبني التصورات،ويصلح التصرفات حتى لا ينزلق الأفراد إلى علمانية مقنعة بإحداث فصام بين العلم والعمل،وبين القول والفعل (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون)25، وأفلح صلى الله عليه وسلم في تحطيم الأصنام المادية في واقع الناس بد أن اقتلع الأصنام المعنوية من نفوسهم،ولم يجادل أحد آنئذ في ورود الأمر النبوي بكتابة ما ينزل من القرآن،لكن الجدال وقع في كتابة الحديث النبوي،فمن اعتقد عدم الكتابة يستشهد بالنهي الوارد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم :"لا تكتبوا عني،ومن كتب عني غير القرآن فليمحه،وحدثوا عني ولا حرج" 26،ومن اعتقد حدوث الكتابة استشهد بأحاديث الإباحة،كقوله صلى الله عليه وسلم:"اكتبوا لأبي شاه"27 وأبو شاه هذا رجل من أهل اليمن سمع أحاديث فقال:اكتب لي يا رسول الله،فقال عليه الصلاة والسلام:"اكتبوا لأبي شاه"،كما اختلفوا في تفسير الاختلاف بين الأحاديث الناهية عن الكتابة والأحاديث المجيزة،واشتهر التفسير القائل بنسخ المجيزة للناهية،وانتقد هذا التفسير لثبات بعض الصحابة على القول بالنهي،والتوجيه الأمثل لذلك الاختلاف هو القائل بارتباط النهي بعلة،فإذا انتفت تلك العلة جازت الكتابة،فالنهي ورد خشية أن يكتب القرآن مع الحديث في صحيفة واحدة فيختلط القرآن بالحديث لاسيما وأن القوم حديثو عهد بظاهرة الوحي،ومتى أُمن الاختلاط جازت الكتابة،فضلا عن أن النهي قد ورد في حق صحابة بأعيانهم،ووردت الإباحة في حق آخرين،وهذا التعامل مع الصحابة بحسب معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بشخصية كل واحد منهم ،فحدث أن طلب منه مجموعة من الصحابة التوجيه والنصيحة فلم يكن ينصحهم بشيء واحد،فواحد يوصيه باجتناب الغضب،وآخر يوصيه بكثرة ذكر الله،ولما طلب أبو ذر الإمارة قال له :"يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة"28 ،وعلى كثرة الاختلافات بين الشيعة والسنة فإنهم اتفقوا على أن الكتابة قد حدثت في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم،مما يدحض زعم تأخر الكتابة إلى بداية القرن الثاني الهجري،ليسهل الطعن في حجية السنة،والقول بأن الزمن الفاصل بين الكتابة والرواية الشفهية كان كافيا لوضع الأحاديث،ولا أحد يجادل في وقوع الوضع والاختلاق بعد الفتنة الكبرى وحرص كل فرقة وحزب على التماس الشرعية الدينية لأقوالها وأفعالها ،والذين يرجحون من الدارسين المعاصرين كتابة الحديث بعد المائة الأولى من الهجرة ينسون أو يتناسون أن أعظم وثيقة سياسية قد كتبت بمحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي "صحيفة المدينة" التي كانت بمثابة "بيان دستوري" نظم العلاقات بين مختلف سكان المدينة بإقامتها على أسس التعاون والعدل والمواطنة والشراكة في الدار (الذين تبوؤوا الدار)29،وكان لعبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة جمع فيها عدة أحاديث ،ولجابر بن عبد الله،ولأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكان للتابعي همام بن منبه صحيفته رواها عن شيخه الصحابي أبي هريرة،وقد عثر عليها الدكتور محمد حميد الله في مخطوطتين في دمشق وبرلين،وقد ضمها كلها مسند الإمام أحمد،وروى الكثير من أحاديثها البخاري في جامعه30. ينصب الجزء الأكبر من النقد على أبي هريرة ،وهو نقد يتسربل أحيانا بنزعة الإنكار،أي نفي وجود صحابي يسمى أبا هريرة،وأحيانا أخرى يسف الناقد في القول فيستعير معجما حربيا ملؤه السب والشتم،فيعيب البعض عليه كثرة الرواية،ويزعم آخرون"ممالأته" لبني أمية،وهو زعم يكفي في رده ودحضه إيراد أحاديث رواها أبو هريرة تبين موقفه الحقيقي منهم،منها ما رواه البخاري نفسه عن عمرو بن يحيى بن سعيد قال:"أخبرني جدي قال:"كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ومعنا مروان،قال أبو هريرة:سمعت الصادق المصدوق يقول:هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش،فقال مروان:لعنة الله عليهم غلمة،فقال ابو هريرة:لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت،فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا الشام،فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال:عسى أن يكونوا منهم،قلنا:أنت أعلم"31،وروى البخاري أيضا أن أبا هريرة كان يقول:"حفظت من رسول الله وعاءين،أما أحدهما فبثته ،وأما الآخر فلو بثثه قطع هذا البلعوم"32،قال ابن حجر:"وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم،وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضهم ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم،كقوله:أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان،يشير إلى خلافة (كذا) يزيد بن معاوية،لأنها كانت سنة ستين من الهجرة"33 إنه يلزم التفريق بين عموم ما يسمى جمعا وتدوينا وخصوص ما يسمى كتابة وتقييدا،فالكتابة جرت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم،والتدوين جرى بأمر الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز لما خاف اندراس العلم وذهاب أهله،ويشهد لصدقه في ذلك الأمر اتفاق كل المذاهب الإسلامية على عدله وعدالته سنة وشيعة وخوارج،فكان الإمام الباقر يقول لو بقي لنا عمر بن عبد العزيز ما احتجنا بعده لأحد،وحاور الخوارج فكان مُخْرج الحوار الرئيس قطع عادة توريث الحكم والاحتكام إلى الشورى فلم تمهله مؤامرات الانقلابيين من بني عمومته فمات مسموما.ولم يلق المستشرقون بالا لذلك التفريق بين التدوين والكتابة فروجوا لأطروحة تأخر كتابة الحديث إلى ما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة سنة،فتلقف الأطروحة الكثير من الدارسين والباحثين العرب تقليدا لا تمحيصا منهم السيد رشيد أيلال في بحثه. المسألة الثانية:الحديث بين النقد الداخلي والنقد الخارجي دعوى اقتصار المحدثين على النقد الخارجي(أي نقد السند) للأحاديث دون النقد الداخلي(أي نقد المتن) رددها من ضاقت حويصلته عن استيعاب منهج النقد الحديثي في تفاصيله الدقيقة،ومن يحكمون على علوم ذلك الزمان بمقاييس الزمن الحاضر،فجامعو الحديث لم يكونوا في غنى عن الحركة الدائبة والرحلة المستمرة لأن مدار الأمر على نقل الخبر ،وعلى التثبت من عدالة الراوي وضبطه من ثم دعت الحاجة إلى دراسة الأسانيد،ونشأ عن ذلك مصطلحات حديثية ترتبط بنقد السند كالحديث المنقطع والمعضل والمعلق والمرسل والمعنعن والمدلس والمسلسل،وكان لا يحكم على الحديث بالصحة إلا إذا صح سنده ومتنه،إذ لا يلزم من صحة السند صحة المتن،ولذلك قال ابن الجوزي:"وقد يكون الإسناد كله ثقات ويكون الحديث موضوعا أو مقلوبا أو قد جرى فيه تدليس،وهذا أصعب الأحوال ولا يعرف ذلك إلا النقاد"34،وقال أيضا:"ألا ترى أنه لو اجتمع خلق من الثقات فأخبروا أن الجمل قد دخل في سم الخياط لما نفعتنا ثقتهم ولا أثرت في خبرهم لأنهم أخبروا بمستحيل،فكل حديث رأيته يخالف المعقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع"35،وهذه قاعدة نفيسة في نقد المتن تنضاف إلى قواعد أخرى منها36: - ألا يكون ركيك اللفظ،بحيث لا يقوله بليغ أو فصيح - ألا يكون مخالفا للحس والمشاهدة - ألا يخالف البدهي في الطب والحكمة - ألا يشتمل على إفراط في الثواب العظيم على الفعل الصغير،والمبالغة بالوعيد الشديد على الأمر الحقير وإذا كان التعرض بالدراسة للأسانيد قد نشأ عنه "علم الرجال" الذي يقوم على ركيزتين أساسيتين وهما الجرح والتعديل،فإن هناك أسبابا خفية تقدح في صحة الحديث ولا مدخل للجرح والتعديل فيها ،وقد سمى المحدثون تلك الأسباب "عللا"،ومن لا يستحضر هذه الحقيقة يسهل عليه أن يقول كصاحبنا:" علم الرجال أكذوبة تاريخية تم التهويل بشأنها".وهذه أمثلة لأحاديث حكم عليها بالوضع أو الضعف لعلة في متنها: - الحديث المختلق الذي يُروى فيه أن جبريل قال للرسول صلى الله ليه وسلم:إن الله يقول لك :تزوج ابنة أبي بكر الصديق(أي عائشة) فمضى رسول الله صلى الله ليه وسلم إلى منزل أبي بكر فقرع الباب ثم قال:يا أبا بكر إن الله أمرني أن أصاهرك،فكان له ثلاث بنات فعرضهن عليه ،فقال :إن الله أمرني أن أتزوج بهذه الجارية وهي عائشة فتزوجها"،قال ابن الجوزي:"ما أبعده الذي وضعه عن العلم،فإن رسول الله صلى الله ليه وسلم تزوج عائشة وهو بمكة، ولم يكن لأبي بكر حينئذ ثلاث بنات،ما كان له غير أسماء وعائشة،وإنما جاءته بنت بعد وفاته يقال لها أم كلثوم"36 - ووما يضعف لأجل علة في المتن "الحديث المدرج" أي يتم إدراج عبارة في نص الحديث إما في أوله أو في وسطه أو في آخره وليست منه،مثال ذلك ما رواه النسائي عن فضالة مرفوعا:"أنا زعيم – والزعيم الحميل- لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة" فعبارة "والزعيم الحميل"ليست من الحديث وإنما أدرجت فيه على سبيل التفسير فقط 37 - كما يضعف الحديث إذا كان "مضطربا" أي تتعدد رواياته ولا يمكن الترجيح بينها بوجه من وجوه الترجيح،وذلك الاضطراب قد يكون في الإسناد كما قد يكون في المتن.من هنا يظهر أن السيد رشيد أيلال لم يطلع على هذه الأمثلة للنقد الداخلي للمرويات فجازف بالقول إن ذلك النقد "انصب على دراسة رجال الحديث دون النظر في المتن وهو الأهم". المسألة الثالثة :المطالبة بالنسخة الأصلية لم يكن للبخاري مكتب في زاوية من بيته يخلو فيه للتأليف والتصنيف،ولا كانت مدينته تتوفر على مطبعة تطبع كتبه على الورق الصقيل كي يشغل الناس بالأشكال وينصرفوا عن التحقيق في المضامين،بل كان الرجل رحالة يضرب في الأرض ليجمع ما تفرق من الأحاديث،ألا ترى إلى الصحابة أنفسهم كيف تفرقوا في البلدان وصار لهم تلاميذ اختلفوا في اجتهاداتهم فشكلوا نواة لمدراس التفسير والفقه،أولئك التلاميذ لم يكونوا يتداولون فيما بينهم نسخا مما تلقوه من الأحاديث،وإنما كانوا يترددون على الشيوخ ليسمعوا بآذانهم،وينقلوا ما سمعوه إلى من بعدهم،والإصرار على المطالبة بالنسخة الأصلية لن ينفع حتى في رواج كتاب السيد أيلال لأن كل قارئ سيطالب بالنسخة الخطية الأولى حتى يصدق بأن أيلال هو الذي صنف الكتاب،وأكثر من ذلك نسأل أين هي النسخة الأصلية للقرآن الكريم،والنسخة الأصلية للأناجيل،والنسخ الأصلية لكتب أرسطو وأفلاطون التي انطلقت منها النهضة الغربية والتنوير الأوروبي،وبالتبع فالمطالبة بالنسخ الأصلية لمصادر الثرات ستجر فوضى ثقافية وفكرية في العالم كله،ولا تعدو أن تكون مطالبة صبيانية تلتصق بالأطفال الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوسات وتعجز عقولهم عن فهم المجردات. كما أن المطالبة بالنسخة الأصلية لصحيح البخاري جهل فظيع بطرق تحمل الحديث وطرق أدائه،فالرواية من الكتاب تعد أضعف تلك الطرق،والمعروف عند علماء الصنعة الحديثية أن طرق التحمل (أي تلقي الحديث) ثمانية وهي: 1.السماع:أي سماع لفظ الشيخ بسرد الحديث أو بالإملاء 2.العرض:وهو القراءة على الشيخ إما من حفظ القارئ أو من كتاب بين يديه 3.الإجازة:هي سماح المحدث للطالب أن يروي عنه كتابا أو حديثا دون أن يسمعه منه أو يقرأه عليه،وهذه الطريقة تم اعتمادها بعد التدوين وظهور المصنفات الحديثية 4.المناولة: وهي أن يعطي الشيخ للطالب كتابا ليروي منه،وهنا لا بد من التأكيد على أن إعطاء الكتاب ليس من السهولة بمكان،فلا يتم إلا بعد التأكد من أهلية الطالب وكفاءته التخصصية. 5.المكاتبة:هي أن يرسل المحدث إلى الطالب الحديث،فإن أجاز له روايته عنه اعتمدت وإلا فلا 6.الإعلام:أن يخبر المحدث التلميذ بأن حديثا ما أو كتابا هو سماعه من فلان،وقد يكون إعلاما مقرونا بالإجازة أو غير مقرون بها 7.الوصية:وهي أن يوصي للمحدث للتلميذ بكتاب من كتبه بعد موته، ولم ير المحدثون لهذه الطريقة نفا لأنها لا تدو أن تكون مجرد تمليك للنسخة 8.الوجادة:وهذه هي التي يطالب بها السيد أيلال،فلما لم يُلَب طلبه اعتبر صحيح البخاري مجرد أسطورة،وفحوى هذه الطريقة هو أن يجد الطالب كتابا بخط الشيخ وبإسناده،وهي الطريقة الأضعف في طرق التحمل الثمانية والأصل في كتاب البخاري هو الطريقة الأولى،والوجادة في حقنا نحن المعاصرين تأخذ حكم هذه الطريقة فنثق بالنسخة لأنها ليست المبتدأ وإنما المبتدأ السماع38. ولا يجب أن يغيب عن بالنا ما استجد في حياة الناس من طرق جديدة للسماع والعرض والمكاتبة ترتبط بالتطور الهائل الذي حدث في وسائل التواصل والاتصال(التلفاز والهاتف والفيديو والأنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة والتعليم والتعلم)،يحسن أخذها بعين الاعتبار في مناهج نقد الأخبار،والتحقق من النقول والمصنفات والكتب،تتعايش جنبا إلى جنب مع سرعة انتشار الإشاعة والميل العامي إلى السبل السهلة في تكوين المعرفة،والتسرع في إصدار الأحكام بل ومحاكمة الماضي الذي لم يعرف ذلك التطور بمعايير زماننا. خلاصة القول إن دراسات الحديث النبوي علم قائم بذاته،له قواعده ومصطلحاته الخاصة،يصلح أن يتخذ منهجا لنقد الخبر التاريخي والإعلامي بالاستفادة من مستجدات العلوم الإنسانية،ولو كان النقاد المسلمون يقبلون الحديث لمجرد كونه حديثا لما وجدت القسمة الثلاثية:صحيح وحسن وضعيف،ولما تكلموا عن الحديث الموضوع،ولكنهم تحلوا بالواقعية في نقد الرجال وفي نقد الخبر،فالذين انتقدوا من أهل الدار أحاديث في الصحيحين كثر،ولا عيب في ذلك،ولكن التعميم كما يقال هو أقصر طريق نحو الهزيمة،وإن محاولة إزاحة كل السنة عن مواقع الاحتجاج والتشريع سعي فاشل ليس وليد اليوم ولن ينتهي،وليس المراد منه الانتصار للقرآن وإنما التدرج في إنجاح المؤامرة بتحويل منظومة أفكارنا وأذكارنا إلى ساحة مستباحة،وإفقاد الأمة كل مقومات المناعة والمقاومة،والأجدى هو الابتعاد عن التفكير بأسلوب النهايات الذي ينم عن يأس واضطراب وتخبط ونرجسية وعجز عن الفهم. الهوامش: 1.البقرة آية 21 2.البقرة آية 281 3.والحديث بتمامه متفق عليه،عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: “بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟!)) قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟! أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا ؟! فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ”.. الهوامش: 4.رواه الإمام أحمد في المسند 5.دار الوطن/ط1 ،2017،الرباط،المغرب 6.نهاية أسطورة ص 19 7.نفسه 8.نفسه 9.نفسه ص 51 10.نفسه ص 51 11.نفسه ص 61 12.نفسه ص 98 13.نفسه ص 105 14.نفسه ص 108 15.نفسه ص 109 16.نفسه 17.نفسه ص 110 18.نفسه ص 126 19.نفسه ص 163 20.نفسه ص 258 21.نفسه ص 264 22.نفسه ص 279 23.نفسه ص280 24.العلق آية 1 25.الصف آية 2 26.مسلم،الزهد والرقائق/5326 27.مسلم،الحج/1355 28.مسلم،باب كراهة الإمارة بغير ضرورة 29.الحشر آية 9 30.علوم الحديث ومصطلحه،صبحي الصالح،ص 32 31.صحيح البخاري،باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش" 32.نفسه،كتاب العلم 33.فتح الباري 1/216-217 34.ابن الجوزي،الموضوعات 1/99-100 35.نفسه 36.نفسه 2/8 37.السيوطي،تدريب الراوي ص 97 38.نفسه ص 530 وما بعدها